لا يخلو التاريخ المصري القديم من مظاهر العظمة التي تكمن في كل ما خلّفه لنا من إرث حضاري تزداد قيمته مع مرور الزمان وتداول الأيام.ولعل ما تزخر به من عمارة الأهرامات والمعابد والمقابر، وما سُجل علي جدرانها من نقوش ورسومات، وما يُعثر عليه من تماثيل وأدوات، هي نتاج إبداع فكري وفني للحضارة المصرية القديمة، نجد صداه في شتي الإسهامات التطبيقية، وفي فروع العلوم المختلفة من فلك وطب وعمارة وهندسة وزراعة وصناعة وملاحة وتجارة وسياسة وإدارة ونظم اجتماعية وقيم أخلاقية. هذا ما يقوله د. محمد أبو الفتوح غنيم في كتابه »القصة وحياة المصريين القدماء» الصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب. هنا يذكر غنيم أن ما أبدعته القريحة المصرية القديمة في مجال القصص الأدبي هو جانب من جوانب العظمة والإبداع في هذه الحضارة الخلاقة، غير أنه يرجح أن الأعمال القصصية التي وصلت إلي أيدينا من مصر القديمة أقل بكثير من تلك التي عرفها قدماء المصريين أنفسهم، والسبب، علي حد قول غنيم، هو أن معظم السير الأدبية كانت عادة محكية، وانتقلت شفاهة من جيل إلي جيل، ولم يصل إلينا إلا ما دُوّن كتابة وبقي محفوظًا لنا.والغرض من هذه القصص، حسب رؤية الكاتب، هو التسلية والإمتاع إلي جانب ما تحمله من رسائل معينة. البدايات الأولي هنا يؤكد الكاتب أن التراث الأدبي لمصر القديمة يزخر بالعديد من القصص التي لا تخلو في مضمونها من أهداف سامية، ورسائل أخلاقية ودينية واجتماعية، تأتي مباشرة علي ألسنة أبطالها، أو في ثنايا أحداثها، وترسم بعض شخصياتها، في بناء فني محكم، وصياغة أدبية مولعة بالبلاغة اللفظية.أيضًا تتصف معظم هذه القصص بالبساطة والإغراق في الخرافة والمبالغة والسياحة في عالم الأساطير والخيال، ومع هذا فهي تمثل البدايات الأولي لأدب القصة والرواية في تاريخ الأدب العالمي.في كتابه هذه يتناول الكاتب نماذج من هذه الأعمال القصصية، مراعيًا التبسيط فيها حتي يفهمها غير المتخصص، نظرًا لأسلوب ترجمتها الذي يضفي عليها مزيدًا من الغموض في بعض المواقف، علي ألا يخل ذلك بأصالة القصة وأحداثها الحقيقية. هذه القصص تعالج الكثير من الصراعات النفسية والطبائع البشرية التي تتسم بها النفس الإنسانية في بساطة معبرة، وتكشف لنا عن حياة المصريين اليومية سواء في أعمال الحقل، أو الأعمال المنزلية، أو التجارة والمعاملات المادية، أو الملاحة عبر البحار.كما تلقي الضوء علي حياة القصور والرفاهية التي كان عليها أصحاب الطبقة الأرستقراطية من الأمراء والأثرياء، وحياة البسطاء من الفلاحين والخدم وعامة الشعب.كما تمدنا هذه القصص بصورة عن أنشطة الحياة المختلفة كتعليم الأطفال في المدارس والكهانة والسحر، والحياة العسكرية وحياة الصحراء والبادية. صراع الثنائيات هنا أيضًا يري غنيم أن أبرز ما في هذه القصص هو تلك المعالجة البسيطة للصراع الأزلي والذي لا ينتهي ما دامت هناك حياة بين ثنائيات الخير والشر، الحق والباطل، الجمال والقبح، وهذا ما نلحظه بوضوح في أسطورة إيزيس وأوزوريس، وقصة الحق والباطل، وقصة الأخوين، وجميعها تنتهي النهاية السعيدة بانتصار الحق والخير وهزيمة الشر ودحره.هذه القصص أيضًا تلقي الضوء علي العديد من العادات والمعتقدات التي كانت سائدة في مصر القديمة، إضافة إلي ما تعكسه من المشاعر الإنسانية كالعطف والحنو والحزن والفرح والخوف والحنين إلي الوطن وغيرها، بجانب ما تعكسه من مُثُل وأخلاقيات كانت تتصف بها الحياة في مصر القديمة وصورتها هذه القصص تصويرًا دقيقًا، وجميعها مرآة حقيقية غير كاذبة تعكس حياة المصري القديم وأفكاره ومشاعره، وصورة أمينة ووفية عن المجتمع المصري القديم. غنيم يري كذلك أن القصص المصرية القديمة منها ما يكاد يصل إلي مرحلة الاكتمال من ناحية البناء الفني من حيث تطور الحدث وتصاعده حتي الذروة، حيث العقدة ثم الوصول إلي الحل، مع توافر الجوانب الأخري المتصلة بالأبطال والزمان والمكان ومراعاة التصوير النفسي والتعبير عن مشاعر وأحاسيس الأشخاص في القصة، إضافة إلي الصياغة اللفظية التصويرية الجميلة التي ترتقي في بعض أجزائها إلي مرتبة النثر الشعري الرائق، ومثال علي ذلك قصة الفلاح الفصيح، والتي ترسم صورة حية وناطقة عن الوضع الاجتماعي والإداري والاقتصادي لمصر في فترة العصر الإهناسي عصر الأسرتين التاسعة والعاشرة، وفي هذه القصة، يقول غنيم، يحاول الكاتب أن يركز علي الرسالة المستهدفة من هذه القصة وهي ترسيخ مبدأ العدالة ورد المظالم إلي أهلها، والتمسك بالحق والدفاع عنه حتي النهاية.غنيم يؤكد أيضًا أن بعض هذه القصص يتسرب إلي أحداثها الخيال والبعد عن الواقع كما في قصة نجاة الفلاح، وهي قصة فيها حبكة فنية تجعلها تتصف بما تتصف به القصة الحديثة من حيث البناء الفني الدائري الذي يلتئم آخره بأوله ليكوّن دائرة مكتملة، بل وتعتمد علي ما يعتمد عليه الفن السينمائي من استرجاع للأحداث، فيما يُعرف بالفلاش باك، مع التركيز علي بعض المعاني النبيلة كالتفاؤل وعدم القنوط، وألا يجعل الإنسان لليأس سبيلاً إلي قلبه. رقي الحضارة المصرية هنا أيضًا يثبت غنيم أن القصص المصرية كان لها صدًي وأثر في أدب العالم القديم وقصصه، وفي القصص الكلاسيكية في العصور الوسطي، بل وفي بعض الأعمال الأدبية العالمية في العصر الحديث.غنيم يري أيضًا أنه حري بنا أن نعيد قراءة هذا التراث الفني الراقي للمصري القديم الذي عبّر عنه بصدق وشفافية، وأن يُقدّم للقراء حتي يتعرفوا عن قرب علي رقي الحضارة المصرية القديمة وعظمتها، وعلي حياة المصريين القدماء المادية وعاداتهم وأخلاقهم وأفكارهم، ومشاعرهم، وأن نستلهم منه ما يفيدنا في حياتنا اليوم. في كتابه هذا، والذي يبدأ بأسطورة إيزيس وأوزوريس، يضم غنيم عشر قصص منها قصة الملك خوفو والسحرة، قصة سنوهي، قصة أقدار الأمير الثلاثة، قصة استيلاء جحوتي علي مدينة يافا وغيرها، معلقًا علي هذه القصص، كاشفًا بعض الجوانب التي تساعدالقارئ علي فهمها واستيعابها، مقدمًا قراءة وافية لها أدبيًا وتاريخيًّا.الكتاب أيضًا يحتوي علي مجموعة من الرسومات التي يري الكاتب أن هناك علاقة بينها وبين هذه القصص.