مقرر المحور الاقتصادي بالحوار الوطني: صفقة رأس الحكمة فرصة لإعادة النظر في السياسات الاقتصادية    إبادة «فراشات غزة» بنيران الاحتلال| إسرائيل على قائمة مرتكبي الانتهاكات ضد الأطفال    مش مكتوبة ليهم.. الداخلية السعودية تعيد أكثر من ربع مليون حاجا    أبرزهم «أفشة»| الزمالك يراقب خماسي الأهلي حالٍ رحيلهم عن القلعة الحمراء    السيطرة على حريق هائل بمخزن كرتون فى فيصل    بسبب خلافات أسرية.. فرّان يُضرم النيران بجسده في بولاق الدكرور    بطولة عصام عمر وطه الدسوقي.. بدء تصوير فيلم «سيكو سيكو»    «مرحلة ما يعلم بيها إلا ربنا».. لطيفة تكشف سبب اختفائها    محمد ناير: لم أتوقع النجاح السريع للمسلسل | حوار    تعرف على أهمية يوم عرفة    بث مباشر الآن.. الحجاج يؤدون الركن الأعظم على جبل عرفات اليوم (شاهد وقفة عرفة لحظة بلحظة)    لمنع الإصابة بسرطان الجلد.. طبيب يحذر من التعرض لأشعة الشمس    واشنطن تقرر نقل الرصيف العائم مؤقتا من غزة إلى أسدود    وزير المالية الأسبق: أؤيد تدخل الدولة لضبط الأسعار وحماية المستهلك من جشع التجار    يورو 2024 - ناجلسمان: من المهم ألا يقتصر التسجيل على لاعب واحد.. ولهذا سعيد ل موسيالا    محمد شريف: كيروش قتلني.. وحقيقة البند الذي يمنعني من اللعب لفريق مصري غير الأهلي    كرة سلة - سيف سمير يكشف حقيقة عدم مصافحته لمصيلحي    بعد تدخل المحامي السويسري.. فيفا ينصف الإسماعيلي في قضية سعدو    ملف مصراوي.. فوزان للأهلي والزمالك.. ورسالة قوية من منتخب ألمانيا بيورو 2024    مقرر المحور الاقتصادي بالحوار الوطني: ميزانية الصحة والتعليم اختيار وليس قلة موارد    وزير المالية الأسبق: مفهوم التنمية يتجاوز مجرد استغلال الموارد الاقتصادية    شديد الحرارة والعظمى 43 درجة.. تعرف على طقس يوم عرفة    مصرع طالبين غرقا في نهر النيل بقرية الديسمي في الصف بالجيزة    رئيس بعثة حج الجمعيات الأهلية يكشف الحالة الصحية لضيوف الرحمن بعد تصعيدهم لعرفات    469 ساحة جاهزة لصلاة العيد.. "أوقاف المنوفية" تعلن أماكن صلاة عيد الأضحى بمراكز وقرى المحافظة    ربنا يصبّر قلوبهم.. حزن فى المحلة بعد غرق طفل وشقيقه خلال محاولة إنقاذه    «العلاج الطبيعي»: غلق 45 أكاديمية وهمية خلال الفترة الماضية    محمد علي السيد يكتب: دروب الحج ..سيدي أبوالحسن الشاذلي 93    موسيالا أفضل لاعب في مباراة ألمانيا ضد اسكتلندا بافتتاح يورو 2024    «مفيش ممنوع» يجمع لطيفة مع كاظم الساهر    «إللي حصل فيه مش قليل».. رد ناري من شوبير على رفض أحمد الطيب المصالحة معه    عمرو سعد يشارك في دراما رمضان 2025 بتوقيع محمد سامي    على الحجار: صلاح عبد الله كتبلى أغنيتين ولم يأخذ أجرهما واعتبرهما إهداء لى    جيش الاحتلال يستعد للهجوم على لبنان.. وإسرائيل تدرس العواقب    بيسكوف: مقترح بوتين للتسوية غير محدد زمنيا لكن الوضع فى الجبهة يتغير    لا تفوت هذا الدعاء في يوم عرفة.. ردده بين العصر والمغرب وانتظر الاستجابة    الصحة العالمية قلقة بشأن الأزمة الصحية المتزايدة في الضفة الغربية    أعراض التهاب مفاصل الركبة وطرق علاجها المختلفة    طريقة عمل لحمة الرأس مثل الجاهزة.. اعرف أسرار المطاعم    يوم عرفة 2024.. أفضل الأعمال المستحبة وخير الدعاء المستجاب وكيفية اغتنامه    «البحوث الإسلامية» يوضح أفضل كلمات دعاء فجر يوم عرفة: احرص عليها    «زي النهارده».. وفاة وزير الداخلية الأسبق النبوي إسماعيل 15 يونيو 2009    عيار 21 يعود لسابق عهده في وقفة عرفات.. أسعار الذهب اليوم بالصاغة بعد الارتفاع الكبير    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء في بداية الأسبوع السبت 15 يونيو 2024    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم بلدتي جيوس شمال قلقيلية وبيت أمر شمال الخليل    ارتفاع سعر الذهب اليوم بالسعودية وعيار 21 الآن السبت 15 يونيو 2024    «كاف» يعتمد دورات تدريبية في مصر لرخص المدربين بينها «المسار السريع»    عامر حسين: اختيار بيكهام أفضل لاعب بمباراة الزمالك وسيراميكا خطأ    حظك اليوم برج الأسد السبت 15-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    محافظ الغربية يواصل متابعة الاستعدادات لعيد الأضحى المبارك    مصرع طفلة وشقيقتها الرضيعة سقطتا من شرفة منزلهما بالشرقية    توجيه عاجل من رئيس جامعة الأزهر لعمداء الكليات بشأن نتائج الفرق النهائية    رئيس الطائفة الإنجيلية يشارك فى حفل تخرج الكلية المعمدانية    نقيب الإعلاميين يهنئ السيسي بحلول عيد الأضحى    قد تسبب أمراض القلب، ما هي أضرار المشروبات الغازية على الجسم؟    «التنسيقية».. مصنع السياسة الوطنية    وكيل «الصحة» بمطروح: تطوير «رأس الحكمة المركزي» لتقديم خدمات طبية متميزة للمواطنين    نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الكبير بالمحلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حذاء
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 07 - 2012


1
وصل إلي المطار منذ ساعة فقط، وهو الآن مضطر الذهاب إلي المكتب.
كان متعباً جداً والظلام يغمره بالدفء، والكسل.
يقود سيارته ببطء متعمد.
يود لو أنه لا يذهب إلي المكتب.
يود لو أنه لا يذهب إلي المنزل أيضاً.
اليوم عطلة.
الوقت متأخر.
موقف سيارات المكتب خال ...
يغتنم الفرصة قبل أن تتسرب من عقله فكرة الجرأة التي تزوره نادراً، ويركن سيارته في المكان المخصص للمدير العام، السيد وجيه.
تحتل سيارته المكان بسهولة. يتمني لو أنه يستطيع أن يحتل مكان السيد وجيه بالسهولة نفسها.
يقف يتأمل مظهر سيارته في هذا الوضع الجديد.
السيارة تأقلمت بسرعة، وبدت أكثر روعة وتألقاً.
أما هو، فلم يتغير، بقي متعباً، مرهقاً، قرفاً.
2
يدخل المصعد. يغلق خلفه تلقائياً، فيُحشر مع رائحته .. مزيج من دخان أربعين سيجارة يومياً، وبختان صباحيتان من عطر رجالي نسي اسمه، وعفونة مجهود تراكمت في مكان ما بداخله لأنه أبداً لم يستخدمه.
لأول مرة ينتبه أن جميع الأزرار نظيفة، عدا زر الدور السادس... الطابق الذي به شركته.
تري هل هو السبب؟
ينظر إلي أصابعه.
نعم، أصابعه متسخة جداً، ولكن مم؟
وهل هي هكذا دوماً؟
يصل إلي مكتبه، الباب ذاته منذ عشرين سنة.
عشرون عاماً.. وفي كل عام يمضي ثلاثمائة وثلاثة عشر يوماً، ويده علي مقبض هذا الباب.
عشرون عاماً.. وهو مسئول عن مكتب السيد وجيه، وعن كومة من بشر وكومة من مفاتيح.
يشعر دوماً كأنه دباسة ورق كانت لامعة، حديثة، وضعت علي طاولة مديره منذ عشرين عاماً في لحظة ولع عابر ثم نسي الجميع سبب وجودها.
لا يدخل مكتبه.
يغير رأيه ويتجه إلي مكتب السيد وجيه.
يدير المفتاح، ويفاجأ بأن الباب غير مغلق كما تركه، قبل سفره خلال عطلة نهاية الأسبوع.
ربما يكون قد نسي إغلاقه، فهو يسهو أحياناً. لا ليس أحياناً، بل كثيراً.. يسهو، ينسي، يغلط، يكسل، يهمل، يرتكب حماقات.
وفي كل مرة كان يعتقد أن الحظ حليفه، فلا ينتبه السيد وجيه، وكان يحمد الله علي ذلك، وعلي أنه منحه القدرة لتدارك الوضع قبل فوات الأوان في كل مرة.
لكنه كان مخطئاً.
لم يكن هناك داع لأن يحمد ربه، أو يشكر حظه، علي الأقل ليس لهذا السبب، لأنه اكتشف في اليوم الثاني بعد السبعين، بعد أن ووري مثواه الأخير في هذا المكتب، أن السيد وجيه يسهو كثيراً، وينسي، ويغلط، ويكسل، ويهمل، ويرتكب حماقات، و ... ولماذا يصر أن يلقبه "بالسيد" وجيه، حتي بينه وبين نفسه؟
بقدمه فتح الباب، ودخل مكتب وجيه.
3
كانت جالسة علي المكتب، لا ترتدي سوي حذاء جلدي طويل، ذهبي اللون.
حذاء.. وحمرة قانية تستر شفتيها العاريتين ..
تظاهرت بأنها لم تره.
الاستثارة جعلت حلمتيها تنتصبان بشدة، أو لعلها برودة التكييف في المكتب.
تحنط عند المدخل .. ثم أسرع وخرج، مقفلاً الباب خلفه.
قلبه يخفق.
يخفق بشدة.
إذاً لديه قلب ليخفق بشدة.
قلبه اخترق صدره.
حلمتاها اخترقتا صدره، ورئتيه، فتسرب منهما زفيرعتيق، قديم، غبر ...
لحظات، وفتح الباب مرة أخري.
أراد أن ينطلق إليها، يتحسس كعب حذائها والزغب الناعم، الأشقر، علي فخذيها.
أراد أن يرشفها، يستنشقها، يعضها، يلتهمها، أن يصعد إلي السماوات ويتسلق تحجر حلمتيها.
أراد أن يشفط قطرات وجودها قطرة..
فقطرة ..
فقطرة ..
لكنها اختفت.
4
حاول جاهداً شد تلك الثواني من الماضي، واستحضارها إلي الحاضر المستمر.
شتم تردده، ارتباكه، جبنه.. كرشه.
كم تمني أن يكون ما ليس بإمكانه أن يكون.. كم تمني مجرد أن يكون.
لكنه، هو، هو ذات نفسه.
نفسه التي لم تتغير عندما تألقت سيارته في موقف المدير.
نفسه التي تمضي ثلاثمائة وثلاثة عشر يوماً في العام تصعد المصعد ذاته، وتدير المفتاح ذاته لتفتح المكتب ذاته، وتجلس الجلسة ذاتها، وتبدي الآراء الاجتماعية، والدينية، والسياسية ذاتها، وتستخدم النعوت ذاتها لشتم الزوجات ولوم الحكومات .. مثلها مثل 99و9 من سكان العالم العربي!!!
كيف لنفسه أن تعرف بأنها ستتعرض يوماً لغزو كهذا مثير، رائع؟ بل حاد، مؤلم، لاسع، كملايين الدبابيس الصغيرة تخترقه، تحرقه، من الخارج إلي الداخل إلي الخارج.. تذكره بأمور تركها في صناديق ألعابه، في حضن أمه، في فراش حب، عندما كان يحب.
مر بذهنه طفل يجلس علي الرمل يتابع بذهول برقاً يرسم خلجات كهربائية تمتد من أطراف السماء إلي أطراف المحيط...
ويوم قريب بعيد عندما كانت تكفيه ريشة حمام متسخة ليحلم بمدن رمادية تغازلها الغيوم، وأخري زرقاء تلمع تحت أطراف أصابع قدميه ...
تذكر طفلاً لسعته نحلة، فاكتشف مساحات جسده عبر انتشار التورم المؤلم ... كيف جني علي نفسه لهذا الحد؟
بل هو لم يجن علي نفسه، هي التي جنت عليه. هو يريد أن يحلم، أن ينطلق بخطوات جريئة ليمشي علي سطح الماء، علي سطح الهواء، علي سطح النار.
يريد أن يحيا حياة لا دخل لنفسه فيها... نفسه التي تزنَ عليه، تعكر عليه، وتمارس رقابتها حتي علي ما يصوره له ذهنه، عندما يسرح قليلاً، أو كثيراً، عن عالمه، لتعيده مشحوطاً من ياقته.
5
جلس لاهثاً خلف مكتب المدير، وتظاهر بأنه يتحدث بالهاتف، يتخذ قرارات مهمة.
أول قرار كان بفصل خالد المزعج، الثرثار، الذي يشاركه مكتبه، والذي كالطفل الصغير، يبكي ويركض يشتكي للمدير في كل صغيرة.
طار خالد!
ثاني قرار هو فصل مريم، لأنها لا تحبه، ولا تعامله بما يحظي به الباقون.
حاول مراراً التقرب إليها. يمازحها، فتخرج المزحة ثقيلة، سمجة.
يقبل يدها احتراماً، فتسحبها وتبتعد عنه.
يسحب لها الكرسي لتجلس عليه، فتصرخ به وكأنه يود لها أن تقع. وفي كل مرة كانت تحرجه أمام الجميع.
طارت مريم!
كالطفل أخذ يلهث ويدير الكرسي الوثير عشرات المرات. يدور ويدور حول نفسه، حول أفكار وخواطر تناثرت، تبعثرت، تطايرت، انتشرت علي الطاولة، والكراسي، والأرض، والتصقت بالستائر والسجاد والمستندات.
يدوخ، ويلهث، ويدير الكرسي، ثم يستقر وجهه أمام خياله في الشباك.
ثالث قرار هو ..
هو في الأساس أول قرار فكر فيه، ولكنه تحايل علي نفسه، لعل نفسه تعتقد بأنه أكثر نضجاً.
أهم قرار هو تعيين صاحبة الحذاء الذهبي سكرتيرة خاصة به. تجلس في حجره، ولا تلبس سوي ذات الحمرة القانية، وحذاء طويلاً .. بلون أسود.. أحمر.. أخضر.. أصفر.. برتقالي مع أزرق، وألوان كثيرة تبدعها لأجله، يتعرف علي العالم من جديد عبر مساحات ساقيها المستورة، ومساحات ساقيها المكشوفة، في مكتب بارد التكييف!!
6
استشعرها، قبل أن يراها.
أو بالأحري، أحس بنفسه الخبيثة تريد أن تبعده مرة أخري عن هذا العالم الرائع، فعرف أنها عادت.
كان شعوره بمتعة وجودها، دون أن يراها، شعورا شديداً، قوياً، حياً، بالكاد يطاق.
هذه اللحظة التي هو فيها الآن، تستحق كل سنوات الانتظار ..
تستحق كل الكلام المؤذي الذي انهال عليه من وجيه.
تستحق كل إهانات مريم، وسخافات خالد.
تستحق متاعب الأولاد الثلاثة، والزوجة، والفواتير، والمواصلات، والزحام، والديون، والقميص الذي خطر له اليوم أن يكويه، والجوارب التي غلسها ليلة البارحة قبل النوم .. و ..
كم هو أحمق!
حوله طير ذهبي مغناج، وهو يفكر بالزفت وجيه وبالكي والجوارب!!
هذه اللحظة تستحق الكثير. لعله هو الذي لا يستحق.
وجودها، مجرد وجودها في الغرفة نفسها يكفيه. لا يريد المزيد، لا يريد ..
لا يريد أن يفسد هذه اللحيظة التي دفع ثمنها ملايين من لحظات تافهة، جوفاء، بلهاء، حمقاء.
لن ينظر إليها مرة أخري.
لن يلتفت.
إنه يراها داخل كيانه، وسيظل يراها.
إنها تلعب بكافة أوتار جسده، وهمساته، وأوجاعه.
لن يشعر بعد الآن بثقل حياته الخفيفة، الفارغة. يمكنه الآن تحمل عشرين، بل أربعين، عاماً آخر..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.