سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات الصباحية السبت 4 مايو 2024    المالية: الانتهاء من إعداد وثيقة السياسات الضريبية المقترحة لمصر    إزالة فورية لحالتي تعد بالبناء المخالف في التل الكبير بالإسماعيلية    بلينكن: حماس عقبة بين سكان غزة ووقف إطلاق النار واجتياح رفح أضراره تتجاوز حدود المقبول    الحوثيون يعلنون بدء المرحلة الرابعة من التصعيد ضد إسرائيل    لاعبو فريق هولندي يتبرعون برواتبهم لإنقاذ النادي    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    نظراً لارتفاع الأمواج.. الأرصاد توجه تحذير للمواطنين    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    بعدما راسل "ناسا"، جزائري يهدي عروسه نجمة في السماء يثير ضجة كبيرة (فيديو)    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 4 مايو    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصر
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 07 - 2012

للفنان: حامد ندا رأيناها وهي صغيرة، تلبس الفستان الأبيض وحذاء أحمر يلمع. وشريطا يلم شعرها الطويل الأسود. تمسك بيد أبيها، يسيران في الصباح علي شط مجري الماء الذي يتعرج وسط أراضيه الواسعة. وخلفهما يسير واحد من فلاحيه وعصاه الرفيعة تحت ابطه. وينحني الأب ويجمع لها باقة صغيرة من الزهور البرية بألوان مختلفة. ويختفون عن أعيننا وسط الأشجار.
ونراها ساعة العصر تمتطي مهرها الصغير الأبيض يخب بها خفيفاً. وأثنان من الخدم يعدوان بجوارها.
نراها عن بعد. لا نقترب أبداً. صباها وجمالها الذي بهرنا. نكون في طريقنا ونتوقف. نختلس النظرات إلي القصر. تبحث عنها عيوننا.
نسميه قصراً. وهو بيت كبير من طابقين.
القصر شاهق البياض. يبعد عن الطريق. يتواري وسط أشجار كثيفة. شرفاته ونوافذه بلون بني غامق. خلفه باحة واسعة رطبة تحيط بها أشجار الكافور حيث تمرح بمهرها الصغير. وصيحاتها الواهنة تترامي إلينا.
وتبعناهم مرة وهم يمضون في الصباح وسط أحواض الزرع لا يكاد أحد يلحظنا. نختفي من حوض إلي حوض. وكان أبوها واقفاً مع فلاحيه يتكلمون. ورأيناها تبتعد عنهم. تسير علي شطوط قنوات المياه. كانت علي ما يبدو تتبع نقيق الضفادع. واقتربت من مكمننا. ورأيناها تنحني لتمسك ضفدعاً. والذي قفز مبتعداً عنها. تلوثت يداها وحذاؤها بالطين. وقفت حائرة تنظر إلي يديها وكانت علي وشك أن تمسحها بفستانها حين خرج واحد منا. بلل طرف جلبابه من مياه القناة. واقترب منها. وخشينا أن يفزعها ظهوره. غير أنها مدت إليه يديها. فمسحها. وانحني ليمسح حذاءها. حين سمعنا أصواتاً قادمة عاد إلينا مسرعاً. كانت تحدق إلينا في مكمننا وسط أعواد الذرة. وكنا منبطحين. وعندما جاءوا إليها سارت معهم ولم تفش سرنا.
ورأيناها حين تعود من مدرستها الداخلية بالعاصمة. كانت تنمو هناك بعيداً عن أعيننا. لها صدر ناهد وساقان جميلتان. تسير مع أبيها في نفس الطريق تحمل شمسية ملونة تحمي بها رأسها من الشمس الحارقة وكان هناك دائماً من يصعد إلي أشجار التوت ليملأ كفيه ويقف أمامها ساكناً وهي تنتقي الحبات وتأكلها وأبوها يقف في ظل الأشجار مع فلاحيه يتكلمون.
كنا غير بعيد. نشتل الأرز في أحواض قريبة. معنا نساؤنا. وأطفالنا يجرون علي السكك حولنا. نتوقف حين نراها، ونظل نحدق إليها وقد أخذنا جمالها، تخطو متمهلة تداعب الأحجار الصغيرة بطرف حذائها. وتمر عيناها بنا. ثم تمضي وأبوها في جولتها.
كنا في غيابها قد حفرنا اسمها علي جذوع أشجار الجميز التي تصادفنا ورسمنا وجهها. مستديراً وشعرها ينساب طويلاً علي الجانبين تحيط به شموس صغيرة. وتوقفنا لحظة.. ثم أضفنا دموعاً تترقرق من عينيها.. غير أنها كانت تسير دون أن تلتفت إلي ما يقابلها من أشجار الجميز.
تزدهي واجهة القصر بالنباتات المتسلقة. تأخذ خطوطاً متعرجة بأوراقها العريضة. ونراها في عودتها. والشمس توشك علي المغيب. تقف بالشرفة. ويداها ممدودتان تلمسان أوراق النباتات. تحدق في الأفق البعيد.
في الليل عندما تأتي صاحباتها لزيارتها تتألق أنوار كثيرة في القصر. ونكون علي عتبات بيوتنا نغالب النعاس وانعكاسات الأضواء تترامي إلي الحواري. يحمل هواء الليل إلينا أصوات غنائهن وضحكاتهن الصاخبة. نكف عن ثرثرتنا وننصت. وتحمل نساؤنا الأولاد النائمين إلي الداخل ويعدن. يرق الغناء مع تقدم الليل. تكثر به الآهات ولوعة الأشواق. نسترخي في قعدتنا وقد تأخر بنا الوقت. ثم يسود الصمت طويلاً. وندخل البيوت ونغلق الأبواب.
ورأيناها عاشقة. كان فتي رقيقاً نحيل العود. من أقاربها أو أقارب صاحباتها كما قيل. جاء ظهر خميس. أنزلته سيارة علي جانب الطريق ومضت. كان يلبس سترة زرقاء وياقة قميصه ناصعة البياض. وشعره الأسود الناعم يخفي نصف أذنيه. وضع حقيبته الصغيرة بجانبه وظل واقفاً. ورأيناها تقفز درجات السلم الخارجي وتعدو نحوه. قادته من يده. كانت تضحك لاهثة. ودخلا القصر. لم يمكثا طويلاً بالداخل. بدت متعجلة كأنما تريد أن تريه كل شئ. ويدها لا تزال تمسك يده. وعندما جذبته ليجري معها سحب يده ومشي متمهلاً. عادت لتسير بجواره. تحدثه وتشير بيدها نحو مجري الماء والحقول الممتدة. نظر حيث تشير. وتردد قليلاً وأشار إلي باحة القصر الخلفية. وكانت قريبة منهما. يكاد ظل الأشجار الطويلة أن يغطيها. تفوح منها نسمة رطبة. سارا إلي هناك. كان ينحني ليلتقط أوراق الشجر الجافة ثم يرمي بها. أخذا دورة حولها وعادا للقصر. وظل بالداخل حتي سافر صبيحة السبت.
اعتاد بعد ذلك أن يأتي في نفس الموعد كل أسبوعين. وكانت صاحباتها يأتين أيضاً أثناء وجوده. ويضج القصر بالضحك والغناء.
ونراهما في الصباح يسيران بامتداد مجري الماء. ترك لهما أبوها الطريق الذي أعتاد السير فيه. وبحث لنفسه عن سكة جانبية بين أحواض الزرع. كانت تفلت يده لتقطف أزهاراً بلا رائحة من علي ضفة المجري وتعطيها له. وتعلق واحدة في عروة سترته، وكان يلبسها دائماً في كل مرة يخرجان معاً. ويشم الزهور وترتخي يده بها وبعد خطوات يرمي بها إلي مياه المجري. وكانت تأخذه إلي نورج عاطل تحت شجرة يجلسان قليلاً وتنفض ما علق من غبار بسترته. ثم يواصلان السير. وفي العصر كانا يركبان الكارتة وتقودها علي الطريق خارج البلدة.
أخذته ذات صباح إلي جميزة عند المصلي. قفزت وتعلقت بفرع قريب. التفتت وطلبت منه علي ما يبدو أن يرفعها. تردد لحظة ونظر حوله. ثم أمسك بقدميها ودفعها إلي أعلي. جلست فوق الفرع تهز ساقيها وتضحك. كان هو مستنداً بكتفيه إلي جذع الشجرة. رأيناهما جميلتين أشبه بالصور في المجلات التي تقع صدفة بأيدينا. كنا في حوض قريب "نحش" البرسيم ونحزمه في ربطات. طلبت منه كما بدا لنا أن يساعدها في النزول ومالت قليلاً متأهبة لتهبط وظهرها إليه. مد يديه وأمسكها من أعلي ساقيها. كانت لحظة خاطفة. انزاح الفستان مع حركتها كاشفاً عن فخذيها. دس وجهه بينهما. كانت ترفس وتزمجر. غير أن وجهه استمات في لحمها. ثم سقطت أخيراً وأنكفأت. نهضت ودفعته بيديها. وبدا من وجهها أنها تشتمه. ورأيناه يستدير ويهرول عائداً. وبعد قليل خرج من القصر حاملاً حقيبته، كان يوم جمعة. لم ينتظر السيارة التي تأتي لتأخذه صباح السبت. واضطر للسير طويلاً حتي المحطة. غاب ثلاثة أسابيع وعاد. رأيناه ينزل من السيارة في موعده وخرجت مندفعة لتلقاه.
عادا كما كانا. يتجولان هنا وهناك. يركبان الحمير والخيل وتجلس علي الساقية. وتقشر له البرتقال واليوسفي وهما علي النورج. ووصلا في جولتهما ذات صباح إلي شجرة الجميز. كانت نفس الشجرة. ووقفا يتحدثان ويضحكان في ظلها. ثم قفزت وأمسكت بالفرع القريب وطلبت منه كما بدا من حركة رأسها أن يساعدها. تقدم ورفعها من قدميها. جلست كما في المرة السابقة تهز ساقيها. وقطفت حبتي جميز وقذفتهما إليه. وسقطت فردة حذائها فأعادها لقدمها. وعندما أرادت النزول تأهبت لتنزلق ووجهها إليه. كانت الشمس لاهبة. والجو ساكناً. والعرق يغمر وجوهنا. والكلاب التي تبعتنا ترقد لاهثة علي شطوط القنوات. علق سترته. وكانت علي ذراعه بنتوء في شجرة. وتقدم نحوها.
انزلقت قليلاً. فأمسكها من أعلي فخذيها. انساب جسدها خفيفاً مستندة علي ذراعيها. كان قريب منها. وربما كان يلهث مثلنا. دس وجهه في حجرها. ورأيناها تعافر بين يديه وذراعاه متشبثتان بالفرع واستطاعت أن تدفعه بركبتيها. وسقطت علي يديها. تعثر هو الآخر في تقهقره. نهض مندفعاً إليها. تلقته بصفعة. وقف ذاهلاً ينظر إليها. تناول سترته. نفضها ولبسها وسار باتجاه القصر.
هذه المرة كانت حاسمة. لم نره بعدها. وأغلقت الشرفة نوافذ الطابق الثاني أياماً طويلة. وأضيئت أنوار قليلة في الليل. وخيم صمت ثقيل علي القصر. كانت بالداخل تعاني من الحمي كما قيل.
وعاد أبوها بعد ذلك عندما خرجت مرتدية فستاناً أصفر ووشاحاً أخضر حول رقبتها تلم شعرها فوق رأسها. كانت هزيلة شاحبة. تمشي في بطء. سارت في نفس السكك التي سارا فيها من قبل. وتوقفت عند النورج والساقية وشجرة الجميز. كان الهواء يهب خفيفاً والفستان يلتف حول عودها النحيل. وعادت إلي عزلتها مرة أخري داخل القصر.
اختفت أياماً ثم رأيناها تجلس في الشرف والشمس توشك علي الغياب. تقرأ في كتاب. وأحياناً تسير قليلاً في الباحة الخلفية.
ولمحنا يوماً غباراً في الأفق. وقبل أن تتضح الصورة سمعنا صهيل الخيل. ورأيناها تميل علي الشرفة وتنظر إلي الطريق. كانت كوكبة من الجنود يمرون صدفة. وكانوا كما عرفنا فيما بعد في ريقهم إلي معسكر أقيم حديثاً ناحيتنا. رفع الضابط ذراعه موقفاً الجنود وراءه. كان كما تخيلنا في صبانا الباكر. فارساً علي صهوة جواد يمر صدفة ويراها فيختطفها. ويهرب بعيداً.
كانت بفستان وردي وشعرها مبعثر علي كتفيها. وقف الضابط يحدق إليها مبهوراً. ثم استدار بجنده إلي السكة الفرعية المؤدية للقصر. نزل من جواده وأعطي اللجام لأحد الجنود الذين واصلوا سيرهم إلي الباحة الخلفية.
كان الضابط يعرج خفيفاً في مشيته. الخطوات المتبقية إلي سلم القصر حيث وقف أبوها في استقباله. نظرت إليهما من الشرفة حتي اختفيا في الداخل ثم عادت إلي مقعدها. فتحت كتاباً وأغلقته. ورشت ماء في أصص الزهور المصفوفة علي جانبي سياج الشرفة. ونزعت أوراقاً صفراء من النباتات المتسلقة. ووقفت ساكنة تنظر حولها ثم دخلت وأغلقت باب الشرفة.
ربط الجنود الخيل بالشجر ونزعوا السروج عنها. دعكوا أجسادها بالمياه والقش ووضعوا أمامها أكوام من العلف جاءتهم من القصر. مدوا بطاطينهم تحت الأشجار واستلقوا. خرجت إليهم الوجبات الثلاث من القصر فوق الصواني. وحمل الفلاحون إليهم من الأرض قفصي يوسفي وربطة أعواد قصب. وأعطوهم البراد والأكواب ليصنعوا الشاي وقتما يشاءون.
وفي الليل لمحنا النار الصغيرة التي أوقدوها وكانوا يتحلقون حولها.
رحلوا صباح اليوم التالي دون الضابط. ألقي أوامره إليهم من نافذة خلفية تطل علي الباحة. ورأينا بدلته الميري مغسولة ومنشورة علي الحبال فوق سطح القصر. كان في الداخل يعاني وجعاً في ظهره أو فخذه. لا أحد يدري تماماً. فالأخبار التي تتناقلها النسوة ليست دقيقة دائماً. وكانت العجوز التي تعمل بالقصر تثرثر بها حين تخرج لزيارة ابنها النجار. وكانت تحمل لأبنه في كل مرة تزورهم لفة من الملابس التي تستغني عنها "الأنسة".
خرج صباح اليوم الرابع نظيفاً لامعاً. متكئاً علي عصاً. كانت ترافقه. سارا في الباحة الخلفية قليلاً. وجلسا علي أريكة في ظل الأشجار. وتناولا شاياً مع البسكوت جاءت به الخادمة. وفي اليوم السابع حضر زملاء له في سيارة جيب. وبعد تناول الغذاء. أخذوه معهم ورحلوا.
كان يأتي بعد ذلك وحده في السيارة يقضي يوماً أو يومين ثم يمضي.
نراهما في الصباح يسيران علي الطريق بامتداد المجري. كانا بمجرد الابتعاد عن القصر تتعانق ذراعاهما. وتميل عليه وتضحك دون صوت. هو ثابت الخطو مشدود القامة. يحدثها ملوحاً بيده. حين يضطرهما الطريق إلي عبور قنوات المياه كان يقفز وينتظرها علي الشط الآخر. يرقبها تتراجع وترفع ذيل فستانها وتتأهب للقفز. كان ثقيلاً متراخياً يلعق شاربه بطرف لسانه وينتظر. ونكون في حقل الذرة القريب نقطع الأعواد الجافة ونكومها. نترك ما بأيدينا ونمسك أنفاسنا، ونراها تتردد ثم تتأهب مرة أخري وقد أحمر وجهها. وتقفز أخيراً. تقف لحظة تلتقط أنفاسها اللاهثة. ونراه يبتعد ضاحكاً. وتلحق به وتدس ذراعها في ذراعه.
أحبته نساؤنا. قلن أنه كالبدر. وجهه الأبيض المورد. وشعره الأسود الناعم المموج وعيناه العسليتان. وخصلات شعر صدره منفوشة من فتحة السترة. يستلقي علي النورج محتوياً كل المقعد. ويداه تحت رأسه. مسبلاً عينيه. ونراها تطوف حوله. ثم تقرفص أخيراً علي مقدمة النورج بجوار ساقه المدلاة. ويرخي ذراعه فوق كتفيها. فتتناول يده. تتحسس أصابعه واحداً واحداً. ثم تضعها علي خدها وتطرق ساكنة.
تثرثر نساؤنا ونحن نحمل ربطات أعواد الذرة إلي العربة عن الفرح المرتقب. والسرادق الذي لم تر مثله عين. وعجولاً ستذبح. وراقصات ومطربين يأتون من العاصمة.
نستلقي هامدين فوق أعواد الذرة. وتسير بنا العربة عائدة.
كان مكانهما المفضل في الباحة الخلفية حيث أعدا مظلة ومقعدين طويلين يسترخيان فوقهما في الظهيرة والعصر. وهناك كانا يستقبلان أصدقاءهما ويقيمان حفلاً من حين لآخر. تمتد موائد طويلة فوقها مفارش بيضاء وباقات من الزهور. وتتناثر الأنوار بين فروع الأشجار وتفوح رائحة الشواء. نري الدخان يتصاعد رقيقاً في انعكاسات الأضواء. ويتسلل البعض منا داخل الأحواض ليكون قريباً. وأحياناً يأخذهم النوم العميق في مكانهم حتي ينتهي الحفل.. فيوقظهم الصمت حولهم. كانوا يأتون بطباخين من المدينة. تقف بهم سيارة أمام القصر في الصباح. كانا اثنين ضخمي الجسم يكادان يتشابهان. يسيران نفس الخطوة وخلفهما أربعة من الصبية متقاربين في العمر يحملون فيما بينهم صندوقاً كبيراً به العدة. يمشون في وقار إلي باب القصر الخلفي. يفوح منهم عطر أهل المدن. ونراهم في الليل يلبسون سترات بيضاء..
يقف طباخ منهما في ركن الشواء بالباحة يقلب جسد الخروف وبجواره صبي. ويختفي الآخرون داخل القصر حيث يعدون الأصناف الأخري.
يحتشد الكثيرون في الحفل. أصدقاء الأسرة المقيمون في البلاد المجاورة بنسائهم وبناتهم. كانوا من الأعيان الذين رأيناهم كثيراً من قبل. وضباط من المعسكر القريب يأتون في سيارات جيب يقفزون منها بضحكاتهم الصاخبة.
يستمر الحفل لوقت متأخر. ونكون أمام بيوتنا. ونري الأضواء الكثيرة عندما تخفت. ثم نسمع أصوات السيارات تهدر في عمق الليل مغادرة.
وجاءت أيام لم نره يأتي. وأنتبهنا للنوافذ المغلقة. والمقعد الشاغر دائماً في الشرفة. والزهور الذابلة في أصصها بجوار السياج. كان القصر صامتاً لا يبوح. تثرثر نساؤنا ونحن نتحرك بين أشجار القطن نلتقط الدود من الأوراق. نجمعها في صفائح بركن الحوض وتحرقها في نار كبيرة نشعلها علي السكة. لا نثق كثيراً في الكيماويات التي تعرضها علينا الجمعية الزراعية. نساؤنا حائرات في اختفائه. يقلن أن الرجل الذي يظهر فجأة لا يطمئن إليه أبداً. فهو يذهب فجأة كما جاء. ومن البداية كان يبدو أنه أتي ليقضي وقتاً ويمضي.. وبعد أيام كن يتناقلن كلاماً قالته العجوز لدي زيارة ابنها النجار. "فالأب ذهب إلي المعسكر ليسأل عنه بعد أن طال غيابه. هو يعرف المكان. ذهب إليه من قبل أكثر من مرة حين كان يدعوهم لحفل. يبعد خمسة كيلو مترات. لا أحد يتوه عنه. ركب الكارتة ومعه واحد من فلاحيه تكوم بالمؤخرة. وفي الطريق التقط شيخ البلد الذي كان ينتظره علي المحطة. وعندما وصلوا إلي هناك لم يجدوا المعسكر. وجدوا أوتاداً. وبقايا طعام حامض ونيراناً مطفأة وفوارغ كثيرة من العلب أشكال وألوان. ظن الأب أنه أخطأ المكان. أو ربما انتقلوا إلي مكان أخر مجاور. بحثوا هنا وهناك حتي حل المغرب فعادوا. من غضبه وتعبه مرض. الآنسة حيرن عرفت بمرضة خرجت من حجرتها المغلقة وأفصحت أخيراً. قالت أنها كانت تعرف برحيلهم فهو معسكر متنقل. وأنه في ليلة سفره وعدها بأن يكتب لها ووعدها أيضاً بالعودة في أقرب فرصة."
نرقب القصر عن بعد. كان في صمته كئيباً. وواجهته البيضاء حال لونها يكسوها غبار لا تذروه الرياح. وكانت النباتات المتسلقة مزدهرة الخضرة تنبثق بينها براعم صغيرة تتفتح يوماً بعد يوم بلونها البنفسجي. استمرت عزلتها الصيف كله. ثم رآيناها ذات صباح تقف بالشرفة تلبس روباً بلون أزرق. تحسست السياج بأطراف أصابعها. كان علي ما يبدو مترباً. ونظرت طويلاً بامتداد المجري، وربما رأتنا في حوض القطن ننظر إليها. ثم دخلت.
ورأيناها بعد ذلك تخرج في الصباح برفقة أبيها. كان العمر قد تقدم به قليلاً. يسير متكئاً علي عصاً والشمسية تظللهما، وتقف علي بعد خطوات كما اعتادت وهي صغيرة. حين يكون مع فلاحيه. وكان هناك دائماً من يصعد التوتة ليملأ كفيه لها. وتسير علي شطوط القنوات ترقب الضفادع في قفزتها الصغيرة وتحدق في وجوهنا وتمضي. نخشي مقدم الشتاء. يتساقط الكثيرون منا. لا يكتمل عددنا أبداً في أي مرة نخرج إلي الغيطان. يلفحنا صقيع البكور. تمشي بنا العربة في بطء. نتحلق في صندوقها حول وعاء النار، وشبورة معتمة تحجب الطريق. قليلاً ما نراها تخرج طوال شهور الشتاء. وحين تظهر الشمس صفراء مرتعشة نلمحها في الشرفة تنحني علي أصص الزهور وأحياناً نراها مقبلة علي الطريق ملتفة في ملابسها ثقيلة، ثم تقف فجأة مترددة أمام الوحل الكثيف، وربما لفت انتباهها دخان النار التي نشعلها في ركن الحوض نهرع إليها عندما يشتد بنا البرد. كانت تحدق نحونا ونبادلها النظرات. وتستدير عائدة. ويوماً رأينا جياداً تركض وسط الحقول. كان يوماً دافئاً في أواخر الشتاء. انقشعت السحب وجفت الطرقات. وكنا نزيل ما تراكم في القنوات من طين وقاذورات. كانوا كما عرفنا ليلتها جنود الدورية يقتفون أثر لصوص سرقوا أربعة عجول من عزبة مأمور المركز. وقلنا إنهم مجانين. لم يجدوا غير عزبة المأمور. ومن يدري ربما كان ثأراً. ساروا بالعجول الليل بطوله. كان أحدهم مصاباً مما أعاق هروبهم. وطلع عليهم النهار فاختبئوا في حوض ذرة قريب من القصر. رأينا الحشد ساعة المغرب في الباحة الخلفية. جاءوا بمقعد ومنضدة وأوراق. وجلس الصول وأخرج قلمه. وظل الضابط واقفاً. كانوا علي ما يبدو يعدون محضراً بأقوال الشهود. لم يمسكوا من اللصوص غير واحد أنكر سرقته كما سمعنا للعجول. كان غريباً علي البلدة. رأيناه ممزقاً مورم الوجه ملقي بينهم وسط الباحة. كان يزحف علي ظهره متكئاً علي كوعيه مبتعداً عن الأقدام التي تلاحقه. نجلس متلاصقين علي شطوط القنوات القريبة. تناوشنا راحة قلقة نحسها عادة حين نكون خارج الحشد. كان ضابط الدورية قد خلع لسبب ما سترته. وبحثنا عن مكانها علي جذوع الأشجار القريبة منه. ومع العسكر الواقفين خلفه. وعلي حائط القصر. يتحرك بفانلة نصف كم والمسدس معلق في الجراب بجانبه. بيده زجاجة كوكا كولا فارغة وبيده الأخري عصاً صغيرة مكسوة بالجلد يضرب بها طرف بنطلونه. يذهب ويأتي في الفراغ الصغير وسط من جمعوهم من الأهالي. محدقاً في الوجوه. يتوقف دائماً بعد خطوة من الراقد علي الأرض. وكان ينكمش ململماً أطرافه المبعثرة. ويشير الضابط بعصاه. ونري العسكر يدفعون إليه بواحد من الأهالي. يسأله الضابط دون أن ينظر إليه. كان علي ما يبدو يبحث عن الهاربين. ينصت لما يقوله الرجل وعيناه تجولان في الوجوه. ويلتفت إلي الصول:
- انتظر.
ويصيح فجأة مهدداً بتفتيش البيوت وحرقها إن لم يأتون بهم. ويخيم صمت ثقيل. والوجوه تنظر إليه واجمة. يذهب ويأتي دون توقف. ويشير بعصاه. ويدفعون إليه بآخر. ورأينا الراقد علي الأرض يميل علي جنبه ويهمس بشئ للعسكري الواقف بجواره. واعتدل العسكري في وقفته ولم يقل شيئاً. وصاح به الضابط:
- ماذا يقول؟
تردد العسكري قليلاً. ثم قال مشيراً إلي الراقد علي الأرض:
- محصور يا افندم.
- محصور؟
التفت متعجباً إلي الصول. وقال:
- اكتب أنه محصور. خذوه.
سحبه اثنان من العسكر من تحت ابطيه. حين أصبح خارج الحشد استقر علي قدميه وسار مترنحاً بينهما إلي حوض قريب منا. وقف علي الشط يبول داخل الحوض ملتفتاً إلينا. بدا أنه يريد أن يقول شيئاً. أفزعنا الحاحه في النظر نحونا. تحركنا مبتعدين إلي مكان آخر.
كانت تعتم. وأضاءوا أنواراً معلقة بحائط القصر. ولمحنا وجههاً يطل من النافذة الخلفية. وأبوها علي بعد خطوة منها. كانا يتهامسان من حين لآخر.
جاءت سيارة الشرطة "البوكس" في وقت متأخر. ألقوا بحرامي البهائم في صندوقها وركب العسكر وأخذوا معهم اثنين من الأهالي. راحت امرأتيهما تولولان خلفهما. وانفض الحشد.
وقف الضابط في الباحة الخالية قرب المنضدة. الأوراق فوقها كما هي. لم يكتبوا شيئاً والصول وضع قلمه في جيبه وانتظر جانباً. والأب ما يزال في وقفته وابنته تطل من النافذة. وريح خفيفة تعبث بأوراق الشجر الجافة بأرض الباحة وتدفع بها حول قدمي الضابط. كان يقف مطرقاً، ثم سار قليلاً وعصاه تحت ابطه. كانت ليلة مقمرة والضوء الشاحب يلمس أطراف الزرع فنراها تميل مع هبات الريح. أحسسنا بالبرد يسري في أطرافنا. نخشي أن نتحرك في قعدتنا فنخدش الصمت حوله. التفت نحونا. وبدا أنه لا يرانا. كنا مصطفين علي شط القناة لا تخطئنا عين، والبعض منا يبول في جلسته ابتعد. وجاءه أحد العسكر بسترته. لبسها وصعد إلي السيارة. رأيناه بعد ذلك يأتي وحده، مخلفاً أفراد الدورية علي مقهي في البلد. كان يترك حصانه طليقاً أمام القصر يرعي الحشائش علي جانب مجري الماء، ظنناه في البداية ما زال يبحث عن الهاربين، ثم رأيناه يأتي يوماً بعد يوم، وحدث ما كنا نخشاه. رأيناهما معاً يجلسان في الشرفة. تترامي إلينا ضحكاتهم. وقالت نساؤنا: أنه هو. وضحكن.
يأخذنا الفكر بعيداً. لم يكن الرجل الذي تمنيناه لها. فلا أحد يعرفه مثلنا، يحلو له أمام السوق أن يقود أفراد الدورية مخترقاً زحام السوق. ونكون أمام البائعين ونحس الرجفة تسري في الزحام. يقذف بنا الضغط جانباً ونراه علي صهوة جواده بملابسه البيضاء. ساكناً لا يهتز مع حركة الجواد والكاب يميل علي رأسه. مسبلاً عينيه كأنما يزعجه ضوء الشمس. ويكون العسكري أمامه مترجلاً يهوي بخيزرانة علي الجانبين فينشق الزحام عن طريق يأخذ في الأتساع. والجواد المدرب جيداً يخب خفيفاً رشيقاً يتوقف ثم يمضي، تميل رأسه تكاد تلمس الركاب ثم يعتدل، يأخذون شارع السوق من أوله لآخره ويعودون. ويميلون إلي مقهي المحطة. يدخله العسكر. ويجلس الضابط بالخارج في ظل شجرة يدخن الشيشة والمعلم صاحب المقهي يقعي بجوار مقعده يخدمه بنفسه. يبدون وكأن لا شئ يشغلهم. وفي كل مرة كانوا يأخذون معهم البعض منا. يجرون بين الجياد حتي المركز.
ونأخذ القطار وراءهم. نحوم من بعيد حول مبني المركز. وحين تهدأ الحركة أمامه نقترب. ننظر خلال الباب المفتوح علي مصراعيه. ونري دهليزاً طويلاً شبه معتم. وعساكر يذهبون ويأتون. نقعد بجوار السور الخارجي ننتظر. ويخرج الضابط قرب العصر. يركبون السيارة البوكس ويذهبون. يخيم صمت علي المبني. نختلس النظرات إلي الداخل. ونري الأبواب مغلقة. والقهوجي يجمع أدواته في ركن بالحوش الداخلي. تدب الحركة فجأة في المبني بعد العصر. نري العسكر يخرجون بالمحابيس. يوزعونهم هنا وهناك لتنظيف المبني. عادة ما يكون نصيب أبناء بلدتنا في الخارج فهم يجيدون الحفر وتشذيب الحشائش والأشجار. يرافقهم عسكري بالأفرول وشبشب في قدميه يحملون معهم الفأس والجاروف والمقص والمقاطف. يبادلوننا النظرات في صمت وهم يمرون بنا. يقف بهم العسكري عند نهاية سور المبني. يلقي إليهم بأوامر ويعود. ننظر حتي يختفي داخل المبني ونتبعهم. كانوا بعد أن يتناولوا ما جئنا به من طعام ينهضون للعمل. وننهض معهم. كنا نحمل المقاطف التي يملأونها ونفرغها بعيداً. لا يسمحون لنا باستخدام ما معهم من أدوات. وننظف حول المبني ونرشه بالماء ونزيل ما تراكم من أتربة وطين عن الأسوار، ونمسح ما يكتبه البعض عليها من شتائم في الحكومة. ونقص الحشائش الطويلة حول الأشجار ونقطع الفروع الميتة. ونعمق قناة المياه. ننتهي مع آذان المغرب ونجلس بجوار السور. ونري العسكري قادماً. يشير إليهم فيذهبون إليه. فيعود بهم. وحين يكون في مزاج طيب يشير إلينا أيضاً. فنهرع إليه. ويسألنا إن كنا نريد أن نبيت معهم في الحبس. وننظر إلي أبناء بلدتنا. ونتردد قليلاً. ونقول أننا نريد.
في الصباح نكنس الطرقات الداخلية وننظف المكاتب. بعدها يطلقون سراحنا.
ونكون أمام بيوتنا في الليل نغالب النعاس. ونسمع ركض الجياد المجنون. وتقول نساؤنا أنه هو..
وقبل أن نقفز إلي الداخل نلمح الجياد علي رأس الحارة. وتهمد حركتنا. تدخل الجياد واحداً وراء الآخر. ويكون في مقدمتهم. حين يتوقف جواده تتوقف الجياد الأخري. ويترجل اثنان من العسكر. يدخلان البيت الذي توقف عنده جواد الضابط. كانا يقلبانه رأساً علي عقب باحثين عن الهارب. عادة ما يكون هارباً من السجن أو الجندية. ويفرغان البيت من الأولاد والنساء. محتفظين بصاحبه في الداخل. تترامي إلينا أصوات الضربات، وأنين امرأته أمام البيت. ويكون علي جواده ساكناً في عتمة الحارة ويداه علي مقدمة السرج. نتحرك في قلق. نخشي أن يصدر عنا صوت فيأخذونه معهم وربما أخذونا أيضاً. يسألانه في الداخل أين هو؟ أين ذهب؟. وهو صامت. لا يعرف شيئاً. وتعود لركضها المجنون وسط الحواري.
تقول نساؤنا أنه تقدم لها. وقرأ الفاتحة مع أبيها. وحددوا موعد الخطوبة في الصيف القادم.
ونراه خارجاً من القصر وهي وراءه. يمتطي جواده وينحني كأنما يعدل الركاب ويختطف قبلة من خدها. تتراجع. ويبتعد أبوها عن النافذة. كان يأتي في فترات راحة. نصف يوم. وأحياناً يوماً بليلة. تسقطه السيارة البوكس أمام القصر وتذهب.
ونراها ساعة الضحي قادمين علي طريق المجري. كان أبوها في السنة الماضية قد مهده ووسعه وزرع أشجار أعلي جانبيه.

في المرات التي غابت فيها عنا. كنا نحس عند عودتها بتغير ما في شكلها. تسريحة شعرها. مشيتها. هذه المرة كان التغير كبيراً. امتلأ عودها. صار لها خدان موردان. وردفان ثقيلان يضيق بهما الفستان المحبوك عليها. وثديان عارمان يترجرجان مع خطوتها القصيرة. اللاهثة. يسيران وسط ظلال الأشجار. ويميل بها جانباً. ينحني عليها. يفزعنا تراخي جسدها بين ذراعيه. والتصاقها الشديد به. ونكون في حوض قريب نقلب الأرض ونساؤنا علي السكة أخفين نصف وجوههن في الطرحة وكتمن ضحكاتهن. نظل في انحناءتنا لا يصدر عنا صوت. رغم ذلك كان ينتبه لوجودنا. ويفلتها من ذراعيه. مقترباً من ضفة المجري الذي يفصلنا عنه، يحدق إلينا ويداه وراء ظهره. نترك الحوض. وتهرول نساؤنا لتلحق بنا. نجلس في ظل أشجار بعيدة. نظل في مكاننا حتي يبتعدا ويختفيا عن عيوننا. ونراهما في عودتهما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.