نقش رجاء النقاش اسم محمود درويش في قلوبنا منذ تقديمه ثم من بعده زملاؤه (شهداء الأرض المحتلة) في أعقاب نكسة 1967. ولأن النقاش كان شيخا منذ طفولته فإن كلماته، كل كلماته، صارت تمائم علي صدور مريديه. وكان محمود درويش أحد أهم هذه التمائم التي حفظت شيخ النقاد ومريديه ودفعت فيهم ثم بهم كل عناصر القوة والإرادة والعزيمة والإصرار) حيث أصبحت كلماته عن فلسطين وشعرائها مؤهلات لشحن الهمم خلال سنوات الاستنزاف والاستقواء التي سبقت النصر الكبير في أكتوبر 1973 علي العدو الصهيوني. حملت قصائد شعراء الأرض المحتلة درويش وسميح القاسم وعبدالرحيم محمود وهارون هاشم رشيد وغيرهم معجم العربية في المقاومة حين حملت قضيتهم دماً غذي النفوس العربية بالرياء والشجاعة فكانت المقاومة روحاً للشعر العربي فيما تلي النكسة وحتي اليوم بل وإلي اليوم الذي ينتصر فيه العرب علي أعدائهم وتعود فلسطين دولة عربية قوية ترفرف أعلامها علي قبة الصخرة ومئذنة الأقصي.. إلي الأبد.. عاشق من فلسطين أصدر محمود درويش ديوانه الأول (عاشق من فلسطين) في اكتوبر 1968 وفيه تتجسد ملامح الشخصية الشاعرة من الوهلة الأولي.. كما تنحسر شخصية (العاشق الفلسطيني) المولود في أرض فلسطينالمحتلة 13/3/1943 في قصائد الديوان الإحدي والثلاثين من ألف الديوان إلي يائه وهي (صلاة أخيرة) وهي منتهي الديوان. انها أشجار شعرية بسقت مبكراً بما تحمله من براعة الموهبة التي يمتلكها الفلاح الفلسطيني الشاعر الشاب محمود درويش وهي الموهبة التي ستنمو مجدداً أشد قوة في دواوينه التالية «فتحت الباب والشباك في ليل الأعاصير» علي قمر تسلقّ في ليالينا وقلت لليلتي دوري وراء الليل والسور فلي وعد مع الكلمات والنور وأنت صديقتي العذراء مادامت أغانينا سيوفا حين نشرعها وأنت وفية كالقمح مادامت أغانينا سماء حين نزرعها وأنت كنخلة في الذهن ما انكسرت لعاصفة وحطاب وما خرت ضفائرها وحوش البيد والغاب وكلتي أنا المنفي خلف السور والباب خذيني أينما كنت أردّ إليّ لون الوجه والبدن وضوء القلب والعينين وملح الخبز واللحية وطعم الأرض والوطن إنه يحدث المساء ويري في ضوء القمر المتصلب كل ما هو الوطن المحتل يطلب من الليلة أن تحمله من منقاه - في لبنان - إلي ما وراء الليل حيث المستعمر والاسوار يستجيب المساء فينقله إلي الأرض المحتلة، حديقة عذراء محملة بكل البهاء الذي يملأ اللوحة الشعرية المكونة من الكلمات والنور.. هنا اجتهاد فني يعكس جهاداً نفسيا وفكريا.. يملأ روح الشاعر وهو في شبابه الغض.. كان في السادسة والعشرين وقتها يعيش منفاه المبدئي مفعماً بالحلول الوطني في حديقته العذراء.. فلسطينه الحقيقة الباقية التي لن يمحوها احتلال ولن يزيلها عدوان. يستخدم الشاعر احدي أهم آليات الكتابة المعاصرة في الشعر العربي. وهي (التدوير).. الذي يجعل النص -مهما طال - كأنه جملة واحدة.. وهذه واحدة من أهم ما قدمه محمود درويش للقصيدة المعاصرة. وظفها في معظم شعره.. حتي تجلت في أعظم هذا الشعر وأجله.. (جدارية) التي قدمت عشق الوطن في بناء ملحميّ معجز.. فهي بالرغم من طولها عن حدود ما يسمي بالقصيدة.. تعتمد علي (التدوير) فيبدو - في جملته التي تشد القلوب خاصة حين يقرؤها الشاعر - تشكيلا جماليا فذا للواقع العربي الفلسطيني كله.. ماضيا وحاضرا.. ومستقبلا بناء فنيا شامخا نصعد درجاته علي جناحي درويش القوميين (الكلمات والنور): «كلما يمحق وجهي شطر آلهتي هنالك في بلاد الأرجوان.. أضاء لي قمر تطوقه عناة عناة سيدة الكتابة في الحكاية لم تكن تبكي علي أحد ولكن من مفاتنها بكت هل كل هذا (السحر لي وحدي أما من شاعر عندي يقاسمني فراخ النخب في مجده وتبطن من سياج أنوثتي ما فاض من وردي؟ أما من شاعر يغوي حليب الليل في نهدي؟ أنا الأولي.. أنا الأخري.. وحدي زاد عن حدي.. وبعدي.. تركض الغزلان في الكلمات.. لا قبلي.. ولا بعدي.. هنا من (جدارية) درويش لوحة تشكيلية منحوتة بحذق بطولتها لغة الشعر التي هي لغة السحر.. التي يجب علي الشعراء أن يبحثوا عنها لينهلوا من صفائها ما يعطيهم الشعر الحقيقي من الشعر الزلال.. الشعر الحلال.. وهو ما عاش محمود درويش حياته حتي نهايتها مجتهدا في سبيل الوصول إلي تخومه.. وهو ما جعله - حتي وهو يتربع في سنواته الأخيرة علي أعلي قممه- يتمني المزيد من الوصول إليه.. جديدا.. جديدا.. نبرةخطابة نعود إلي حديقته العذراء التي ألقي في أرضها كل ما جمعه من بذور الانتماء الحميم للوطن الحبيب (فلسطين) منذ قصيدته الباكرة (عاشق من فلسطين). يقول درويش لها.. والضمير في شعره كله لها وحدها: »خذيني تحت عينيك.. خذيني لوحة لوزية في كوخ حسرات.. خذيني آية من سفر مأساتي.. خذيني لعبة.. حجراً من البيت.. ليذكر جيلنا الآتي.. حساربه إلي البيت.. فلسطينية العينين والوشم فلسطينية الاسم فلسطينية الاحلام والهم فلسطينية المنديل والقدمين والجسم فلسطينية الكلمات والصمت فلسطينية الصوت فلسطينية الميلاد والموت حملتك في دفاترتي القديمة نار أشعاري حملتك زاد أسفاري وباسمك صمت في الوديان! خيول الروم أعرفها وإن تبدل الميدان خذوا حذرا من البرق الذي صكته أغنيتي.. علي الصوان أنا زين الشباب وفارس الفرسان .. أنا.. ومحطم الأوثان.. حدود الشام أزرعها قصائد تطلق العقبان وباسمك صحت بالأعداء: كلي لحمي اذا ما نمت ياديدان فبيض النمل لايلد النور.. وبيضة الأفعي يخبيء قشرها ثعبان خيول الروم أعرفها وأعرف قبلها أني.. أنا زين الشباب.. وفارس الفرسان» إنه في قصيدته الباكرة (عاشق من فلسطين) يخاطب محبوبته الوحيدة.. حديقته العذراء الوحيدة.. مناديا في نبرة خطابية زاعقة يبنيها (التكرار) خديني 4 مرات، فلسسطينية 7 مرات في جمل قصيرة متتالية بلا تدوير تماما مثلما يفعل الدرويش شيخ الحلقة في حال (الحضرة الذاكرة.. إلي أن تستقر (الحال) في القلوب.. و(الحال) هنا هو حال العشق.. الالتحام.. التوحد.. الذي لابد أن يتحقق وإن طالت الحضرة.. وإن طال التهجد.. وإن بلغ (الذكر) مداه. ونلاحظ أن الشاعر في ابتهاله السحري لايصير إلي (الفانتازيات لكنه يبقي في (الواقعية السحرية) قائماً وقويا.. إنه لايطلب منها سوي حقه الواجب عليها مقابل ما منحها من واجب عليه..لقد زرع الوطن في مكانه الواقعي.. خلف السور.. حديقة عذراء غناء وهنا تتحقق اليقظة التي تميز الرؤية الشعرية لشاعرنا منذ ولد خلف هذا السور علي أرض الحديقة العذراء في 13/3/1941 وأبعد عنها مع أهله في نكبة 1948 أبعد عن أغلي وأغني بقعة في الدنيا.. قرية (البروة) التي لم تبعد عن قلبه وعن فكره لحظة من عمره التي تجاوز السابعة والستين.. حين وقع جسده إثر عملية في قلبه الكبير الذي حمل هذا الحب كله.. صبح العاشر من أغسطس 2008، ومدي هذا العمر النبيل ومحمود درويش يري الحقيقة ويعرفها ويناديها ويهتف بها في الأرجاء كافة لعل آذان المغتصبين الصماء تسمع: «وباسمك صحت في الوديان.. خيول الروم أعرفها وان يتبدل الميدان» من يومها.. منذ كان الشاعر الفلسطيني طفلا وهو يصرخ.. حتي أغنياته/ قصائده بحروفها الحادة خريطة المحبوبة (فلسطين) علي (الصوان) محذرة أوربا زارعة الشوكة الصهيونية في القلب العربي: «خذوا حذراً من البرق الذي صلته أغنيتي علي الصوان أنا زين الشباب وفارس الفرسان.. أنا.. ومحطم الأوثان، يعيدنا شاعرنا الدرويش إلي يدي العرب وإلي أول مجدهم لمؤسس دولتهم ومحطم أوثانهم زين الشباب وفارس الفرسان محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام.. يعيدنا الشاعر إلي عصر القوة ويطلب من الأعداء أن ينتظروا عودتنا الأقوي لهزيمتهم ودحرهم إلي الأبد.. ومن أجل هذا الناي يقدمه المواطن الحقيقي لوطنه يصبح لزاماً علي الوطن أن يحفظه حيا.. رائعا.. ولو في «لوحة لوزية في كوخ حسرات» أو «آية في شعر المأساة» أو «لعبة.. أو حجر من البيت». إنه يريد من الوطن أن يبادله الانتماء فيحفظه كما حفظه هو.. ونسأله: لماذا يامحمود؟ فيجيبنا عشقه الباقي: «ليذكر جيلنا الآتي مساربه إلي البيت». فارس حقيقي وهل يمكن لأمة هذا أحد فرسانها أو لشعب هذا أحد أبنائه؟! أو لوطن هذا أحد شعرائه أن يبقي مهزوماً؟! وهل يمكن لنا - نحن أبناء هذه الأمة/ الشعب/ الوطن إلا أن ننتصر؟! في (ياء) العاشق الفلسطيني.. من ديوانه الباديء.. في قصيدته (صلاة أخيرة) تنزغ الإجابة علي كل هذه الأسئلة» ... «بلادي ياطفلة عبدة تموت القيود علي رحلها لتأتي قيود جديدة.. متي نشرب الكاس نخبك حتي ولو في قصيدة؟! ففرعون مات.. وكل السبايا ببابل عادت إليها الحياة.. متي نشرب الكاس ونخبك حتي ولو في الأغاني؟ أيا مهرة يمتطيها طغاة الزمان؟! وتفلت منا.. من الزمن الأول متي يادعاء الضحي المقبل؟! دعوتي أقبلها.. دعوني.. دعوني.. أصلي لها.. هذه المهرة الجامحة.. فقد كسرت ظهر جدي ورحل أبي.. هذه المهرة الجامحة.. دعوني أقبلها.. دعوني أدللها.. فلم تفق عندي سوي نغمة نائحة دعوني أودعها هذه الجارحة دعوني أقبلها قطعة.. قطعة دعوني أوشوشها.. كلمة.. كلمة.. لجامك هذا دمي.. إلي أين أنت إذا رائحة؟ أنا قد وصلت إلي حفرة.. وأنت.. أماما.. أماما.. إلي أين يامهرتي الجامحة؟!» إذا كان هذا المالك الحقيقي.. المحب الحقيقي.. الفارس الحقيقي لهذه المهرة القوية الأبية الجموح.. التي تكالبت عليها أفاعي العصر تمكنت منها بغاثة اسمها (اسرائيل) فاعتلتها ظانة أنها أصبحت فارسها الذي يغنيها عن رجلها الحقيقي/ شعبها الحقيقي الذي أوقعوه عن صهوتها قهراً وقسراً لكنه رغم وقوعها سيبقي ساعيا لاستعادتها: «أنا قد وصلت إلي حفرة.. وأنت أماما أماما.. إلي أين يامهرتي الجامحة؟! لم يبق لي.. أو لغيري قول.. لكنني من قبل أن أغادر - أسألكم هل مات محمود درويش حقا؟! أفأجيبكم: وهل يمكن لمثله أن يموت؟!