لا نستطيع أن نُطمئن أنفسنا ونحن نري الرحيل المتسارع لليالي الجدات والأمهات حارسات تلك الحكايات المتنوعة والغنية التي عمرت ذاكرة العالم ؛ وأثبتت أن له قلبا ، ثمة خيط رفيع يربط بين جدات العالم مهما اتسعت المسافات بينهن ، وقلب واحد يخفق في صدورهن خوفا علي أولئك الأحفاد الصغار الذاهبين إلي أحلامهم ؛ ولذا فمن الطبيعي أن يكتشف الأحفاد حين يكبرون أن الحكايات التي روتها جداتهم كي تجعلهم يستسلمون للنوم هي الحكايات التي يسردونها الآن كي يستيقظ العالم ؛ لكنهم وهم يسردونها اليوم يتحولون بدورهم إلي جدات العالم ؛ آخر جدات العالم المتشبثات بسحر وجوهر وحقيقة تلك الحكايات التي يتعالي عنها التاريخ في هذا الزمن بصورة لا ترحم. هكذا يري إبراهيم نصر الله الرواية والروائيين وهكذا أري، ولقد فقدت الرواية الكثير من متعتها الأولي حين ألقي بها الروائيون في بحر التقنيات؛ وأصابتها حمي التجريب الذي كان عبثياً في أحيان كثيرة؛ توارث الروائيون موضة التخلي عن بكارة الحكي وشغفه في العقود الأخيرة في طقس متعال علي (كلاسيكية) التراث الحكائي الشعبي وبدلوا رهاناتهم بشكل غير مبرر في أغلب الأوقات؛ صحيح أن اتجاهات كالواقعية السحرية مثلاً؛ قد أعادت اكتشاف جماليات التراث الشفاهي الحكائي للإنسانية؛ وأثبتت أن الجدات امتلكن تقنيات مبهرة يطنطن العالم الآن بها وكأنها جديدة؛ إلا أن الكثير من الروائيين حين يشتبكون مع تلك الاتجاهات يفسدون جوهرها لصالح الإبهار التقني؛ وظلت التجارب التي تراهن علي الحكي النابت من حجور العجائز هي الأقل عدداً؛ ثم جاءت رواية "الفابريكة" (الدار المصرية للبنانية) للروائي أحمد الملواني لتمنح من علي شاكلتي أملاً في متعة فقدوها بفقد تلك الحجور الرحبة الدافئة لأمهاتهم وجداتهم.
من الصفحة الأولي و"الفابريكة" تشي بأننا أمام حكواتي يحتفي بتراثنا من الأدب الشعبي إذ جاء العنوان الأول "يسبق كلامنا"، ولم أقرأه إلا بالعامية هو وما تلاه من عناوين للفصول "يحكي أن"، "يحلو الكلام"، "فرغت الحدوتة" وليسامحني الروائي وليسمح لي أن أقرأ كما يحلو لطفل مثلي، ثم يأتي اختيار الراوي عليماً مشتبكاً مع متلقيه من أول سطر ليؤكد ما قد وشت به العناوين ": من أنا؟ سؤال ليس في محله ولماذا يجب أن يكون الاهتمام بالقائل عما يقول؟(**)" رفقاً يا صديقي الراوي.. لماذا هذا التنمر؟ من سأل الحكواتي أو الصييت يوما من أنت؟! من سأل جدته: من أين لك بالحكاية وأسرارها؟!، صحيح أننا كنا نفترض صغاراً علم الكبار المطلق، وكباراً نقلهم ما سمعوه؛ في حين أن الملواني هو الذي صنع فابريكته وراويها إلا أن رائحة الجدة التي تفوح من حيرتك كيف تبدأ الحكاية قد شغلتنا عن سؤالك ذلك؛ ولقد أخذت الأمان من متلقيك عبر عنوان الفصل الأول "يسبق كلامنا" ولولا سلامك قبل كلامك لما قبلنا منك نا الفاعلين التي خاتلتنا طوال الرواية "في قريتنا - تقاليدنا.. وغيرها" فظننا أن الراوي من أبناء القرية ، ورغم أن ذلك قد جرح صدق راوينا العليم الذي يعرف عن أبطاله في باريس قدر ما يعرف عن أبطاله في قرية مصرية جوانية، فإن بكارة السرد وعجائبية الحكاية وسطوة الخرافة قد أخفت الجرح إلي النهاية. بقيت القرية أرض الحكايات ومنتجة الأساطير والخرافات رغم سطوة رواية المدن الأسمنتية وصراعاتها البلاستيكية أحيانا؛ لذلك يلجأ الروائيون إلي القرية حين يأخذهم الحنين إلي متعة الحكاية الصافية، أو حين يجبرهم الواقع علي إخفاء صرخاتهم خلف رمزية آمنة غير منغلقة أو تشفير غير عصي، كان ذلك هو اختيار الملواني لمسرح حكايته؛ قرية حافظت علي عزلتها رغم تطورها؛ أمسك أهلها علي حكاياتهم الخرافية وتقاليدهم الغريبة وأسرارهم رغم مرور الزمن؛ قرية في القرن الحادي والعشرين لكنها ما زالت تحافظ علي البناء الاجتماعي الكلاسيكي القديم جدا للقرية المصرية، والذي صورته كثيرا الرواية المصرية قديماً عمدة غاشم، خفر أغبياء، أعيان جشعون، رجل دين منسحق أمام عمدته، ومجاميع من فقراء تافهين بله، تمتلك التلفاز وقنواته الفضائية، لديها إنترنت وبرامج تواصل اجتماعي؛ أولادها يتعلمون ويخرجون للجامعات ويخالطون الغرباء، ورغم كل ذلك يبدو كل شيء وكأنه في القرون الوسطي لقرية وسط الصحراء بلا دولة أو جيران، إذن لقد عزلهم الملواني جبراً؛ لتطل الأسئلة البديهية: كيف تعيش هذه القرية تلك الازدواجية الصارخة؟ كيف تنفتح علي العالم هكذا وتظل في وحل خرافتها؟ لماذا لم يبن الروائي قرية خرافية قديمة معزولة كي تتحمل كل تلك الخرافات وتبتلع عزلتها وأسرارها في سلام؟ هل كان يهرب من نموذج ماكوندو ماركيز الذي تحول إلي فخ أم أن في الأمر رمزية قد يقبلها متلق حسن النية مثلي ولا يقبلها غيره. يبدأ زمن القصة قبيل الحملة الفرنسية علي مصر 1798م حين يظهر الشاب "سيمون رينار" حاملاً شغفه بعلوم الحضارة المصرية القديمة، ثم تلقي به الأقدار علي أرض مصر جندياً؛ ثم تمنحه الصدفة شرف اكتشاف حجر رشيد، ويفسح له كرم قادته فرصة لأخذ نسخة من نقوش الحجر ليستطيع في أشهر حل لغز الهيروغليفية؛ ثم يهرب من جيشه ليبدأ رحلة جمع علوم الكهنة الفراعنة، وتدمير ما يقع في يده من تراثهم ليستأثر بتللك العلوم وقوتها لنفسه غير عابئ بالمجد التاريخي أو العلمي الذي كان بإمكانه تحقيقه إذا ما أعلن عن بعض اكتشافاته، ثم يعود إلي فرنسا ثم يختفي منها عائداً إلي مصر ليستكمل ما تركه؛ ثم تلعب معه الصدفة لعبتها مرة أخري فتمنحه ولداً بالتبني، وتدفعه إلي قرية خالية من البشر، ويلتقي بالثري الذي قتل فلاحيه ليبعد الوباء عن قصره، يمنحه المال مقابل تعاويذ تنزل المطر وتبارك الزرع، ثم يمنحه التمويل الكافي لإجراء تجاربه وبناء ماكينته التي تمزج سحر الفراعنة وعلم نيكولا تسلا الحديث جداً وقتها ليحول من خلالها الحيوانات إلي بشر، ويصنع أكسير الشباب، ثم يقرر الهرب كي لا يمنح الباشا أسراره؛ لتبدأ الخرافات والحكايات التهام القرية ويتحول الخواجة "سيمون رينار" إلي ولي وتتحول فابريكته إلي بيت قدسي وتتحول الخطايا إلي كرامات والزناة إلي محسنين واللقطاء إلي مقدسين والعهر إلي عرف والقهر إلي قانون. يقفز الراوي مئة عام تقريباً ليقدم لنا "منصور رينار"، عالم المعادن الفرنسي الذي يعيش في قرية هادئة هارباً من صخب باريس قائماً علي أبحاث لإنتاج معدن يحمل البشرية إلي قرب الشمس، ومتسائلاً طوال الوقت عن هويته؛ لماذا أصبح مسلماً ولماذا أصر أبوه علي تعليمه العربية؟ إلي أن تأتيه رسالة من قرية مصرية تطالبه بضرورة الحضور لاستلام ميراث جده الأكبر "سيمون رينار"، فيطير "منصور" إلي مصر حاملاً أمله في أن تمنحه مصر كل الإجابات العصية، وبعض ليالي الشرق السحرية مع نساء تعرف عليهن عبر "ألف ليلة وليلة"، وربما تمنحه المجد الذي رأي طوال الوقت أنه ينتظره أيضا؛ ليهبط إلي قرية تصدمه كل تفاصيلها بشر وعادات وطقوس وصراعات وقداسة هبطت عليه بلا أي مبرر يقنعه. يقع منصور في حصار العمدة والباشا المعمر والأولاد المقدسين، كلهم يريدون الحصول علي الشيء ذاته أسرار "سيمون رينار" / "الخواجة" التي أخفاها في دفتره الذي تناقلته العائلة كميراث مقدس لم يعرف "منصور" عنه شيئا حتي وفاة أمه أثناء وجوده في مصر والتي أوصت بإعطائه كنز عائلته وفتنتها دفتر جده بعد مماتها. الجميع أراد الدفتر، الباشا يريد أكسير الشباب، والعمدة يريد السلطة والثروة، والأولاد المقدسون يريدون الخلاص ومنصور يريد حل اللغز واكتشاف علوم جده.
تدفع الأحداث "منصور" إلي الوقوف بجانب الأولاد المقدسين ويمنح كبيرهم "صخ" الخلاص الذي حلم به فحولهم إلي حيوانات مفترسة قضت علي أغلب أهل القرية خاصة القساة منهم عدا العمدة الذي نجا بأعجوبة، تظهر الدولة المصرية أخيرا لتمسك بزمام الأمور وتضع الحيوانات المفترسة / الأولاد المقدسين في قصر الباشا فيما يشبه محمية طبيعية؛ يظل العمدة في مكانه يصنع خرافات القرية آملا في الحصول علي دفتر "منصور" الذي هرب لكنه لن ينسي كنز جده الذي اختبر جزءا من قوته. تلك هي المحطات السردية الأهم داخل "الفابريكة" قدمها أحمد الملواني في بناء مشوق، وتقافز رشيق، ولغة سهلة لم تنازع الحكاية وشخصياتها البطولة، وانضباط رائع لزمن القصة، ومعالجة جيدة لزمن السرد. حين يكون الراوي عليماً لا ألتفت إلي مستويات اللغة في حوار الشخصيات وحديث نفسها، فقد يمكن اعتبار الحوار جزءا من حكي الراوي ويحمل بصماته اللغوية والأسلوبية، فلا أعتبر ثبات النبر عيبا، لكن ما أربك الحوار في الجزء الأخير من الفابريكة هو الحوار علي لسان "منصور"؛ فقد عمد الملواني إلي أسلوبين في كلام "منصور" حين يتحدث الفرنسية فكان أحياناً يكتبه بالعربية مع الإشارة إلي نطق منصور بالفرنسية: (بكلمات فرنسية صارحها : أنت حقا جميلة كضحكات الأطفال) وأحيانا أخري ينقل الراوي حديث منصور بالفرنسية مباشرة: (Je vous connais tueur) ربما كان قفز الملواني علي حدث تحويل الحيوانات إلي بشر والذي يمكن اعتباره بداية الخلق لأهل القرية هو أغلي ما تخلت عنه روايته واللبنة الناقصة في دار حبكته، هولاء الحيوانات البشر خرجوا من الفابريكة بأية ذكريات؟ كيف حصلوا علي أسمائهم وعائلاتهم؟ كيف صنع الباشا أو الخواجة لكل منهم تاريخه؟ كيف اكتنز الجيل الأول بكارة نظرته للعالم إنساناً للمرة الأولي، وكيف ورثها لمن بعده؟ كيف لقرية معزولة تتعاطي الخرافة وتلوك طوال الوقت حكاياتها أن تنسي تماما تلك التجربة بعد ثلاثة أو أربعة أجيال فقط ليكون الحال لا ذكريات ولا أسئلة؟! تنازل الملواني عن تللك المساحة الحكائية المدهشة في رواية تجاوزت الأربعمائة صفحة، رواية احتفي فيها الراوي بمشهد "منصور" في موقف السيارات، وصراعه مع سائق الميكروباص في رحلة امتلاء السيارة علي مدي ست صفحات كاملة. الفابريكة تدين الجميع أري أن رواية الفابريكة قد أدانت الجميع الغرب والشرق، العلم والخرافة، الماضي والحاضر والمستقبل، قدمت الفابريكة نموذجين للرجل الغربي "سيمون رينار" الجد الأكبر ذلك الرجل الأناني الخبيث الذي أقدم علي تدمير تراث إنساني بدم بارد، لا لشيء سوي الاستئثار بالعلم دون خطة جاهزة للاستفادة منه، فكان ينقل علوم الكهنة من البرديات ثم يحرقها، وهو لا يعرف بالضبط ماذا سيفعل بتلك التعاويذ والعلوم مستقبلا، ثم كافأ الباشا علي قتل قرية كاملة بمنحه عبيدا جددا وسنوات جديدة للقهر بلا أي رعشة ضمير؛ مع الحفاظ علي نموذج الشفقة المزيف في تبني طفل مصري يتيم. النموذج الثاني هو "منصور" ابن الحضارة الأوربية والحريات الفرنسية الذي قَبِل بعد ليال قليلة في القرية حياة التخلف، وساهم راضياً في استكمال سطوة الخرافة، وأقدم علي تحويل بشر إلي حيوانات تقتل بشراً آخرين في تحول لم يبرره السرد، وجاء اعتراضه باهتاً في جمل قليلة في حواره مع "صخر" مثل: "أنت مجنون" وشبيهاتها التي تعبر عن غرابة الفكرة أكثر من رفضها؛ لم ينتصر لإنسانيته أو حضارته أو علمه؛ ليلقي بالمعرفة تحت قدم الخرافة والسحر في أول مواجهة ، وفضل قانون الغابة فتحول إلي شريك في مذبحة لأناس لا يعرفهم.
أما النموذج الشرقي متمثلا في العمدة والباشا والأعيان وأهل القرية فهم مجموعة من القتلة والأفاقين والزناة والأغبياء يستغل بعضهم جهل بعض ليصنعوا من الخرافات دينا وقانونا، حتي الأولاد المقدسين لم يهربوا بإنسانيتهم بل قرروا الانتقام بأبشع الصور، ومارسوا القتل بادئين بأنفسهم. يدين الملواني الجميع، الغرب الذي يسرق حضارتنا ويصدر لنا الخرافة والتخلف، والشرق الذي يتآكل ذاتيا ولا يبحث عن المعرفة ولا يأخذ من التطور إلا بعض اللافتات علي واجهات المحال ويبقي في الحقيقة متخلفا همجيا منغلقا علي خبله. بخل الملواني علي أهل القرية بأن يعيدهم إلي سيرتهم الأولي حيوانات كما كان يرغب "صخر" في البداية، ربما لأنه يري أن الحيوانات أرفع شأنا منهم، وعوض الأولاد المقدسين عن سنين القهر والتشرد بأن حولهم إلي حيوانات تقتص لعذاباتها حد الظلم. في "الفابريكة يتحول العلم إلي خرافة والخرافة إلي علم، ويتحول الإثنان إلي حكايات؛ حكايات يقع الجميع في غوايتها فيفقدون إنسانيتهم وشرفهم؛ حكايات التعاويذ والسحر والتحول، حكايات الذهاب إلي الشمس، وحكايات الدين الزائفة، والسلطة القاهرة، والشهوة المتسترة، حكايات امتلاك البشر للبشر. "الحكاية تخضع الرقاب كما لا تفعل بنادق الخفر".