لم يأت اختيارهما ليكونا شخصيتي معرض الكتاب في دورته الذهبية من فراغ، بل لدورهما في خروج فكرة المعرض إلي النور، فثروت عكاشة ذلك الفارس النبيل الراحل دفع بالحدث إلي أفق التحقق باعتباره وزيرًا للثقافة وقت انطلاق دورته الأولي عام 1969، برعايته وتحمسه للفكرة خرجت إلي الوجود تحمل عوامل تفوقها وأسباب بقائها، أما الأم الحقيقية للفكرة فهي الباحثة الرائدة والأكاديمية البارزة د.سهير القلماوي، فقد كانت أول رئيس للهيئة المصرية العامة للكتاب، وفي عهدها ولد معرض القاهرة للكتاب الذي منحته من رعايتها وعنايتها الشيء الكثير لذا ليس غريبًا أن يقابل هذا الكيان الثقافي الكبير صنيع عكاشة وفضل سهير بالوفاء والعرفان وهو يحتفل بنضجه ورسوخه في عيده الذهبي، ليس فقط لدوريهما في احتضانه ودفعه إلي الأمام بل لأسهاماتهما البارزة في الحياة الثقافية المصرية، والميدان العلمي العربي، وقد حرص الناقد المتميز د.حسين حمودة علي أن يشارك المعرض في موكب الوفاء لعطاء الراحلين عبر توثيق جهودهما التي أسهمت في صياغة الوعي المصري وتشكيل الوجدان العربي، حيث يقول الناقد الكبير وهو يحدثنا عن عطائهما: أتذكرهما وأستعيدهما، مع كل من يتذكرهما ويستعيدهما، فأري الملامح التي ارتبطت بهما في القلب من مشهدين كبيرين: الأدوار الريادية المتعددة، والبصيرة النافذة لمستقبل الثقافة المصرية، والإيمان الراسخ بقيمة الإبداع وإمكان مساهمته في تغيير المجتمع للأجمل والأرقي، وأيضا الحضور الإنساني الدمث والنبيل، ويبدأ حمودة حديثه بوصف شخصية د.سهير القلماوي باعتباره أحد تلاميذها المباشرين، إذ يقول: هي كما نعرف جميعًا، صاحبة أدوار »ريادية» علي مستويات متعددة.. كانت أول فتاة تلتحق بالجامعة المصرية، وأول سيدة تحصل علي شهادات كبري، وأول أستاذة تقوم بالتدريس في الجامعة، وأول سيدة تترأس قسم اللغة العربية الذي ترأسه، من قبل، أستاذها طه حسين، وأول ناقدة تقدم دراسة جادة في الجامعة الرسمية عن عمل ينتمي إلي الأدب الشعبي، أقصد دراستها عن »ألف ليلة وليلة»، في زمن لم يكن فيه اعتراف رسمي واضح بهذا الأدب، وأول من قامت بتنظيم معرض دولي للكتاب في بلد عربي، وبالإضافة لهذا كانت لها أدوار كبيرة مهمة في مجالات متعددة، علي مستوي الحياة الاجتماعية والثقافية، وعلي مستوي الدفاع عن حقوق المرأة، وطبعا علي مستوي الكتابات الأدبية والنقدية والترجمات، وكنت محظوظًا بأن أتتلمذ علي يديها في السنة الأولي بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، وفي الحقيقة كنت طالبًا مواظبًا علي حضور محاضراتها، وكنت أحيانًا أشارك بالنقاش معها، وقد طلبت مني، في نهاية إحدي المحاضرات، أن أطلع معها إلي مكتبها.. وسألتني بعض الأسئلة وعرفت أنني أكتب الشعر، فطلبت مني أن آتي الأسبوع القادم ببعض ما أكتبه.. وقد كان.. وبعد أسبوعين طلبت مني، مرة أخري، أن أصعد معها إلي مكتبها.. وكانت قد قرأت ما كتبت.. وقدمت لي ملاحظات ثاقبة، ومفصّلة، ومفيدة جدًا.. كانت تتمتع بتلك القدرة علي أن تنبّه من تلتقيهم إلي أفضل ما عندهم، وكانت تفعل ذلك ببساطة وعفوية وتواضع وصدق، في الامتحان النهائي لمادتها، أجبت عن أحد سؤالين وضعتهما في ورقة الأسئلة، وكان عن العلاقة بين المسرحية والأسطورة. أجبت عنه إجابة مستفيضة، كنت قد جهزتها، وكأنها بحث مكتمل، عن أسطورة إيزيس وأوزوريس كما رواها بلوتارك، وكيفية تمثّلها في مسرحية توفيق الحكيم »إيزيس».. انتهيت من الإجابة الموثقة المفصّلة وأدليت برأيي، وكاد الوقت أن ينتهي ولم أبدأ في السؤال الثاني.. فكتبت النقاط الأساسية التي كان يمكن أن أحللها بالتفصيل، وعددًا من الملاحظات النهائية، وأدليت برأيي.. أي أنني أعطيت المساحة الكبري من الإجابة لسؤال واحد، وكانت إجابة السؤال الثاني أشبه ب»مشروع إجابة».. بعد إعلان النتيجة، كانت درجتي من أعلي الدرجات.. والحقيقة أنني لم أفاجأ، أو لعلي فوجئت قليلًا.. فالدكتورة سهير القلماوي، بكل معرفتها وحساسيتها النقدية، قادرة بالطبع علي تقدير ما بثته فينا من روح للتفكير وللبحث والتقصي وللنقد، وكانت في كل محاضراتها تحرص علي هذا.. وتؤكد أنه هو ما يجب أن نتمسك به.. بعيدًا عن مجرد حفظ المعلومات، أتذكرها، مع من يتذكرونها، فأستعيد فورًا روحها الطيبة، وحسّها المتدفق بالأمومة، وروحها النقدية العالية دون تعال، وأتذكر عبق طه حسين، أستاذها، الذي طالما تنسّمته فيها وهي تحاضر أو تتحدث.. وعن الفارس النبيل د.ثروت عكاشة يقول حمودة: اقترنت حياته كلها بملامح صاحب الأدوار الثقافية الريادية الكبري أيضًا، هو، كما نعرف جميعًا، من قدّم إسهامات مشهودة للثقافة المصرية والعربية والإنسانية خلال فترة حافلة، وهو الذي جمع بداخله بين اهتمامات متنوعة، خرج في بدايتها من رداء الضابط وتشبع بروح الفنان والمثقف، رأس تحرير مجلة »التحرير»، وعمل ملحقًا مصريًا بعدد من السفارات المصرية بالخارج، وسفيرًا، ووزيرًا للثقافة والإرشاد القومي، وأستاذًا زائرًا بالكوليج دو فرانس، وعضوًا بالمجلس التنفيذي لليونسكو، وزميلًا بالأكاديمية البريطانية، وأنشأ وترأّس المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب.. وأسهم في إنقاذ معبد أبي سنبل ومعبد فيلة، وفي فترة حضوره الثقافي التنفيذي أنشئت أكاديمية الفنون، ونشطت حركة الترجمة والتأليف، وافتتحت قصور الثقافة بأعداد كبيرة داخل القاهرة وخارجها، وتصاعد الاهتمام بالفنون الشعبية بأنواعها، وتم تأسيس فرق »الأوبرا».. إلي آخر هذه الإنجازات.. وخلال حياته قدم نتاجًا مهمًا جدًا من الكتابات الموسوعية، حول المصطلحات الثقافية، والفن الإغريقي، والعمارة الإسلامية، والفنون الرومانية.. بالإضافة لعدد من الترجمات.. وقدم، بهذا كله، مثالًا ناصعًا علي الإيمان بالثقافة وبدورها الحيوي الكبير، لم أعرف د.ثروت عكاشة ولم أقابله، لكنني التقيته كثيرًا جدًا، خلال أحاديث مطولة عنه وعن السيدة زوجته، مع الأستاذة الفنانة رجاء الرفاعي، أو رجاء إدريس، زوجة الكاتب الكبير يوسف إدريس، وقد كانت صديقة مقرّبة لزوجته وله، وأحاديث الأستاذة رجاء عنهما كلها أحاديث محبة وتقدير للعلاقة الفريدة التي جمعت بين هذين الزوجين، وقد قالت لي إن د.ثروت عكاشة، بجانب ما هو معروف عنه من حبه للفن التشكيلي، تميز بشغفه بالموسيقي الكلاسيكية، وقد كانت هذه الموسيقي تتردد طول الوقت في كل مكان يتحرك فيه، في منزله وفي مكتبه، ولعله كان يتذوق كل أنواع الفنون، وإنه بعبارات الفنانة الأستاذة رجاء كان »يمثل ثروة قومية من الثقافة والمعرفة، وبعين ثاقبة قادرة علي أن تبحث عن كل شيء يمكن أن يجعل الإنسان المصري، والإنسان عموما، أكثر قدرة علي أن يعيش حياة أجمل».