» - قل لي ما هي المرآة إذن؟ - هي ماكينة توضح الأشياء في مكان بعيد عن مكانها الأصلي.» كان هذا هو تعريف ديكارت - البطل الأعمي- للمرآه ردًا علي سؤال الفيلسوف الفرنسي ديدرو والذي ورد في كتابه »خطاب عن المكفوفين». يرجع الفضل إلي دينيس ديدرو (1713-1784) في لفت الانتباه بقوة نحو عالم المكفوفين الفكريّ؛ حين ألف كتابه »خطاب عن المكفوفين» (1749)؛ في كتابه، يتحاور ديدرو مع صديقه الكفيف ديكارت، ويسأله عما تعنيه بعض المفاهيم بالنسبة له، مثل الجمال والسيمترية. ويكشف عبر هذا الحوار أن »الجمال بالنسبة للكفيف ليس إلا مجرد كلمة حين تنفصل عن فائدتها.» وبدت كل إجابات الكفيف مرتبطة بعدد محدود جدًا من المعان التي يمتلكها، حتي أنه يدرك المعان المجردة مثل الميتافيزيقا والأخلاق من خلال خبرته الحسّية فقط! وبدلًا من وصف إنسان »بالخير أوالشر» فإن الأمر، بالنسبة له، لا يتعد وجود أناس »يرشدوه للطريق وآخرون يسرقونه»! هذا الحوار بين الكفيف والمبصر في الجزء الأول من كتاب ديدرو يذهب بالقاريء إلي الاعتراف العميق بالنسبية في الحياة تجاه كل الأمور والمفاهيم. أما الجزء الثاني فاعتُبر »تخريبيًا» أكثر؛ إذ انتهج عبره ديدرو فرضية تقضي بفوضي كاملة: فتساءل أليس ما يُعتبَر طبيعيًا في مكان ما هو استثناء في مكان آخر؟ وما كان شاذًا في الماضي ألن يكون هو القاعدة في المستقبل؟ واستمر ديدرو، عبر تأمل عالم العميان ومدركاتهم، في توليد الأسئلة والشكوك حول كل ما في الحياة، في دوامة فكرية تعتصر القاريء. صدر الكتاب في يونيو 1749 وتمت مصادرته في يوليو من نفس العام وتم حبس ديدرو في السجن بسبب أفكاره! وسواء رأينا فيما قدمه ديدرو عمل فكري عظيم أو نقد موجّه للدين والدولة أو دعوي للفوضي ففي جميع الحالات حّرك كتابه مياه ساكنة بقوة، بتأملاته العميقة داخل ذلك الصندوق المغلق –العمي- مع دعوة المبصرين لرؤية العالم من زاوية مغايرة، تلك التي يمتلكها فاقدي البصر. في ذلك المناخ ولد فالنتين هواي (1745-1822)، تربويّ ومترجم فرنسي، من أوائل من آمنوا واهتموا بحق المكفوفين في المشاركة المجتمعية والثقافية. حضر فالنتين ذات يوم في عام 1771 عرضًا للمكفوفين في معرض ثقافي بميدان الكونكورد بباريس، وصُدِم من الاستقبال الساخر الذي وجهه الجمهور لهم حتي أنه أسس في عام أول مدرسة لتعليم المكفوفين، والتي سميّت »المعهد الوطني للمكفوفين الصغار» . في أحد الأيام قابل فالنتين شحاذ أعمي اسمه فرانسوا ليسيور، وحين أعطاه عملة معدنية أعادها له الشحاذ ونبهه أنه ربما أخطأ بمنحه تلك العملة ذات القيمة الكبيرة فأدرك حينها فالنتين أن بامكان الأعمي إدراك الأشياء بمجرد لمسة واحدة وأصبح فرانسوا ليسيور تلميذ فالنتين الأول في المدرسة التي أسسها. اعتمد فالنتين في تعليم المكفوفين علي تصميم الحروف بورق الكرتون بشكل مجسم وكبير واستطاع فرانسوا تكوين جمل وقراءتها كما تعلم العمليات الحسابية الأربع الأساسية. في سبتمبر 1784 أعلن فانتين هواي نجاح تجربته في تعليم المكفوفين ونال دعم من أكاديمية العلوم بفرنسا. بعد أكثر من ثلاثين عامًا، بدات بذور مشروع حقيقي تتضح؛ ففي عام 1819 ، التحق لويس برايل، الطفل الكفيف الاستثنائي، وهو في سن العاشرة بالمعهد. كان مخترعًا موهوبًا، فأبدع في سن الخامسة عشر نوع من الكتابة يعتمد علي ست نقاط بارزة أو كما أطلق عليها »النقاط الست السحرية لبرايل»، نجحت تلك الطريقة في ضم الحروف الأبجدية ونقاط الترقيم والأرقام بل والسولفاج. بالطبع لا يمكن تصور مسيرة برايل البراقة دون صعوبات ومنغصات؛ فلم يقتصر الأمر علي كف بصره منذ الولادة بل امتد إلي محاربة أستاذه باربير الذي أضاف طريقة لتعلم المكفوفين بعد فالنتين هواي وأزعجه كثيرًا أن يستطيع تلميذ صغير اختراع طريقة جديدة متكاملة للتعليم. لكنه مع عدم تشجيعه لبرايل لم يستطع إبداء رفض كامل في النهاية، لأن براعة اختراع برايل كانت أقوي من أن تتم معارضتها بشكل صريح. وبعد أن عمل كأستاذ في المعهد الوطني للمكفوفين أحيل الي التقاعد في عام 1940 بدافع غيرة من زملاء بعد رحيل أستاذ كان من أهم الداعمين له. كما حاول الموسيقيين حينها تقنين استخدام الجزء الخاص بالسولفاج، لكن لم يلبث أن استعاد مكانته في عام 1947. ولم تتبن الدولة الفرنسية رسميًا طريقة التعليم »برايل» إلا في عام 1854، أي بعد رحيله بعامين. تطورت طريقة التعلم بالطبع واستفادت من اضافات قيمة بذلها المختصون، لكن يظل الأساس الذي وضعه برايل بل والكثير من التفاصيل هي عامود العملية التعليمية الحديثة للمكفوفين إلي الآن. في عام 1952، مع مرور المئوية الأولي لرحيله، تم نقل رفات لويس برايل إلي مبني البانتيوم، الذي تدفن فيه الشخصيات الفرنسية العظيمة، وتعترف الدولة بفضلها. بالطبع هناك شخصيات يتم دفنها في البانتيوم بعد موتها مباشرة أو بعدها بقليل، لكن برايل رغم عظمة اختراعه إلا أن جسده لم يدخل إلي البانتيوم إلا بعد انقضاء 100 عام علي رحيله! وبعد مرور ثلاثة قرون علي كتاب هيرودو عن المكفوفين والذي أهداه إلي المبصرين، وسُجِن لأجله، هل استوعبنا الدرس نحن المبصرون فأدركنا العالم من زاوية مغايرة؟ أم لا نزال ندركه بنظرتنا المحدودة التي نظنها وافية؟