"الشناوي قد يلحق بمباراة الاتحاد".. يلا كورة يكشف حالة المصابين في الأهلي    الجمعة العظيمة: محاكمة وصلب المسيح وختام أسبوع الآلام    وكيل أوقاف الشرقية في خطبة الجمعة: الأوطان تبنى بيد الشرفاء والمخلصين    إعلان الفائزين بالمؤتمر السنوي العلمي الرابع للدراسات العليا بهندسة القناة (صور)    جولد بيليون: البنوك المركزية العالمية تشتري 16 طن ذهب خلال مارس2024.. تفاصيل    الكرتونة ب 80 جنيها، مبادرة جديدة في الشرقية لتخفيض أسعار البيض (فيديو وصور)    الإسكان تطرح أراضى للتخصيص الفوري بالصعيد، تفاصيل    القصير يبحث آفاق التعاون المصري القطري في الزراعة والأمن الغذائي    الشرقية تسترد 7 أفدنة و2317 مترًا من أملاك الدولة والزراعات    نائب وزير التخطيط يفتتح أعمال الدورة الثالثة للجنة تمويل التنمية في الدول الأعضاء بالإسكوا    الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعلن اعتراض طائرة مسيرة أطلقت من لبنان    30 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى    سموتريتش: "حماس" تبحث عن اتفاق دفاعي مع أمريكا    السفيرة مشيرة خطاب تشيد بقرار النائب العام بإنشاء مكتب لحماية المسنين    متسابقون من 13 دولة.. وزير الرياضة يطلق شارة بدء ماراثون دهب الرياضي للجري    وحدات سكنية وهمية.. ضبط سيدة استولت على أموال المواطنين ببني سويف    ضبط 299 قضية مخدرات وتنفيذ 63 ألف حكم قضائى خلال 24 ساعة    ب«تفعيل الطوارئ».. «الصحة» بالقليوبية: عيادات متنقلة بمحيط الكنائس خلال احتفالات عيد القيامة    إصابة 6 سيدات في حادث انقلاب "تروسيكل" بالطريق الزراعي ب بني سويف    الثانوية العامة 2024| مواصفات أسئلة الامتحانات    مركز السينما العربية ينظم 5 فعاليات مهمة في مهرجان كان    تعرف على إيرادات فيلم السرب في السينمات خلال 24 ساعة    شاهد.. جدار تعريفى بالمحطات الرئيسة للحج بمعرض أبو ظبى للكتاب    في الذكري السنوية.. قصة الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة    فريدة سيف النصر تكشف سبب تسمية سمير غانم لها ب "فريدة سيف الرقص"    دعاء الهداية للصلاة والثبات.. ردده الآن تهزم شيطانك ولن تتركها أبداً    صور الأمانة في المجتمع المسلم.. خطيب الأوقاف يكشفها    ماذا قدمت الصحة المصرية للمصابين الفلسطينيين؟.. علاج 13 ألف من أشقائنا في غزة بالمستشفيات المصرية.. وتقديم 11 ألف جلسة دعم نفسي    أستاذ أمراض القلب: الاكتشاف المبكر لضعف عضلة القلب يسهل العلاج    الصحة: تقديم 10 آلاف و628 جلسة دعم نفسي ل927 مصابا فلسطينيا منذ بداية الحرب    التضامن تكرم إياد نصار عن مسلسل صلة رحم    فرص عمل في 55 شركة.. شروط شغل الوظائف في القطاع الخاص براتب 6000 جنيه    علام يكشف الخطوة المقبلة في أزمة الشحات والشيبي.. موقف شرط فيتوريا الجزائي وهل يترشح للانتخابات مجددا؟    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    تركيا: تعليق التجارة مع الاحتلال حتى وقف إطلاق نار دائم في غزة    توريد 107 آلاف و849 طن قمح لصوامع وشون كفر الشيخ    نقيب المهندسين: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف طمس الهوية والذاكرة الفلسطينية في    برشلونة يستهدف التعاقد مع الجوهرة الإفريقية    صحف إيطاليا تبرز قتل ذئاب روما على يد ليفركوزن    رئيس البرلمان العربي: الصحافة لعبت دورا مهما في كشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    البنتاجون: نراقب الروس الموجودين في قاعدة يتواجد فيها الجيش الأمريكي في النيجر    قصور الثقافة: إقبال كبير على فيلم السرب في سينما الشعب.. ونشكر «المتحدة»    أيمن سلامة ل«الشاهد»: مرافعة مصر أمام العدل الدولية دحضت كافة الأكاذيب الإسرائيلية    الوزراء: 2679 شكوى من التلاعب في وزن الخبز وتفعيل 3129 كارت تكافل وكرامة    "مضوني وسرقوا العربية".. تفاصيل اختطاف شاب في القاهرة    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    أسعار الفراخ اليوم الجمعة 3-5- 2024 بعد انخفاض الكيلو في بورصة الدواجن    مصر أكتوبر: اتحاد القبائل العربية يعمل على تعزيز أمن واستقرار سيناء    واعظ بالأزهر ل«صباح الخير يا مصر»: علينا استلهام قيم التربية لأطفالنا من السيرة النبوية    وزير التنمية المحلية يهنئ محافظ الإسماعيلية بعيد القيامة المجيد    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    عبد المنصف: "نجاح خالد بيبو جزء منه بسبب مباراة ال6-1"    هل مسموح للأطفال تناول الرنجة والفسيخ؟ استشاري تغذية علاجية تجيب    تشكيل الهلال المتوقع أمام التعاون| ميتروفيتش يقود الهجوم    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدد المرات.. اعرف التصرف الشرعي    الناس لا تجتمع على أحد.. أول تعليق من حسام موافي بعد واقعة تقبيل يد محمد أبو العينين    «تحويشة عمري».. زوج عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف في ترعة ينعيها بكلمات مؤثرة (صورة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وقال الفيلسوف زگي نجيب محمود:
خرافة الماضي.. خرافة الحاضر
نشر في أخبار الأدب يوم 06 - 10 - 2012

كيف السبيل إلي ثقافة نعيشها اليوم بحيث تجتمع فيها ثقافتنا الموروثة مع ثقافة هذا العصر الذي نحياه؟
السؤال قديم. انشغل به الكثير من مفكرينا، ووضع بعضهم شروطا لهذا التجاور حتي لا يكون تجاورا بين متنافرين، بل تضافر تنسج فيه خيوط الموروث مع خيوط العصر. وكان أبرز مفكرينا المهمومين بإيجاد إجابة علي السؤال الشائك: الدكتور زكي نجيب محمود وتحديدا في كتابه " تجديد الفكر العربي"..وفي كتابه الهام" المعقول واللامعقول"..
والدكتور زكي نجيب محمود (1905 3991) يلقب بأديب الفلاسفة لاشتغاله بالأدب والفلسفة في نفس الوقت، ورائد التيار العلمي في النهضة العربية في القرن العشرين. وقد مرت حياته الفكرية بمراحل ثلاث، انشغل في الأولي التي امتدت حتي سفره إلي أوروبا بنقد الحياة الاجتماعية في مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التي تعبر عن الجانب التنويري، ويتمثل هذا النشاط في الكتب الثلاثة التي اشترك في تأليفها مع أحمد أمين والتي أشرنا إليها من قبل. وبدأت المرحلة الثانية بعد رجوعه من أوربا وامتدت حتي الستينيات من القرن العشرين، وفي هذه الفترة دعا زكي نجيب إلي تغيير سلم القيم إلي النمط الأوروبي، والأخذ بحضارة الغرب وتمثلها بكل ما فيها باعتبارها حضارة العصر، ولاشتمالها علي جوانب إيجابية في مجال العلوم التجريبية والرياضية، ولها تقاليد في تقدير العلم وفي الجدية في العمل واحترام إنسانية الإنسان، وهي قيم مفتقدة في العالم العربي. وفي هذه الفترة دعا إلي الفلسفة الوضعية المنطقية ونذر نفسه لشرحها وتبسيطها، وهي فلسفة تدعو إلي سيادة منطق العقل، وإلي رفض التراث العربي وعدم الاعتداد به. وعبرت كتبه التي ألفها في هذه الفترة عن هذا الاتجاه مثل الفلسفة الوضعية وخرافة الميتافيزيقا. أما المرحلة الثالثة فقد شهدت عودته إلي التراث العربي قارئا ومنقبا عن الأفكار الجديدة فيه، وباحثا عن سمات الهوية العربية التي تجمع بين الشرق والغرب وبين الحدس والعقل وبين الروح والمادة وبين القيم والعلم. وفي هذه المرحلة دعا إلي فلسفة جديدة برؤية عربية تبدأ من الجذور ولا تكتفي بها، ونادي بتجديد الفكر العربي، والاستفادة من تراثه، وقال: إن ترك التراث كله هو انتحار حضاري؛ لأن التراث به لغتنا وآدابنا وقيمنا وجهود علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا، وكان يتمني ألا نعيش عالة علي غيرنا. ودعا زكي نجيب محمود إلي الاعتزاز بالأسلاف، مؤكدا علي وأن الأمر لا يقتصر علي فقهاء الدين، بل يجب أن نضيف إليهم الأسماء اللامعة لعلماء الرياضة والطب والكيمياء والفلك والمؤرخين والرحالة والشعراء والفلاسفة، فهؤلاء جميعا وجهوا جهودهم نحو الكون يقرأون ظواهره ويستخرجون قوانينه، ثم أصابنا الجمود منذ القرن الخامس عشر الميلادي. ومنذ ذلك الحين ونحن نعيش في ثقافة الخرافة..والجن والعفاريت. هل يستمر الوضع طويلا هكذا أم نجتاز قرون الخرافة تلك؟
هذا ما يحاول فيلسوفنا أن يجيب عليه هذا الفصل المهم في كتابه " المعقول واللامعقول".
والذي ننشر مقاطع منه.
لعل قمة اللامعقول في حياة الإنسان العملية - والعلمية الزائفة كذلك - هي أن يدخل السحر عاملاً من عوامل المسير والمصير، إذ ما السحر إن لم يكن هو تعليل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية؟ فإذا كانت علة المطر الطبيعية - مثلا- هي مقدار ما يتكثف في الهواء من بخار الماء، جعلها الساحر ورقة يكتب عليها أحرفاً يختارها أو عبارات، يزعم لها القدرة علي إنزال المطر، وإذا كانت علة الشفاء من مرض معين هو أن تزال الجراثيم التي تحدثه، كانت هذه العلة عند الساحر عفريتا سكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوال تقال وبخور يمطر جو المكان ويظهره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس، وهكذا.
ولئن كانت هذه الصور الصارخة من أشكال السحر أمراً يألفه الناس في حياتهم العملية علي أنه سحر علني مكشوف، فهنالك ضروب أخري منه خافية إلا عن أعين الخبراء، كأن يحاول شعب أن يتغلب علي عدوه في ساحة القتال بدعوات يوجهها إلي السماء، في حين لاتكون الغلبة إلا بطائرات ودبابات يحسن إدارتها وتوجيهها، أو أن يرقب شعب ازدهار معيشته ببركات الأولياء، سواء أحكمت خطط الإنتاج الاقتصادي أو تركت سبهللا في أيدي السفهاء.. هذه وأمثالها تندرج تحت مقولة «السحر» لأنها جميعا ربط غير علمي بين المعلول وعلته.
ولقد تجد في تراثنا القديم أحاديث عن السحر والتنجيم والتعزيم والرقي والتمائم وسائر أعضاء هذه الأسرة غير الكريمة من أدوات الجهل، ألوف الصفحات مبعثرة هنا وهناك في أنفس ما خلفه الآباء من ميراث ثقافي، ولم تكن أمثال هذه الأحاديث لتشغلنا بخطرها وخطورتها، لو لم نجدها واردة في أماكنها من الكتب مسوقة علي نحو يشعر القاريء بأنها أمور لاتحتمل الجدل، فتري الكاتب - وقد يكون من جهابذة الاعلام المفكرين - تراه يحدثك عن التأثيرات السحرية بكل أنواعها وكأنه يحدثك عن طلوع الشمس وجريان النهر واخضرار الزرع، فهي عنده أمور تجري مجري الطبيعة المألوفة في اطرادها، وربما كان لهؤلاء الآباء أعذارهم في ذلك إذا نسينا الأمر إلي مرحلتهم التاريخية والحضارية، ولكن كارثة الكوارث التي تكرثنا اليوم - نحن «المعاصرين» - اننا مازلنا نقرأ هذه الأشياء، بل وندخل بعضها في شئون حياتنا العملية والعلمية، بروح من لايجد فيها غضاضة ولا داعياً للشك والتردد، ثم تعظم المصيبة حين ندرجها تحت مقولة «الايمان» ونصب الويل علي من تحدثه نفسه بمجرد المراجعة الفاحصة.
وليس بذي نفع كثير أن نتقصي الأمثلة من تراثنا علي نحو يشبه الحصر والشمول، بل ليس ذلك في مقدورنا حتي لو أردناه، لأنك إنما تسلح نفسك بالشواهد الكثيرة لو كنت تعلم أنك ستواجه من يعارضك في زعمك، بيد أن الأمر هنا معكوس، فالأرجح جداً ألا يطالع هذه الأسطر قاريء إلا وهو ذو عقيدة سابقة بحقيقة السحر وبقية أفراد أسرته من تنجيم وتعزيم الخ، وإنما الغضبة منصبة علي كاتب هذه الأسطر لاجترائه علي التشكك في مسلمات كهذه، والدعوة إلي تنحيتها فيما ينبغي أن ننحيه من تراثنا، وإذن ففيم كثرة الشواهد علي موقف مسلم به ولا يطلب له شهادة إثبات؟
ومع ذلك فيكفينا في هذا السياق مثل واحد أو مثلان، نأخذ أولهما من رسائل إخوان الصفا، وما ادراك ما إخوان الصفا؟ هم ذروة المثقفين في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) والذي هو بدوره ذروة ما صعد إليه الفكر العربي القديم، فإذا وجدنا صفوة الصفوة هؤلاء، برغم نزوعهم القوي نحو التفكير العلمي ما وسعهم ذلك، يختمون رسائلهم برسالة يخصصونها «لماهية السحر والعزائم والعين، لا ليحيطوا الموضوع بما يثير الريبة، بل ليحيطوه بما يؤيد كل ما يقال عنه من قوة وتأثير، أقول إذا وجدنا تلك الصفوة الممتازة من المثقفين تقف هذه الوقفة من موضوع السحر وفروعه، علمنا أن المسألة لم تكن عند القوم موضعاً لسؤال، وهذا هو مصدر خوفنا من هذا الجانب من التراث الفكري المأثور عن أسلافنا.
يبدأ إخوان الصفا هذه الرسالة الثانية والخمسين من رسائلهم، وهي الأخيرة، بقولهم إنهم رتبوا «فنون العلم وغرائب الحكمة» في الرسائل السابقة (ويلفت نظرنا أنهم يجعلون هذه الرسائل السابقة خمسين، مع أننا أمام الرسالة «الثانية والخمسين») بحسب ما تقتضيه درجات المتعلمين ومراتب الطالبين المستفيدين» وهم يتوقعون من أنصارهم أن يعرضوا علي الناس موضوعات تلك الرسائل بحسب ترتيبها الذي وردت فيه، لأن كل خطوة تالية علي الطريق تتطلب عقلاً أكثر نضجاً من الخطوة التي سبقتها، ولما كانت رسالة «السحر والعزائم والعين» هي آخر الطريق، وجب الا تعرض إلا علي من ارتقوا بعقولهم ونفوسهم درجات الصعود إلي الكمال درجة درجة ومرتبة مرتبة!
«وهذه الرسالة هي آخر الرسائل»- هكذا يقولون - «نريد أن نذكر فيها ماهية السحر وكيفية عمل الطلمسات، وأنها كأحد العلوم والمعارف المتعارفة، وكبعض الحكم المستعملة، ونستشهد عليها بما سمعناه من العلماء وعرفناه من كتب القدماء الذين كانوا فيما مضي قبلنا» - وليلحظ القاريء هنا أنهم يشيرون إلي السحر وتفريعاته علي أنها «علوم» من جهة، و «حكم مستعملة» من جهة أخري، أي أنها أمور تدخل في الحياة العلمية وفي الحياة العملية علي حد سواء، ثم ليلحظ مرة أخري أن الشاهد علي صدقها - في رأيهم - أنهم «سمعوها من العلماء» و «عرفوها من كتب القدماء»، أي أن أحداً منهم لم «يجربها» تجربة مباشرة! وما زلتا إلي يوم الناس هذا، وهو اليوم الذي أكتب فيه هذا السطر من هذا الكتاب، يوم السبت السابع عشر من شهر مارس سنة 1973، أقول إننا مازلنا إلي يوم الناس هذا نسمع من كل من يحيط بنا توكيدات مرتعشة لحقيقة السحر وأفراد أسرته، حتي إذا ما سألت أيا منهم، هل رأيت؟ أجابك بل سمعت!
هذه هي حالنا نحن اليوم، العلماء منا وغير العلماء، أفليس من حقنا - إذن - أن نعجب لقول إخوان الصفا: «.. رأينا اليوم أكثر الناس المتغافلين إذا سمعوا بذكر السحر، يستحيل [علي] واحد منهم أن يصدق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن ينظر فيها أو يتأدب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالمون والأحداث من حكماء دهرنا، المتخلفين والمدعين بأنهم من خواص الناس المتميزين»... وإننا إذا اعتمدنا علي هذا القول من إخوان الصفا، وجعلناه تصويراً للحياة العلمية في عصرهم، أخذنا العجب حقاً، فمؤداه - كما تري - أن هؤلاء الإخوان (والحظ جيداً أنهم من خاصة المثقفين في أزهي عصور الفكر العربي) يميزون بين «العلماء» و «المتعالمين»، والآخرون وحدهم - أي المتعالمين دون العلماء - هم الذين يتنكرون للسحر وينكرونه، وأما «العلماء» - من أمثالهم هم - فيقبلونه حقيقة علمية! ولماذا يتنكر «المتعالمون» للسحر والتنجيم، علي حين يقبلهما العلماء؟ يجيب إخوان الصفا عن ذلك بقولهم: « وذلك لأنهم لما رأوا بعض المتعاملين بهذا العلم، والخائضين في طلبه من غير معرفة له، إما أبله قليل العقل، أو امرأة رعناء، أو عجوزاً خرقة بلهاء، فرفعوا أنفسهم عن مشاركة من هذه حاله - إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات - أنفة منهم، لئلا ينسبوا إلي الجهل وإلي التصديق بالكذب والخرافات»... فإذا نهض بخواطرنا سؤال: كيف - إذن - يؤمن علماؤهم الأصحاء بما يؤمن به أولئك البلهاء المخرفون، مع أن «المتعالمين» قد أنفوا من ذلك؟ أجابنا إخوان الصفا بأن البلهاء والمخرفين إنما يطلبون هذا العلم (المقصود هو «علم» السحر والتنجيم» لاغراض لهم سخيفة دنيئة من غير معرفة...) وما علموا أنه آخر ما يرقي إليه طالب الحكمة، لأنه يتضمن معرفة علمية سابقة بثلاثة أشياء،هي: الكواكب والأفلاك، والبروج.
والذي نريد إثباته هوأن اليوم شبيه بالبارحة، مما قد يدل علي أن تراثنا قد
سري في عروقنا أكثر مما كان ينبغي له أن يفعل لو وجد الموانع والضوابط، فما زلنا إلي اليوم نستنكر من ينكر أن يكون السحر وأتباعه من «العلوم»
كما كان أسلافنا يستنكرون، ثم مازلنا اليوم كما كانوا بالأمس لانجد غضاضة في أن ندرج أفعال السحر فيما يجوز للعقل أن يقبله، ولو شربنا من ثقافة عصرنا العلمية، بمنهجها التجريبي الصارم، لوجب أن نعكس الوضع، فمن عدهم إخوان الصفا «متعالمين» لإنكارهم أن يكون هذا التخريف جزءا من العلم، عددناهم نحن «العلماء» بالمعني الصحيح لهذه الكلمة، ومن عدوهم «علماء» لقولهم ما »سمعوه« عن الأقدمين وما «قرأوه» في الكتب الغابرة، أخرجناهم نحن من عداد العلماء والمتعالمين، لأنهم عندئذ إنما يسلكون في زمرة البلهاء الخرفين الذين أشار إليهم »الإخوان« منذ حين.
وبعدئذ يأخذ إخوان الصفا في حديث طويل يزيد علي ثمانين صفحة، عن الموضوع بما يظنونه «علما»، وليس في وسعنا هنا أكثر من أن نسوق قبسات من أقوالهم «العلمية» هذه، ليري القاريء معي كيف أننا بازاء كتلة ضخمة من «اللامعقول» الذي ينبغي ألا ندخر جهدا في تنقية عصرنا من آثاره وشوائبه.. بعد أن يذكروا لنا كم هنالك من الكواكب وكم من الافلاك والبروج، يقولون إنه ثمة سواها أشياء، «منها العقدتان اللتان تسمي أحداهما الرأس والأخري الذنب، فالرأس يدل علي السعود، والذنب يدل علي النحوس، وليسا هما كوكبين ولا جسمين ظاهرين، ولكنهما أمران خفيان، فخفاء ذاتيهما وظهور أفعالهما يدل علي أن في العالم نفوسا خفية عن الحس، أفعالها ظاهرة وذاتها خفية، يسمون الروحانيين..
وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين، ويعرف ذلك أصحاب العلوم والسحر والطلسمات... (الرسائل، ج4، ص 285).
«واعلم ياأخي أن الكواكب ملائكة الله وملوك سمواته، خلقهم لعمارة عالمه، وتدبير خلائقه، وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أرضه، يسوسون عباده، ويحفظون شرائع أنبيائه، بإنفاذ أحكامه علي عباده، لصلاحهم وحفظ نظامهم علي أحسن الحالات.
«واعلم ياأخي - أيدك الله - أنه لايكاد يعرف كيفيات تأثيرات هذه المواكب وأفعالها في جميع ما في هذا العالم من الأجسام والأرواح والنفوس إلا الراسخون في العلم، البالغون في المعارف، والناظرون في العلوم الالهية، المؤيدون بتأييد الله وإلهامه لهم » (ص285)
تلك هي النغمة التي كتب بها «الإخوان» عن السحر وماهو إلي السحر بسبيل، وهم يستنكرون كل من ينكر حقيقته عن نية صادقة أو عن كذب وادعاء، استنادا إلي أنه كان موضع القبول من فلاسفة أقدمين من أصحاب المكانات العالية كأفلاطون.
وبالطبع لم يفت «الإخوان» أن يستشهدوا علي حقيقة السحر وقوة فعله بماقد أوردوه من آيات قرآنية كثيرة، لو قرئت من السطح ظن قارئها أنها حجة لهم، وربما كان لها من التأويل مايخرج منها المعني الصحيح الذي يتفق مع نظرة العقل في فهم الأحداث وتعليلها، ثم عقبوا علي شواهد القرآن بأخري من التوراة «مما يعتبره ويقر بصحته أمتان من الأمم، وهما اليهود والنصاري جميعا، والتوراة موجودة بأيدي اليهود والنصاري باللغة العبرانية وباللغة السريانية، وباللغة العربية، لا خلاف بينهم فيها» ( ص291)، وكذلك وردت الشواهد علي صدق السحرة في دعواهم «في كتب أخبار ملوك بني اسرائيل التي تجري عند اليهود مجري التوراة..» (ص293) وهكذا تعددت المصادر التي تزيد فعل السحر والسحرة.
»فمنها ماهو من جهة الفلاسفة، ومنها ماهو من جهة الأنبياء وكتب الشرائع، ومنها ماهو مذكور في القرآن» (ص294)، أفتري هذا كله كذبا لاأصل له، وسخفا وحماقة ممن يذكره عند هؤلاء المتعجبين المنكرين بأنفسهم المكذبين بما يسمونه بجهلهم، تكبرا منهم وتيها وصلفا، لقلة عقولهم وقصر علومهم وقصورهم عن نيل العلوم الحقيقية، فيجدون الإنكار والتكذيب أخف عليهم (ص 294 - 95).
إن همنا في هذه الصفحات هو أن نبين القاريء كيف غلب «اللاعقل» علي أسلافنا في بعض المواقف، مما يستوجب انصرافنا عن تراثهم في هذا الجانب اللاعقلي، ومهما يكن من أمر السحر علي حقيقته، فها أنت ذا تري إخوان الصفا يركنون - في تأييدهم لصدق تأثيره - أول مايركنون وآخر مايركنون علي ما«سمعوه» من اخبار الأولين، وما «نقلوه» عن أسفار الأقدمين، والعجب بعد ذلك أن تراهم ينعتون المنكرين "بقلة العقل" في الوقت الذي نري هؤلاء المنكرين لايعتمدون إلا علي منطق العقل وحده، وأما « الإخوان» فيأخذون مايأخذونه في هذا الباب سمعا ونقلا، ولا «عقل» هناك.
ولعل المؤلفين لتلك الرسائل قد أحسوا بضرورة التحديد للمعني المقصود بكلمة «سحر» بعد أن أفاضوا القول فيه، وقبل أن يمضوا في حديث مطول عن طرائق فعله وتأثيره، فقالوا: «إن السحر ينصرف في اللغة العربية علي معان كثيرة، قد ذكرها أصحاب اللغة العارفون بها وأصحاب التفسير لها، ونريد أن نذكر منها مايليق بكتابنا هذا ليكون دليلا علي مانورده من القول في هذا الفن، فمن ذلك أن السحر في اللغة العربية هوالبيان والكشف عن حقيقة الشيء. ومنه الاخبار بما يكون قبل كونه، والاستدلال بعلم النجوم وموجبات أحكام الفلك، وكذلك الكهانة والزجر والفأل، فإن كل ذلك إنما يوصل إليه ويقدر عليه بعلم النجوم وموجبات الأحكام الفلكية والقضايا السماوية، وهوينقسم أقساما كثيرة ويتنوع أنواعا شتي. منه سحر عملي ومنه سحر علمي، ومنه حق ومنه باطل، ومنه مارميت به الأنبياء ووسمت به الحكماء، ومنه مايختص بعلمه النساء.... (ص 312 - 313) ح- وإنه ليكفينا أن تكون لكلمة «سحر» كل هذه المعاني، لنقول إنه لايجوز لكاتب أن يحتج له بآيات قرآنية أو بمأثورات من أقوال الأقدمين، قبل أن نعرف أولا لأي معني من هذه المعاني تكون الحجة.
-70-
أولئك هم إخوان الصفا، المثقفون العلماء! فماذا نتوقع من طراز المثقفين الذين يبدءون برفض العلم أساساً وبالتنكر للعقل معياراً؟ ولنأخذ الغزالي نموذجاً لهذا الطراز، فهو يناصر اللاعقل مناصرة حارة، ويعجب ممن يركنون إلي »العقل« برغم ما يتعرض له هذا العقل من زلل؟ والأعجب هو أن الغزالي إذ يؤدي اللاعقل ويناصره، فإنما يفعل ذلك بما يشبه مناهج العقل المنطقي الذي يتنكر له ويهاجمه!
جاء قبيل خاتمة كتابه »المنقذ من الضلال« ما يلي:
»الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء العقل، تتفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة، والعقل معزول عنها، كعزل السمع عن إدراك الألوان، والبصر عن إدراك الأصوات، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات«.
ويعلق الغزالي بعد ذلك بقوله إن القاريء أمام هذا الذي نقرره من عجز العقل عن رؤية هذ المدركات، إما أن يكون رافضاً وإما أن يكون متفقاً معنا، فإذا كان من الرافضين »فقد أقمنا البرهان علي إمكانه بل علي وجوده«!! ويريد الغزالي بذلك أنه قد أقام »البرهان« في صفحات كتابه السابقة علي ورود هذه العبارة، أفلا يكفي أن يكون قد لجأ إلي »برهان« - والبرهان لا يكون إلا عملية عقلية - ليتبدي ما في كلامه من تناقض؟! أيمكن »للعقل« أن يثبت عجزه في ميادين هي بحكم الفرض لا ينفذ إليها عقل؟ أيمكن للأنف أن يحكم علي روائح تستعصي علي شمه وللبصر أن يصف ألوانا تستحيل علي رؤيته؟ إن »البرهان« إنما يكون علي نتيجة نزعم لها أنها جاءت عن عملية »عقلية«، وأما ما سوي ذلك فلا »برهان« عليه، وقصاري ما نستطيعه إزاءه هو أن »نؤمن« به أو لا نؤمن، نميل إليه أو لا نميل، نحبه أو لا نحبه.
وأما القاريء المصدق لما زعمه الغزالي في عبارته السالفة، »فقد أثبت أن ها هنا أموراً تسمي خواصا (هل يجوز التنوين في كلمة »خواص« ، لكن هكذا وردت) لا يدور تصرف العقل حواليها أصلاً، بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها«.
ولينظر القاريء معي في كيفية إثبات الغزالي لوجود بعض الخواص التي يقضي العقل باستحالة أن تفعل فعلها الذي عرفناه لها، يقول:
»فإن وزن دانق من الأفيون سم قاتل، لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته، والذي يدعي علم الطبيعة يزعم أن ما يبرد من المركبات إنما يبرد بعنصري الماء والتراب، فهما العنصران الباردان، ومعلوم أن أرطالاً من الماء والتراب لا يبلغ تبريدهم (هل نشير إلي أرطال الماء والتراب بالضمير »هم« لكن هكذا وردت) في الباطن إلي هذا الحد، فلو أخبر طبيعي بهذا (أي بأن وزن دانق من الأفيون يجمد العروق لفرط برودته).
ولم يجربه، لقال: »هذا محال، والدليل علي استحالته أن فيه نارية وهوائية، والهوائية والنارية لا تزيد بها برودة....«
يزعم الغزالي بهذا ما يدعيه بعد ذلك مباشرة من أن »أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني علي هذا الجنس، فإنهم تصوروا الأمور علي قدر ما وجدوه وعقلوه، وما لم يألفوه قدروا استحالته«.
أود هنا أن أعيد القضية التي يعرضها الغزالي في الأسطر السابقة، علي مسمع القاريء بعبارتي، ليعجب عجبي من موقفه، فهو يقول إن العقل لا يستطيع إدراك كل شيء، وإن ما لا يدركه، يظن أنه محال الحدوث، وبرهان ذلك أنك لو قلت له إن وزن دانق من الأفيون يجمد الدم في العروق لفرط برودته، لما صدق لأن الأفيون مركب من نار وهواء، وهذان حاران لا تنتج عنهما برودة!!.. ونحن نسأل الغزالي: من ذا الذي قال إذن إن الأفيون يجمد الدم لبرودته؟ أليست هي تجربة الناس بما شاهدوه؟ وهل تقع هذه التجربة في قائمة الالهامات الروحانية التي تستعصي علي العقل، أو هي من صميم عمل العقل عندما يستخرج قوانين الأشياء؟ إننا بالطبع لا ننقد الغزالي من حيث هو يقيم الحجة علي خصائص الماء والهواء والتراب والنار، فتلك كانت ثقافة عصره ولا يلام عليها، ولكننا ننكر علي أي قاريء معاصر لنا يساير الغزالي في حديث كهذا يسقط كله - بخطئه وصوابه - بسقوط الأساس الذي ينبني عليه في تحليل الطبيعة إلي عناصر أربعة كما كان الأمر عند القدماء.
وهل صحيح أن »أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني علي هذا الجنس؟« أعني أن أكثر براهينهم كان قائما علي أساس أن ما لم يألفوه في تجاربهم عدوه مستحيلا؟لست أظن أن ذلك حكم ينصف تلك الطائفة من قادة الفكر.
علي أي حال، لماذا يقول الغزالي هذا؟ إلي أي شيء يمهد بهذه المقدمة؟ إن مرماه هو أن ينتهي إلي نتيجة يريدها، وهي أن من ينكر قدرة الإنسان علي الخوارق بقواه الروحانية، فإنما يبني انكاره علي عدم إلفه لها في خبرته، يقول: »ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة، وادعي مدع أنه عند ركود الحواس يعلم الغيب، لأنكره المتصوف بمثل هذه العقول«.
ويعود الغزالي مرة أخري فيسوق مثلاً محسوساً، مما يقول عنه الذين لم يروه أنه مستحيل، مع أنه يحدث فعلا، والمثل هنا هذه المرة أعجب من مثل دانق الأفيون في المثل السابق، وهذه هي عبارته: »ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء هو بمقدار حبة يوضع في بلدة ليأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه، فلا يبقي شيء من البلدة وما فيها، ولا يبقي هو في نفسه؟ لقال: هذا محال وهو من جملة الخرافات، وهذه حالة النار، ينكرها من لم ير النار، إذ سمعها - فأولا: إن ما يأكل البلدة ليست هي شرارة النار التي هي »بمقدار حبة« علي حد تعبير الغزالي، وإنما الذي يأكل البلدة هو أن كل ما فيها يشتعل ويتحول من صورة مادية إلي صورة أخري، فحجم النار التي تأكل البلدة هو مساو لحجم البلدة نفسها، وثانيا - لماذا تقول: »شيء هو بمقدار حبة« لتضفي علي الكلام صورة الأحاجي والألغاز؟ لماذا لا تقول: »شرارة نار« ثم تلحق ذلك بوصف علمي موضوعي تحليلي لطبيعة النار؟ فعندئذ لو كان السامع ممن يدركون اللغة العلمية التحليلية لطبائع الأشياء، لما أنكر ذلك حتي ولو لم ير النار من قبل، وثالثاً - أإذا أنكرت إمكان شيء لكونه لم يقع لي في خبرتي السابقة، كان ذلك دليلاً علي صدق الزعم بأن فعل الخوارق ممكن للإنسان إذا استعان بوسيلة غير وسيلة العقل؟ أم الأقرب إلي الصواب أن يكون دليلاً علي أن المنكر لم يستخدم عقله علي نحو ما يريده العلم أن يستخدمه؟
ولقد أذهلني أن أجد الغزالي يعقب علي مثل النار التي تأكل البلدة وتأكل نفسها، بقوله: و»أكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل؟« سألت نفسي دهشاً: أي قبيل؟! كم صادف الغزالي في حياته من الناس الذين إذا قيل لهم إن جذوة النار تلقي علي الشيء القابل للاحتراق فيحترق، تعجبوا وأحسوا في بواطنهم برفض عقلي لما يسمعون؟ أيكون هذا - في رأي الغزالي - علي نفس المستوي مع قول ينبئنا بأن صوراً ينفخ فيه يوم القيامة فتعاد إلي الحياة ملايين الملايين من بشر ماتوا بكل صور الموت وفي كل أصقاع الأرض وأرجاء السماء؟ هل يري الغزالي أن القلق العقلي في قبول الخبر هنا كالقلق العقلي في قبول خبر الجذوة المشتعلة التي تحرق قطعة الخشب أو الورق؟ أليس يري بين الحالتين بعداً شاسعاً، هو نفسه البعد بين ما يقبله العقل مستنداً إلي شواهد الحواس، وبين ما يستحيل علي »العقل« أن يقبله فيحيله إلي الإيمان؟
يستأنف الغزالي حديثه فيقول: »نقول للطبيعي: قد اضطررت إلي أن تقول في الأفيون خاصية في التبريد ليس علي قياس المعقول في الطبيعة، فلم لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص في مداواة القلوب وتصفيتها ما لا يدرك بالحكمة العقلية، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة«؟
اللهم اهدني إلي رؤية الحق إذا كنت قد ضللت إلي هذا المدي! ذلك أن العجب يشتد في كلما أمعنت في قراءة النص الغزالي الذي أنقله هنا إلي القاريء جزءاً جزءاً، فالغزالي بلاشك ثاقب النظرة قادر علي التحليل قدرة ندر أن رأيت مثلها في مفكر آخر، وهو فوق هذا مؤلف في المنطق حتي كاد المنطق أن يستوعب كل ما كتب إذا استثنينا ما كتبه في الفقه والتصوف، ولكني مع علمي بهذا كله أقرأ هذا الذي يقوله ليثبت به عجز العقل عن رؤية الحقائق، مما يحتاج بالضرورة إلي قوة يستمدها الإنسان من عالم ما فوق العقول، أقول إني أقرأ له هذا الذي يقوله فيشتد عجبي لما ينطوي عليه من تهافت منطقي عجيب! أنظر إلي الأسطر القليلة السالف ذكرها، تجده يعقد الموازنة بين خاصية الأفيون في تبريد الجسم وبين خواص الأوضاع الشرعية في مداواة القلوب وتصفيتها!! يعقد هذه الموازنة بين الجانبين ليراهما متشابهين في كونهما معا مما تعجز العقول عن إدراكه، بالتالي لا يكون ثمة من مناص للإنسان إلا أن ينتظر ما يشبه الوحي النبوي لإدراكه! الأفيون مادة كسائر المواد في الطبيعة، فكيف يحيط الإنسان علماً بالطبيعة إلا أن يشاهد كائناتها كيف تتأثر وكيف تؤثر، ثم يسجل عنده ما قد شاهد فإذا هو علمه بالطبيعة، وإذا وسيلته في ذلك هي العقل الاستقرائي الذي يستند في صياغة أحكامه العامة علي ما تخبره الحواس، فإذا كان الطبيعي الذي يشير إليه الغزالي، لم يكن قد علم من قبل أن للأفيون خاصية التبريد، ثم شهد تلك الخاصية، فالضرورة »العقلية« العلمية تقضي عليه حينئذ أن يضيف هذه المشاهدة الجديدة إلي لما يعلمه عن الطبيعة، فإذا وجد هذه الحقيقة الجديدة تتنافي مع بعض المبادئ العلمية التي كان قد كونها لنفسه عن ظواهر الطبيعة وكائناتها، فلا حيلة له إلا أن يعدل من تلك المباديء حتي تنسق مع ما يشاهده في دنيا الوقائع، وهو يفعل ذلك باملاء »العقل« لا يرغم العقل، فكيف إذن يقيس الغزالي حالة عقلية صرفة بحالة أخري لا تدخل في مجال العقل من قريب أو بعيد، وأعي الحالة التي تعمل فيها بعض »الأوضاع الشرعية« علي مداواة القلوب؟! إن هذه الحالة الثانية إذا كان لابد فيها من قوة نسلم بها تسليما إيمانيا، فليست الحالة الأولي من هذا القبيل نفسه.
ولك أن تزداد معي عجباً علي عجب، إذا مضيت مع الغزالي في هذا النص الذي ننقله عنه، حين يستطرد في القول فيقول عن علماء الطبيعة الذين يسرفون في الاعتداد بعقولهم: »بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم، وهي الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق، بهذا الشكل.
ب ط د ز ه ج و أ ح
2 9 4 7 5 3 6 1 8
يكتب علي خرقتين لم يصبهما ماء، وتنظر إليهما الحامل بعينها، وتضعهما تحت قدميها، فيسرع الولد في الحال إلي الخروج، وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في كتاب »عجائب الخواص« وهو شكل فيه تسعة بيوت، يرقم فيها رقوم مخصوصة، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو علي التأريب«.
(أود للقاريء أن يلاحظ أن الأرقام في المربع الثاني هي الأعداد التي تقابل الحروف في المربع الأول، فيما يسمونه بحساب الجمل، وجاءت هذه المقابلة من أنك لو كتبت الحروف بترتيب أبجد هوز حطي.... فإنها في التسعة الأحرف الأولي تقابل التسعة الأعداد الأولي، هكذا:
ا ب ج د ه و ز ح ط
1 2 3 4 5 6 7 8 9
فقابل بين الحروف في المربع الأول وبين الأعداد في المربع الثاني تجد أن لكل حرف ما يقابله من عدد علي الوجه الذي أسلفناه).
ولنستأنف عبارة الغزالي السابقة، يقول:
»فياليت شعري! من يصدق ذلك، ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين، والظهر بأربع، والمغرب بثلاث، هي لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟! وسببها اختلاف هذه الأوقات، وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة«.
نقطتان نريد هنا أن نعلق عليهما: الأولي - إذا كنت قد رأيت بعض من كتبوا في علم الطبيعة - كجابر بن حيان مثلاً - قد »اعترف بخواص« هي أعجب مما ذكرته سابقاً (ليلحظ القاريء أن الغزالي لم يكن قد أسلف إلا أمثلة لا تثير أي تعجب، إذ أسلف مثلين: مثل الأفيون وخاصته في التبريد، ومثل النار تحرق بلدة بأكملها) أقول: انك إذا كنت قد رأيت من علماء الطبيعة من ذكر في كتبه خواص المربعين اللذين بينت لنا شكليهما، علي أنهما ذوا تأثير في معالجة الحامل التي عسر عليها الوضع، فقد كان الأولي - بدل أن تستشهد بذلك علي عجز العقل عن إدراك هذه الأمور وإحالتها إلي نور النبوة - كان الأولي أن تقف أحد موقفين، فإما أن تخرج صاحب هذا الزعم من زمرة علماء الطبيعة، وإما أن تخرج هذه الخرافة من علم الطبيعة، أما أن تسلم بصدق ما هو مرجح الكذب، ثم تجعله هو نفسه حجة علي ما تريد إثباته، فذلك مالا نوافق عليه، وأما النقطة الثانية التي نريد التعليق عليها، هي هذه الموازنة القريبة بين خواص المربعين المذكورين في تسهيل عملية الوضع، وبين خواص ركعات الصلاة من حيث عددها، فقد يحق لنا، بل يجب علينا أن »نؤمن« بأن وراء عدد الركعات المفروضة حكمة،ربما ظهرت لنا وربما خفيت، ولكن من ذا الذي يوجب علينا الاعتقاد بصحة ما يزعمونه عن خواص المربعين السابقين في تيسير الولادة العسرة؟ لو قلنا إن هذه الخواص »مجربة« - كما ورد في النص الغزالي المذكور - فلماذا تكون »عجيبة« - كما ورد عنها أيضا في النص نفسه - ؟ إن العلم الطبيعي كله مؤلف من »مجربات« ولا مبرر »للعجب« من أي ظاهرة أثبتتها التجربة.
ويختم الغزالي كلامه في سياق الحديث الذي ننقله للقاريء، بموازنة أخري أشد عجباً، خلاصة ما ورد فيها هي أنه يخاطب قوماً لو قيل لهم علي لسان نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب إن هنالك حكمة إلهية في أعداد الركعات وفي رمي الجمار، وعدد أركان الحج، وسائر تعبدات الشرع، لأنكروا لك من جانب العقل، علي حين إنهم إذا قال لهم منجم إن قراءة الطالع تدل علي أن واحداً منهم لو لبس ثوبا جديداً في وقت معين، قتل في ذلك الثوب، لرأيتهم مصدقين لما قاله المنجم، مع أنه قد كذب في أحكامه قبل ذلك مائة مرة.. يريد الغزالي بهذه الموازنة أن يقول لمن يوجه إليهم الخطاب: إنه إذا كان قول المنجم مقبولاً عندكم برغم تعرضه للكذب، وبرغم كونه مجاوزاً لحدود »العقل« أفليس الأولي بالقبول قول النبي في حكمة أشياء قد تجاوز هي الأخري حدود المعقول؟
كتب الغزالي ما كتبه دفاعاً عن »اللامعقول« وهو حر في اختيار موقفه، وأحسبنا بدورنا أحراراً إذا اخترنا ألا نقبل من تراثهم إلا المعقول وحده، لأنه - دون اللامعقول - هو الذي يجاوز حدود مكانه وزمانه، فما قد قبله العقل يوماً، فإنه يقبله كل يوم، وأما ما أرضي اللاعقل فينا يوماً، فقد لا يرضيه حين تتغير الظروف.
لعل قمة اللامعقول في حياة الإنسان العملية - والعلمية الزائفة كذلك - هي أن يدخل السحر عاملاً من عوامل المسير والمصير، إذ ما السحر إن لم يكن هو تعليل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية؟ فإذا كانت علة المطر الطبيعية - مثلا- هي مقدار ما يتكثف في الهواء من بخار الماء، جعلها الساحر ورقة يكتب عليها أحرفاً يختارها أو عبارات، يزعم لها القدرة علي إنزال المطر، وإذا كانت علة الشفاء من مرض معين هو أن تزال الجراثيم التي تحدثه، كانت هذه العلة عند الساحر عفريتا سكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوال تقال وبخور يمطر جو المكان ويظهره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس، وهكذا.
ولئن كانت هذه الصور الصارخة من أشكال السحر أمراً يألفه الناس في حياتهم العملية علي أنه سحر علني مكشوف، فهنالك ضروب أخري منه خافية إلا عن أعين الخبراء، كأن يحاول شعب أن يتغلب علي عدوه في ساحة القتال بدعوات يوجهها إلي السماء، في حين لاتكون الغلبة إلا بطائرات ودبابات يحسن إدارتها وتوجيهها، أو أن يرقب شعب ازدهار معيشته ببركات الأولياء، سواء أحكمت خطط الإنتاج الاقتصادي أو تركت سبهللا في أيدي السفهاء.. هذه وأمثالها تندرج تحت مقولة «السحر» لأنها جميعا ربط غير علمي بين المعلول وعلته.
ولقد تجد في تراثنا القديم أحاديث عن السحر والتنجيم والتعزيم والرقي والتمائم وسائر أعضاء هذه الأسرة غير الكريمة من أدوات الجهل، ألوف الصفحات مبعثرة هنا وهناك في أنفس ما خلفه الآباء من ميراث ثقافي، ولم تكن أمثال هذه الأحاديث لتشغلنا بخطرها وخطورتها، لو لم نجدها واردة في أماكنها من الكتب مسوقة علي نحو يشعر القاريء بأنها أمور لاتحتمل الجدل، فتري الكاتب - وقد يكون من جهابذة الاعلام المفكرين - تراه يحدثك عن التأثيرات السحرية بكل أنواعها وكأنه يحدثك عن طلوع الشمس وجريان النهر واخضرار الزرع، فهي عنده أمور تجري مجري الطبيعة المألوفة في اطرادها، وربما كان لهؤلاء الآباء أعذارهم في ذلك إذا نسينا الأمر إلي مرحلتهم التاريخية والحضارية، ولكن كارثة الكوارث التي تكرثنا اليوم - نحن «المعاصرين» - اننا مازلنا نقرأ هذه الأشياء، بل وندخل بعضها في شئون حياتنا العملية والعلمية، بروح من لايجد فيها غضاضة ولا داعياً للشك والتردد، ثم تعظم المصيبة حين ندرجها تحت مقولة «الايمان» ونصب الويل علي من تحدثه نفسه بمجرد المراجعة الفاحصة.
وليس بذي نفع كثير أن نتقصي الأمثلة من تراثنا علي نحو يشبه الحصر والشمول، بل ليس ذلك في مقدورنا حتي لو أردناه، لأنك إنما تسلح نفسك بالشواهد الكثيرة لو كنت تعلم أنك ستواجه من يعارضك في زعمك، بيد أن الأمر هنا معكوس، فالأرجح جداً ألا يطالع هذه الأسطر قاريء إلا وهو ذو عقيدة سابقة بحقيقة السحر وبقية أفراد أسرته من تنجيم وتعزيم الخ، وإنما الغضبة منصبة علي كاتب هذه الأسطر لاجترائه علي التشكك في مسلمات كهذه، والدعوة إلي تنحيتها فيما ينبغي أن ننحيه من تراثنا، وإذن ففيم كثرة الشواهد علي موقف مسلم به ولا يطلب له شهادة إثبات؟
ومع ذلك فيكفينا في هذا السياق مثل واحد أو مثلان، نأخذ أولهما من رسائل إخوان الصفا، وما ادراك ما إخوان الصفا؟ هم ذروة المثقفين في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) والذي هو بدوره ذروة ما صعد إليه الفكر العربي القديم، فإذا وجدنا صفوة الصفوة هؤلاء، برغم نزوعهم القوي نحو التفكير العلمي ما وسعهم ذلك، يختمون رسائلهم برسالة يخصصونها «لماهية السحر والعزائم والعين، لا ليحيطوا الموضوع بما يثير الريبة، بل ليحيطوه بما يؤيد كل ما يقال عنه من قوة وتأثير، أقول إذا وجدنا تلك الصفوة الممتازة من المثقفين تقف هذه الوقفة من موضوع السحر وفروعه، علمنا أن المسألة لم تكن عند القوم موضعاً لسؤال، وهذا هو مصدر خوفنا من هذا الجانب من التراث الفكري المأثور عن أسلافنا.
يبدأ إخوان الصفا هذه الرسالة الثانية والخمسين من رسائلهم، وهي الأخيرة، بقولهم إنهم رتبوا «فنون العلم وغرائب الحكمة» في الرسائل السابقة (ويلفت نظرنا أنهم يجعلون هذه الرسائل السابقة خمسين، مع أننا أمام الرسالة «الثانية والخمسين») بحسب ما تقتضيه درجات المتعلمين ومراتب الطالبين المستفيدين» وهم يتوقعون من أنصارهم أن يعرضوا علي الناس موضوعات تلك الرسائل بحسب ترتيبها الذي وردت فيه، لأن كل خطوة تالية علي الطريق تتطلب عقلاً أكثر نضجاً من الخطوة التي سبقتها، ولما كانت رسالة «السحر والعزائم والعين» هي آخر الطريق، وجب الا تعرض إلا علي من ارتقوا بعقولهم ونفوسهم درجات الصعود إلي الكمال درجة درجة ومرتبة مرتبة!
«وهذه الرسالة هي آخر الرسائل»- هكذا يقولون - «نريد أن نذكر فيها ماهية السحر وكيفية عمل الطلمسات، وأنها كأحد العلوم والمعارف المتعارفة، وكبعض الحكم المستعملة، ونستشهد عليها بما سمعناه من العلماء وعرفناه من كتب القدماء الذين كانوا فيما مضي قبلنا» - وليلحظ القاريء هنا أنهم يشيرون إلي السحر وتفريعاته علي أنها «علوم» من جهة، و «حكم مستعملة» من جهة أخري، أي أنها أمور تدخل في الحياة العلمية وفي الحياة العملية علي حد سواء، ثم ليلحظ مرة أخري أن الشاهد علي صدقها - في رأيهم - أنهم «سمعوها من العلماء» و «عرفوها من كتب القدماء»، أي أن أحداً منهم لم «يجربها» تجربة مباشرة! وما زلتا إلي يوم الناس هذا، وهو اليوم الذي أكتب فيه هذا السطر من هذا الكتاب، يوم السبت السابع عشر من شهر مارس سنة 1973، أقول إننا مازلنا إلي يوم الناس هذا نسمع من كل من يحيط بنا توكيدات مرتعشة لحقيقة السحر وأفراد أسرته، حتي إذا ما سألت أيا منهم، هل رأيت؟ أجابك بل سمعت!
هذه هي حالنا نحن اليوم، العلماء منا وغير العلماء، أفليس من حقنا - إذن - أن نعجب لقول إخوان الصفا: «.. رأينا اليوم أكثر الناس المتغافلين إذا سمعوا بذكر السحر، يستحيل [علي] واحد منهم أن يصدق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن ينظر فيها أو يتأدب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالمون والأحداث من حكماء دهرنا، المتخلفين والمدعين بأنهم من خواص الناس المتميزين»... وإننا إذا اعتمدنا علي هذا القول من إخوان الصفا، وجعلناه تصويراً للحياة العلمية في عصرهم، أخذنا العجب حقاً، فمؤداه - كما تري - أن هؤلاء الإخوان (والحظ جيداً أنهم من خاصة المثقفين في أزهي عصور الفكر العربي) يميزون بين «العلماء» و «المتعالمين»، والآخرون وحدهم - أي المتعالمين دون العلماء - هم الذين يتنكرون للسحر وينكرونه، وأما «العلماء» - من أمثالهم هم - فيقبلونه حقيقة علمية! ولماذا يتنكر «المتعالمون» للسحر والتنجيم، علي حين يقبلهما العلماء؟ يجيب إخوان الصفا عن ذلك بقولهم: « وذلك لأنهم لما رأوا بعض المتعاملين بهذا العلم، والخائضين في طلبه من غير معرفة له، إما أبله قليل العقل، أو امرأة رعناء، أو عجوزاً خرقة بلهاء، فرفعوا أنفسهم عن مشاركة من هذه حاله - إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات - أنفة منهم، لئلا ينسبوا إلي الجهل وإلي التصديق بالكذب والخرافات»... فإذا نهض بخواطرنا سؤال: كيف - إذن - يؤمن علماؤهم الأصحاء بما يؤمن به أولئك البلهاء المخرفون، مع أن «المتعالمين» قد أنفوا من ذلك؟ أجابنا إخوان الصفا بأن البلهاء والمخرفين إنما يطلبون هذا العلم (المقصود هو «علم» السحر والتنجيم» لاغراض لهم سخيفة دنيئة من غير معرفة...) وما علموا أنه آخر ما يرقي إليه طالب الحكمة، لأنه يتضمن معرفة علمية سابقة بثلاثة أشياء،هي: الكواكب والأفلاك، والبروج.
والذي نريد إثباته هوأن اليوم شبيه بالبارحة، مما قد يدل علي أن تراثنا قد
سري في عروقنا أكثر مما كان ينبغي له أن يفعل لو وجد الموانع والضوابط، فما زلنا إلي اليوم نستنكر من ينكر أن يكون السحر وأتباعه من «العلوم»
كما كان أسلافنا يستنكرون، ثم مازلنا اليوم كما كانوا بالأمس لانجد غضاضة في أن ندرج أفعال السحر فيما يجوز للعقل أن يقبله، ولو شربنا من ثقافة عصرنا العلمية، بمنهجها التجريبي الصارم، لوجب أن نعكس الوضع، فمن عدهم إخوان الصفا «متعالمين» لإنكارهم أن يكون هذا التخريف جزءا من العلم، عددناهم نحن «العلماء» بالمعني الصحيح لهذه الكلمة، ومن عدوهم «علماء» لقولهم ما »سمعوه« عن الأقدمين وما «قرأوه» في الكتب الغابرة، أخرجناهم نحن من عداد العلماء والمتعالمين، لأنهم عندئذ إنما يسلكون في زمرة البلهاء الخرفين الذين أشار إليهم »الإخوان« منذ حين.
وبعدئذ يأخذ إخوان الصفا في حديث طويل يزيد علي ثمانين صفحة، عن الموضوع بما يظنونه «علما»، وليس في وسعنا هنا أكثر من أن نسوق قبسات من أقوالهم «العلمية» هذه، ليري القاريء معي كيف أننا بازاء كتلة ضخمة من «اللامعقول» الذي ينبغي ألا ندخر جهدا في تنقية عصرنا من آثاره وشوائبه.. بعد أن يذكروا لنا كم هنالك من الكواكب وكم من الافلاك والبروج، يقولون إنه ثمة سواها أشياء، «منها العقدتان اللتان تسمي أحداهما الرأس والأخري الذنب، فالرأس يدل علي السعود، والذنب يدل علي النحوس، وليسا هما كوكبين ولا جسمين ظاهرين، ولكنهما أمران خفيان، فخفاء ذاتيهما وظهور أفعالهما يدل علي أن في العالم نفوسا خفية عن الحس، أفعالها ظاهرة وذاتها خفية، يسمون الروحانيين..
وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين، ويعرف ذلك أصحاب العلوم والسحر والطلسمات... (الرسائل، ج4، ص 285).
«واعلم ياأخي أن الكواكب ملائكة الله وملوك سمواته، خلقهم لعمارة عالمه، وتدبير خلائقه، وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أرضه، يسوسون عباده، ويحفظون شرائع أنبيائه، بإنفاذ أحكامه علي عباده، لصلاحهم وحفظ نظامهم علي أحسن الحالات.
«واعلم ياأخي - أيدك الله - أنه لايكاد يعرف كيفيات تأثيرات هذه المواكب وأفعالها في جميع ما في هذا العالم من الأجسام والأرواح والنفوس إلا الراسخون في العلم، البالغون في المعارف، والناظرون في العلوم الالهية، المؤيدون بتأييد الله وإلهامه لهم » (ص285)
تلك هي النغمة التي كتب بها «الإخوان» عن السحر وماهو إلي السحر بسبيل، وهم يستنكرون كل من ينكر حقيقته عن نية صادقة أو عن كذب وادعاء، استنادا إلي أنه كان موضع القبول من فلاسفة أقدمين من أصحاب المكانات العالية كأفلاطون.
وبالطبع لم يفت «الإخوان» أن يستشهدوا علي حقيقة السحر وقوة فعله بماقد أوردوه من آيات قرآنية كثيرة، لو قرئت من السطح ظن قارئها أنها حجة لهم، وربما كان لها من التأويل مايخرج منها المعني الصحيح الذي يتفق مع نظرة العقل في فهم الأحداث وتعليلها، ثم عقبوا علي شواهد القرآن بأخري من التوراة «مما يعتبره ويقر بصحته أمتان من الأمم، وهما اليهود والنصاري جميعا، والتوراة موجودة بأيدي اليهود والنصاري باللغة العبرانية وباللغة السريانية، وباللغة العربية، لا خلاف بينهم فيها» ( ص291)، وكذلك وردت الشواهد علي صدق السحرة في دعواهم «في كتب أخبار ملوك بني اسرائيل التي تجري عند اليهود مجري التوراة..» (ص293) وهكذا تعددت المصادر التي تزيد فعل السحر والسحرة.
»فمنها ماهو من جهة الفلاسفة، ومنها ماهو من جهة الأنبياء وكتب الشرائع، ومنها ماهو مذكور في القرآن» (ص294)، أفتري هذا كله كذبا لاأصل له، وسخفا وحماقة ممن يذكره عند هؤلاء المتعجبين المنكرين بأنفسهم المكذبين بما يسمونه بجهلهم، تكبرا منهم وتيها وصلفا، لقلة عقولهم وقصر علومهم وقصورهم عن نيل العلوم الحقيقية، فيجدون الإنكار والتكذيب أخف عليهم (ص 294 - 95).
إن همنا في هذه الصفحات هو أن نبين القاريء كيف غلب «اللاعقل» علي أسلافنا في بعض المواقف، مما يستوجب انصرافنا عن تراثهم في هذا الجانب اللاعقلي، ومهما يكن من أمر السحر علي حقيقته، فها أنت ذا تري إخوان الصفا يركنون - في تأييدهم لصدق تأثيره - أول مايركنون وآخر مايركنون علي ما«سمعوه» من اخبار الأولين، وما «نقلوه» عن أسفار الأقدمين، والعجب بعد ذلك أن تراهم ينعتون المنكرين "بقلة العقل" في الوقت الذي نري هؤلاء المنكرين لايعتمدون إلا علي منطق العقل وحده، وأما « الإخوان» فيأخذون مايأخذونه في هذا الباب سمعا ونقلا، ولا «عقل» هناك.
ولعل المؤلفين لتلك الرسائل قد أحسوا بضرورة التحديد للمعني المقصود بكلمة «سحر» بعد أن أفاضوا القول فيه، وقبل أن يمضوا في حديث مطول عن طرائق فعله وتأثيره، فقالوا: «إن السحر ينصرف في اللغة العربية علي معان كثيرة، قد ذكرها أصحاب اللغة العارفون بها وأصحاب التفسير لها، ونريد أن نذكر منها مايليق بكتابنا هذا ليكون دليلا علي مانورده من القول في هذا الفن، فمن ذلك أن السحر في اللغة العربية هوالبيان والكشف عن حقيقة الشيء. ومنه الاخبار بما يكون قبل كونه، والاستدلال بعلم النجوم وموجبات أحكام الفلك، وكذلك الكهانة والزجر والفأل، فإن كل ذلك إنما يوصل إليه ويقدر عليه بعلم النجوم وموجبات الأحكام الفلكية والقضايا السماوية، وهوينقسم أقساما كثيرة ويتنوع أنواعا شتي. منه سحر عملي ومنه سحر علمي، ومنه حق ومنه باطل، ومنه مارميت به الأنبياء ووسمت به الحكماء، ومنه مايختص بعلمه النساء.... (ص 312 - 313) ح- وإنه ليكفينا أن تكون لكلمة «سحر» كل هذه المعاني، لنقول إنه لايجوز لكاتب أن يحتج له بآيات قرآنية أو بمأثورات من أقوال الأقدمين، قبل أن نعرف أولا لأي معني من هذه المعاني تكون الحجة.
-70-
أولئك هم إخوان الصفا، المثقفون العلماء! فماذا نتوقع من طراز المثقفين الذين يبدءون برفض العلم أساساً وبالتنكر للعقل معياراً؟ ولنأخذ الغزالي نموذجاً لهذا الطراز، فهو يناصر اللاعقل مناصرة حارة، ويعجب ممن يركنون إلي »العقل« برغم ما يتعرض له هذا العقل من زلل؟ والأعجب هو أن الغزالي إذ يؤدي اللاعقل ويناصره، فإنما يفعل ذلك بما يشبه مناهج العقل المنطقي الذي يتنكر له ويهاجمه!
جاء قبيل خاتمة كتابه »المنقذ من الضلال« ما يلي:
»الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء العقل، تتفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة، والعقل معزول عنها، كعزل السمع عن إدراك الألوان، والبصر عن إدراك الأصوات، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات«.
ويعلق الغزالي بعد ذلك بقوله إن القاريء أمام هذا الذي نقرره من عجز العقل عن رؤية هذ المدركات، إما أن يكون رافضاً وإما أن يكون متفقاً معنا، فإذا كان من الرافضين »فقد أقمنا البرهان علي إمكانه بل علي وجوده«!! ويريد الغزالي بذلك أنه قد أقام »البرهان« في صفحات كتابه السابقة علي ورود هذه العبارة، أفلا يكفي أن يكون قد لجأ إلي »برهان« - والبرهان لا يكون إلا عملية عقلية - ليتبدي ما في كلامه من تناقض؟! أيمكن »للعقل« أن يثبت عجزه في ميادين هي بحكم الفرض لا ينفذ إليها عقل؟ أيمكن للأنف أن يحكم علي روائح تستعصي علي شمه وللبصر أن يصف ألوانا تستحيل علي رؤيته؟ إن »البرهان« إنما يكون علي نتيجة نزعم لها أنها جاءت عن عملية »عقلية«، وأما ما سوي ذلك فلا »برهان« عليه، وقصاري ما نستطيعه إزاءه هو أن »نؤمن« به أو لا نؤمن، نميل إليه أو لا نميل، نحبه أو لا نحبه.
وأما القاريء المصدق لما زعمه الغزالي في عبارته السالفة، »فقد أثبت أن ها هنا أموراً تسمي خواصا (هل يجوز التنوين في كلمة »خواص« ، لكن هكذا وردت) لا يدور تصرف العقل حواليها أصلاً، بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها«.
ولينظر القاريء معي في كيفية إثبات الغزالي لوجود بعض الخواص التي يقضي العقل باستحالة أن تفعل فعلها الذي عرفناه لها، يقول:
»فإن وزن دانق من الأفيون سم قاتل، لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته، والذي يدعي علم الطبيعة يزعم أن ما يبرد من المركبات إنما يبرد بعنصري الماء والتراب، فهما العنصران الباردان، ومعلوم أن أرطالاً من الماء والتراب لا يبلغ تبريدهم (هل نشير إلي أرطال الماء والتراب بالضمير »هم« لكن هكذا وردت) في الباطن إلي هذا الحد، فلو أخبر طبيعي بهذا (أي بأن وزن دانق من الأفيون يجمد العروق لفرط برودته).
ولم يجربه، لقال: »هذا محال، والدليل علي استحالته أن فيه نارية وهوائية، والهوائية والنارية لا تزيد بها برودة....«
يزعم الغزالي بهذا ما يدعيه بعد ذلك مباشرة من أن »أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني علي هذا الجنس، فإنهم تصوروا الأمور علي قدر ما وجدوه وعقلوه، وما لم يألفوه قدروا استحالته«.
أود هنا أن أعيد القضية التي يعرضها الغزالي في الأسطر السابقة، علي مسمع القاريء بعبارتي، ليعجب عجبي من موقفه، فهو يقول إن العقل لا يستطيع إدراك كل شيء، وإن ما لا يدركه، يظن أنه محال الحدوث، وبرهان ذلك أنك لو قلت له إن وزن دانق من الأفيون يجمد الدم في العروق لفرط برودته، لما صدق لأن الأفيون مركب من نار وهواء، وهذان حاران لا تنتج عنهما برودة!!.. ونحن نسأل الغزالي: من ذا الذي قال إذن إن الأفيون يجمد الدم لبرودته؟ أليست هي تجربة الناس بما شاهدوه؟ وهل تقع هذه التجربة في قائمة الالهامات الروحانية التي تستعصي علي العقل، أو هي من صميم عمل العقل عندما يستخرج قوانين الأشياء؟ إننا بالطبع لا ننقد الغزالي من حيث هو يقيم الحجة علي خصائص الماء والهواء والتراب والنار، فتلك كانت ثقافة عصره ولا يلام عليها، ولكننا ننكر علي أي قاريء معاصر لنا يساير الغزالي في حديث كهذا يسقط كله - بخطئه وصوابه - بسقوط الأساس الذي ينبني عليه في تحليل الطبيعة إلي عناصر أربعة كما كان الأمر عند القدماء.
وهل صحيح أن »أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني علي هذا الجنس؟« أعني أن أكثر براهينهم كان قائما علي أساس أن ما لم يألفوه في تجاربهم عدوه مستحيلا؟لست أظن أن ذلك حكم ينصف تلك الطائفة من قادة الفكر.
علي أي حال، لماذا يقول الغزالي هذا؟ إلي أي شيء يمهد بهذه المقدمة؟ إن مرماه هو أن ينتهي إلي نتيجة يريدها، وهي أن من ينكر قدرة الإنسان علي الخوارق بقواه الروحانية، فإنما يبني انكاره علي عدم إلفه لها في خبرته، يقول: »ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة، وادعي مدع أنه عند ركود الحواس يعلم الغيب، لأنكره المتصوف بمثل هذه العقول«.
ويعود الغزالي مرة أخري فيسوق مثلاً محسوساً، مما يقول عنه الذين لم يروه أنه مستحيل، مع أنه يحدث فعلا، والمثل هنا هذه المرة أعجب من مثل دانق الأفيون في المثل السابق، وهذه هي عبارته: »ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء هو بمقدار حبة يوضع في بلدة ليأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه، فلا يبقي شيء من البلدة وما فيها، ولا يبقي هو في نفسه؟ لقال: هذا محال وهو من جملة الخرافات، وهذه حالة النار، ينكرها من لم ير النار، إذ سمعها - فأولا: إن ما يأكل البلدة ليست هي شرارة النار التي هي »بمقدار حبة« علي حد تعبير الغزالي، وإنما الذي يأكل البلدة هو أن كل ما فيها يشتعل ويتحول من صورة مادية إلي صورة أخري، فحجم النار التي تأكل البلدة هو مساو لحجم البلدة نفسها، وثانيا - لماذا تقول: »شيء هو بمقدار حبة« لتضفي علي الكلام صورة الأحاجي والألغاز؟ لماذا لا تقول: »شرارة نار« ثم تلحق ذلك بوصف علمي موضوعي تحليلي لطبيعة النار؟ فعندئذ لو كان السامع ممن يدركون اللغة العلمية التحليلية لطبائع الأشياء، لما أنكر ذلك حتي ولو لم ير النار من قبل، وثالثاً - أإذا أنكرت إمكان شيء لكونه لم يقع لي في خبرتي السابقة، كان ذلك دليلاً علي صدق الزعم بأن فعل الخوارق ممكن للإنسان إذا استعان بوسيلة غير وسيلة العقل؟ أم الأقرب إلي الصواب أن يكون دليلاً علي أن المنكر لم يستخدم عقله علي نحو ما يريده العلم أن يستخدمه؟
ولقد أذهلني أن أجد الغزالي يعقب علي مثل النار التي تأكل البلدة وتأكل نفسها، بقوله: و»أكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل؟« سألت نفسي دهشاً: أي قبيل؟! كم صادف الغزالي في حياته من الناس الذين إذا قيل لهم إن جذوة النار تلقي علي الشيء القابل للاحتراق فيحترق، تعجبوا وأحسوا في بواطنهم برفض عقلي لما يسمعون؟ أيكون هذا - في رأي الغزالي - علي نفس المستوي مع قول ينبئنا بأن صوراً ينفخ فيه يوم القيامة فتعاد إلي الحياة ملايين الملايين من بشر ماتوا بكل صور الموت وفي كل أصقاع الأرض وأرجاء السماء؟ هل يري الغزالي أن القلق العقلي في قبول الخبر هنا كالقلق العقلي في قبول خبر الجذوة المشتعلة التي تحرق قطعة الخشب أو الورق؟ أليس يري بين الحالتين بعداً شاسعاً، هو نفسه البعد بين ما يقبله العقل مستنداً إلي شواهد الحواس، وبين ما يستحيل علي »العقل« أن يقبله فيحيله إلي الإيمان؟
يستأنف الغزالي حديثه فيقول: »نقول للطبيعي: قد اضطررت إلي أن تقول في الأفيون خاصية في التبريد ليس علي قياس المعقول في الطبيعة، فلم لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص في مداواة القلوب وتصفيتها ما لا يدرك بالحكمة العقلية، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة«؟
اللهم اهدني إلي رؤية الحق إذا كنت قد ضللت إلي هذا المدي! ذلك أن العجب يشتد في كلما أمعنت في قراءة النص الغزالي الذي أنقله هنا إلي القاريء جزءاً جزءاً، فالغزالي بلاشك ثاقب النظرة قادر علي التحليل قدرة ندر أن رأيت مثلها في مفكر آخر، وهو فوق هذا مؤلف في المنطق حتي كاد المنطق أن يستوعب كل ما كتب إذا استثنينا ما كتبه في الفقه والتصوف، ولكني مع علمي بهذا كله أقرأ هذا الذي يقوله ليثبت به عجز العقل عن رؤية الحقائق، مما يحتاج بالضرورة إلي قوة يستمدها الإنسان من عالم ما فوق العقول، أقول إني أقرأ له هذا الذي يقوله فيشتد عجبي لما ينطوي عليه من تهافت منطقي عجيب! أنظر إلي الأسطر القليلة السالف ذكرها، تجده يعقد الموازنة بين خاصية الأفيون في تبريد الجسم وبين خواص الأوضاع الشرعية في مداواة القلوب وتصفيتها!! يعقد هذه الموازنة بين الجانبين ليراهما متشابهين في كونهما معا مما تعجز العقول عن إدراكه، بالتالي لا يكون ثمة من مناص للإنسان إلا أن ينتظر ما يشبه الوحي النبوي لإدراكه! الأفيون مادة كسائر المواد في الطبيعة، فكيف يحيط الإنسان علماً بالطبيعة إلا أن يشاهد كائناتها كيف تتأثر وكيف تؤثر، ثم يسجل عنده ما قد شاهد فإذا هو علمه بالطبيعة، وإذا وسيلته في ذلك هي العقل الاستقرائي الذي يستند في صياغة أحكامه العامة علي ما تخبره الحواس، فإذا كان الطبيعي الذي يشير إليه الغزالي، لم يكن قد علم من قبل أن للأفيون خاصية التبريد، ثم شهد تلك الخاصية، فالضرورة »العقلية« العلمية تقضي عليه حينئذ أن يضيف هذه المشاهدة الجديدة إلي لما يعلمه عن الطبيعة، فإذا وجد هذه الحقيقة الجديدة تتنافي مع بعض المبادئ العلمية التي كان قد كونها لنفسه عن ظواهر الطبيعة وكائناتها، فلا حيلة له إلا أن يعدل من تلك المباديء حتي تنسق مع ما يشاهده في دنيا الوقائع، وهو يفعل ذلك باملاء »العقل« لا يرغم العقل، فكيف إذن يقيس الغزالي حالة عقلية صرفة بحالة أخري لا تدخل في مجال العقل من قريب أو بعيد، وأعي الحالة التي تعمل فيها بعض »الأوضاع الشرعية« علي مداواة القلوب؟! إن هذه الحالة الثانية إذا كان لابد فيها من قوة نسلم بها تسليما إيمانيا، فليست الحالة الأولي من هذا القبيل نفسه.
ولك أن تزداد معي عجباً علي عجب، إذا مضيت مع الغزالي في هذا النص الذي ننقله عنه، حين يستطرد في القول فيقول عن علماء الطبيعة الذين يسرفون في الاعتداد بعقولهم: »بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم، وهي الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق، بهذا الشكل.
ب ط د ز ه ج و أ ح
2 9 4 7 5 3 6 1 8
يكتب علي خرقتين لم يصبهما ماء، وتنظر إليهما الحامل بعينها، وتضعهما تحت قدميها، فيسرع الولد في الحال إلي الخروج، وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في كتاب »عجائب الخواص« وهو شكل فيه تسعة بيوت، يرقم فيها رقوم مخصوصة، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو علي التأريب«.
(أود للقاريء أن يلاحظ أن الأرقام في المربع الثاني هي الأعداد التي تقابل الحروف في المربع الأول، فيما يسمونه بحساب الجمل، وجاءت هذه المقابلة من أنك لو كتبت الحروف بترتيب أبجد هوز حطي.... فإنها في التسعة الأحرف الأولي تقابل التسعة الأعداد الأولي، هكذا:
ا ب ج د ه و ز ح ط
1 2 3 4 5 6 7 8 9
فقابل بين الحروف في المربع الأول وبين الأعداد في المربع الثاني تجد أن لكل حرف ما يقابله من عدد علي الوجه الذي أسلفناه).
ولنستأنف عبارة الغزالي السابقة، يقول:
»فياليت شعري! من يصدق ذلك، ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين، والظهر بأربع، والمغرب بثلاث، هي لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟! وسببها اختلاف هذه الأوقات، وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة«.
نقطتان نريد هنا أن نعلق عليهما: الأولي - إذا كنت قد رأيت بعض من كتبوا في علم الطبيعة - كجابر بن حيان مثلاً - قد »اعترف بخواص« هي أعجب مما ذكرته سابقاً (ليلحظ القاريء أن الغزالي لم يكن قد أسلف إلا أمثلة لا تثير أي تعجب، إذ أسلف مثلين: مثل الأفيون وخاصته في التبريد، ومثل النار تحرق بلدة بأكملها) أقول: انك إذا كنت قد رأيت من علماء الطبيعة من ذكر في كتبه خواص المربعين اللذين بينت لنا شكليهما، علي أنهما ذوا تأثير في معالجة الحامل التي عسر عليها الوضع، فقد كان الأولي - بدل أن تستشهد بذلك علي عجز العقل عن إدراك هذه الأمور وإحالتها إلي نور النبوة - كان الأولي أن تقف أحد موقفين، فإما أن تخرج صاحب هذا الزعم من زمرة علماء الطبيعة، وإما أن تخرج هذه الخرافة من علم الطبيعة، أما أن تسلم بصدق ما هو مرجح الكذب، ثم تجعله هو نفسه حجة علي ما تريد إثباته، فذلك مالا نوافق عليه، وأما النقطة الثانية التي نريد التعليق عليها، هي هذه الموازنة القريبة بين خواص المربعين المذكورين في تسهيل عملية الوضع، وبين خواص ركعات الصلاة من حيث عددها، فقد يحق لنا، بل يجب علينا أن »نؤمن« بأن وراء عدد الركعات المفروضة حكمة،ربما ظهرت لنا وربما خفيت، ولكن من ذا الذي يوجب علينا الاعتقاد بصحة ما يزعمونه عن خواص المربعين السابقين في تيسير الولادة العسرة؟ لو قلنا إن هذه الخواص »مجربة« - كما ورد في النص الغزالي المذكور - فلماذا تكون »عجيبة« - كما ورد عنها أيضا في النص نفسه - ؟ إن العلم الطبيعي كله مؤلف من »مجربات« ولا مبرر »للعجب« من أي ظاهرة أثبتتها التجربة.
ويختم الغزالي كلامه في سياق الحديث الذي ننقله للقاريء، بموازنة أخري أشد عجباً، خلاصة ما ورد فيها هي أنه يخاطب قوماً لو قيل لهم علي لسان نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب إن هنالك حكمة إلهية في أعداد الركعات وفي رمي الجمار، وعدد أركان الحج، وسائر تعبدات الشرع، لأنكروا لك من جانب العقل، علي حين إنهم إذا قال لهم منجم إن قراءة الطالع تدل علي أن واحداً منهم لو لبس ثوبا جديداً في وقت معين، قتل في ذلك الثوب، لرأيتهم مصدقين لما قاله المنجم، مع أنه قد كذب في أحكامه قبل ذلك مائة مرة.. يريد الغزالي بهذه الموازنة أن يقول لمن يوجه إليهم الخطاب: إنه إذا كان قول المنجم مقبولاً عندكم برغم تعرضه للكذب، وبرغم كونه مجاوزاً لحدود »العقل« أفليس الأولي بالقبول قول النبي في حكمة أشياء قد تجاوز هي الأخري حدود المعقول؟
كتب الغزالي ما كتبه دفاعاً عن »اللامعقول« وهو حر في اختيار موقفه، وأحسبنا بدورنا أحراراً إذا اخترنا ألا نقبل من تراثهم إلا المعقول وحده، لأنه - دون اللامعقول - هو الذي يجاوز حدود مكانه وزمانه، فما قد قبله العقل يوماً، فإنه يقبله كل يوم، وأما ما أرضي اللاعقل فينا يوماً، فقد لا يرضيه حين تتغير الظروف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.