في رواية الشبراوية الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب 2018 للقاص والروائي المصري سمير فوزي ينتج الخطاب الروائي قدراً مهماً من طاقات الدهشة فيه عبر القدرة علي المزج بين المدنس والمقدس، في فضاء سردي مساحته محدودة ويتسم بالتكثيف تتجلي فيه طبيعة الإنسان بغموضه وغرابته وقدرته علي استيعاب تداخل المقدس والمدنس وامتزاجهما في تركيبته. يبدو النموذج الإنساني الذي تطرحه الرواية نموذجاً غرائبياً مخاتلاً ويتسم بالديناميكية والتبدل السريع، يبدو ساحة للغرابة وغابة للمفاجآت، في لحظة يتجلي هادئاً مستقراً زاهداً عفياً عفيفاً، وفي لحظة أخري لاحقة يتجلي في قمة القلق والطمع والمادية ويسيطر عليه المرض بكافة أشكاله النفسية والبدنية. من هذه النقطة تتحدد القيمة الجمالية الأبرز في خطاب هذه الرواية الذي لا ينشغل برسالة معينة بقدر ما يتتبع هذا النموذج الإنساني الطريف والغريب ويتقصي أثره. الإنسان في هذا السرد مزيج من الخير والشر إلي درجة تجعله نموذجا أسطوريا مكتملا. فهو قادر علي أي شيء ويحتمل في حقه كل الأفعال دون سيمترية مسبقة أو نسق ثابت. الرواية بها عديد من من الشخصيات التي تنطبق عليها هذه السمة من هذا الامتزاج والاختلاط بداية من الحاج جلال وشخصية سعدية أم صالح، ووالد جلال الرجل النسوانجي الذي تختفي جثته علي نحو ما يحدث مع الأولياء بعدما يموت ساجداً. دائماً يأتي الموت في الرواية علي نحو مفاجئ ومخاتل، علي نحو ما يأتي الخرس والعجز والضعف والرغبة في الهروب إلي إسرائيل برغم البطولة وبرغم الجانب الأصيل. ليتكرس قدر هائل من التناقضات وتصبح قيمة مهيمنة علي عوالم هذه الرواية وشخصياتها بشكل عام. فالحاج جلال يأخذ من بداية الرواية هيئة مقدسة بدفتره ومصطبته التي استطاع الدفاع عنها وحمايتها عبر السنين وهو ما يمنحها هي الأخري طابعاً مقدساً أو يصنع منها أسطورة جديدة أو يمدها بقدر من الغرابة الموحية بهذا الطابع الأسطوري، وبرغم هذه الهيئة المقدسة التي تأتي في بداية الرواية يحدث قدر من التبدل والتحول عبر استجلال سيرة الرجل ومسيرته الطويلة بداية من قريته في المنوفية واستقراره بشبرا وقصة شراكته مع أم صالح. فيبدو الرجل ملاكاً في لحظة ثم شيطاناً في لحظة أخري، ينزع إلي الزهد والوقار والعفة علي نحو ما كانت أمه، ثم في لحظة ينقلب إلي شيطان حاقد ويميل إلي الخيانة والشماتة حتي في المرأة التي آوته وساعدته. الأمر ذاته من امتزاج المقدس بالمدنس نجده في قرينه أو ظله الشيخ شحات الذي هو رجل تلاوة ولكنه غير أصيل لأنه يقلد الشيخ عبد الباسط، ثم هو بعد ذلك كذاب يعيش علي وهم معين، ويفقد حنجرته ويختفي بشكل غامض ثم يعود علي النحو ذاته من الغموض ودون مبرر، ثم هو بعد ذلك يقترن بعمل صعب فهمه وهو جز عضو الأبله كما لو كان يطبق عليه حدا شرعيا يصاب بعده بالمرض. وهكذا بقية الشخصيات. علي أن هذا الامتزاج والتداخل بين أشياء وعناصر وقيم دلالية تبدو متناقضة ليس مقصورا علي المقدس والمدنس فقط، بل يتجلي كذلك في تداخل القديم مع الجديد، فالحكايات والأسرار تتجاور مع بعضها علي نحو طريف مصفوفة في فضاء السرد بتداخل لا يفصل بين ما يبدو تاريخياً موغلاً في القدم وبين آني أو حديث وعصري وجديد. بين تقليدي راسخ وعصري يسعي للتثبُّت. هناك نوع من الديناميكية المسيطرة بشكل تام علي كافة عناصر الرواية من شخصيات وزمان ومكان، حتي المكان يبدو أسطورياً وثمة إشارات موحية دائما من الخطاب بأن هذه الأماكن لها صفة تعلو علي الطبيعة الإطارية للمكان، فهو ليس وعاءً للحدث بقدر ما هو فاعل مواز، علي نحو ما نجد لدي القرية التي نشأ فيها جلال وخرج منها ويصرح الخطاب في حقها بمقولة دينية (الظالم أهلها) ليسمها بهذا الطابع التاريخي والأسطوري وكأنها تلك القرية القرآنية التي تتجدد باستمرار، وليستند سرد الرواية علي السرد القرآني المقدس الموثوق به خبراً في الثقافة المحيطة للمتلقي. والأمر نفسه مع الرشّاح الذي يبدو كما لو أنه مجمع للجثث، ومصيدة تسقط فيها النفوس الفاسدة أو الظالمة، بينما يقابل الرشاح المقابر رمز النوم الهانئ والاستقرار، وهذا ما يكون في حق نفوس أخري طيبة مثل أم جلال أو الريس معوض الرامز للفن والجمال في هذا العالم الأقرب للتدنيس. والأمر ذاته فيما يخص طبيعة البيت الكبير الذي يأخذ طابعاً أسطورياً لما يتسم به من المجهولية والامتداد كما لو أنه غير محدود، بما يجعله منفتحاً في دلالته علي الوطن أو أي مكان يبقي رابطاً بين هذه العائلة وجامعاً لها ودليلاً علي بانيه الأول الجد الذي يربط بين كل هذه الفروع. علي أن تشعيب العائلة وتفريعها علي هذا النحو يسهم في إنتاج هذا المنحي الرمزي ويجعل الرواية أكثر دلالة علي فكرة الوطن أو الأمة التي تتفرع وتتفرق بها السبل ويأخذ أهلها مناحي شتي يغلب عليها التعارض والتبدل وكأن هذه الفروع تعود إلي ما في الجذور من تدنيس قديم تأصل عبر والد جلال، أو للدلالة علي ما استجد علي المجتمع المصري من التحولات والتبدلات الثقافية والإنسانية وتغيرات أخلاقية لحقت الإنسان المصري ومثلت انحرافا له عن الجذور والازدهار الحضاري القديم المتمثل في الحضارة المصرية القديمة أو عصور الازدهار المسيحية أو الإسلامية، وهو ما يحسب في النهاية للرواية التي استطاعت أن تنتج هذه الدلالات دون مباشرة أو صخب بل همست بهذا عبر رمزية موحية وفاعلة تحتاج إلي قدر عال من التأمل والتأويل الذى يجعل النص منفتحا على معطيات العقل القارئ وليس محدودا بحدوده المادية أو لغته وحسب. الطريف دائماً فى هذه الرواية والمحفز على التفكير هو أن هذه الطبيعة الغرائبية للشخصيات لكونها مركبة ومعقدة ليست مبررة، بل مفتوحة على المطلق، فلا شيء مبرر على الإطلاق من الأفعال الغريبة لجلال الذى يتبدل لشيطان يتجسس على المرأة التى آوته وساعدته، وكذلك الأمر مع بقية الشخصيات، بل تبدو مصائر هذه الشخصيات كلها أشبه بالقصص القصيرة ذات النهاية المفتوحة وهو ما يتناسب مع حقيقة الطبيعة الإنسانية الغامضة على الدوام وهذا هو الأقرب للواقع الذى يعاينه الإنسان فى الحياة، فلا يكون لدى المتتبع للبشر فى الحقيقة تصور كامل يبرر أفعالهم ويجعلها مستوعبة منطقيا، وهكذا كان السرد فى هذه الرواية حيث لم يدّعِ امتلاك الحقيقة الكاملة عن كل شخصية وطرحها فى إطار من التبرير الكامل، بل تركها مبتورة على هذا النحو فتكون منفتحة على احتمالات القارئ وتبريراته أو وفق رؤيته هو وكيف يمكن أن يبرر هذه الأفعال الغريبة الصادرة عن الشخصيات أو أنه يتقبلها كما هى فى إطار عام من الغموض الذى هو أقرب لحقيقة الإنسان كما أسلفت القول. ثمة أجزاء فى الحكاية التى يقاربها خطاب الرواية السردى محذوفة أو مسكوت عنها ليست مرتبطة بالنهايات أومآلات الشخصيات ومصائرها، بل ترتبط بتفاصيل تبدو عادية ويمكن فهمها مثل زوجات الحاج جلال الأربع اللائى أنجب منهن كل أبنائه هؤلاء فتشتتوا فى البلاد وتفرقوا فى كل مكان، هو ما يمكن فهمه بميل خطاب الرواية إلى قدر من التكثيف والتركيز على عناصر معينة فى بنية هذه الحكاية وجسدها، فهو يركز على مشهد الموت وعلى أصل الحاج جلال بما تركّب وتجذّر فيه من الخير والشر وعلى قصة كفاحه وتضخم عائلته وعلى البيت الكبير والمصطبة المقدَّسَيْن، ثم على هذا القرين أو الرفيق الذى لازمه وهو الشيخ شحات بطبيعته المركبة والغامضة هو الآخر، ثم يركز على الدفتر الذى يدون فيه تاريخ العائلة وأسرارها وعلى بعض الفروع دون بعضها الآخر بما قد يكون فى هذه الفروع من دلالة على امتداد هذا الطابع من التداخل والامتزاج بين الخير والشر، مثل الشيخ معتز صاحب الجمعية الخيرية العاملة فى مجال البر والعطايا ومساعدة الفقراء والمحتاجين وهو نفسه متهم ومجرم بزواج القاصرات، وهو ناجح فى جانب العمل والتجارة وفاشل فى جوانب أخرى ولا يرضى عنه الجد. وكذلك ابنه الحفيد المهاجر إلى إسرائيل ويعده جده صهيونيا يمنعه من الصلاة على أبيه برغم نجاحه فى العمل وحرصه على الارتباط بمصر والوفاء لها ولذكرياتها ولتاريخ جده. هنا نجد الجد نموذجاً أسطورياً عابراً للأزمان، يموت بعد أبنائه ويراقب أحفاده ويعرف عنهم كل صغيرة وكبيرة من الأسرار كما لو أنه يخرج عن الطبيعة البشرية إلى نموذج فوقى أو نموذج أعلى يحيط بكل شيء. وكل هذا دون مبرر فيزيقى واضح فلا كشف عن مصادر معرفة الجد بهذه الأسرار. وهو الذى يعاقب المخطئين كما يحدث مع أم آية التى تلهو مع خطيب ابنتها. لكنه هنا يعرف عبر الابنة التى أشفقت على الأب ولم تبلغه وأبلغت الجد وكأن هذا الجد أكثر صلابة من الأب برغم وهنه وشيخوخته. ليكون هنا نوع من المغايرة على طبيعة الجد، فيرتد من حيث مصدر المعلومة إلى طبيعة بشرية خالصة ولكنه يتلبس فى طريقة عقابه ببعض الغرابة والأسطورية حيث يحبسها فى غرفة سرية غامضة وغريبة فى البيت الكبير، لتتشكل الشخصية على هذا النحو الدائم من التبدلات والتحولات المفاجئة التى يمنح بعضها قدرا كبيرا من الغرابة أو المفاجأة. بعض هذه الغرائب يكون كوميدياً مثل ذلك المشهد الذى يتابع فيه الحاج جلال مباراة كرة القدم فى الدورة الرمضانية ثم يحتج على الحكم وينزل إلى أرض الملعب برشاقة ويستولى على الصافرة ويصر على إدارة المباراة فينصاع له اللاعبون ويديرها بكفاءة شديدة وسط هتافات الجماهير وضحكاتهم، ليكون المشهد منفتحاً على طاقات رمزية تتصل بفكرة العدالة وبسمةٍ مهمة من سمات هذا النموذج الإنسانى وهى العدل برغم أنه هو نفسه الذى غدر بأم صالح دون أدنى عدل حين كان فى مقتبل حياته. ثمة سمت سردى خاص فى تعامل الرواية مع عنصر الزمن، فالحكايات الفرعية والجذور التاريخية للشخصيات تبدو مستعادة وفق الحاجة بحسب نظام يمكن تسميته بالتقديم بالمجهول أو الاقتحام بالمجهول، فيعتاد خطاب الرواية على إقحام الحادثة أو الواقعة بغرابتها وغموضها أو تقديم الشخصية مجهّلة للقارئ ثم يحدث بعدها نوع من الارتداد إلى الجذور ليكون هناك استجلاء لقدر ما بها من الغرابة، على أن هذا الاستجلاء قد يكون مسهما فى إنتاج مزيد من الغموض والتعقيد، على نحو ما نجد مثلا من قصة الكابتن بيومى مع فاطمة وعلاقته معها وهذا الأب الغائب الذى يطرحه السرد بشكل اقتحامى أو مفاجئ وكأنه مجهول لدى السارد كذلك، فيكون لدى القارئ إحساس بأنه لن يجد عنه شيئا أكثر مما تم طرحه، ثم يحدث الارتداد مع جذور هذه الشخصية وماضيها فيكون هناك نوع من اكتمال الملامح والصورة الكاملة لدى القارئ يحاول فى ضوئها فهم هذه الشخصيات التى يختفى بعضها على نحو غامض كما أسلفت وهو ما تكرر مع والد جلال ونادر زوج فاطمة الذى بدل دينه ويختفى فى حادث الشجار على بناء كنيسة فى المنطقة. وهذا النسق من التقديم بالمجهول أو إقحامه فى السرد مرة واحدة بوصفه حدثا آنيا أو صورة لحاضر الشخصية ثم الارتداد إلى الماضى لاستجلائها يصنع هذا النسق نسقا آخر من المجاورة للماضى مع الحاضر وصفِّهما معا فى مساحة سردية صغيرة، أو يصنع نظاما من الارتداد الدائم من الحاضر إلى الماضى فى عدد كبير من الوحدات السردية، فلو أن الرواية تحتوى على سبيل التمثيل على ثلاثين وحدة سردية فرعية فإن ما يحدث فيها دائما هو هذا النسق الثابت من إقحام الحاضر فى السرد بآنيته الغريبة أحيانا ثم الارتداد إلى الماضى عله يكون السبيل إلى الفهم فلا يحدث إلا مزيد من الغموض برغم اكتمال اللوحة وتفاصيلها، ويكون هناك مساران للأحداث فى الزمن؛ مسار نحو الماضى فى الوحداث السردية الصغرى، ومسار نحو المستقبل فى كافة أحداث الرواية، ثم هناك من حيث بنية الخطاب نفسه ما يمكن تسميته بالزمن الدائرى لأن الرواية بدأت بمشهد موت الجد وانتهت به، لتتعدد وفق هذا تكنيكات التعامل السردى مع الزمن على نحو ينتج قدرا كبيرا من خصوصية هذه الرواية، والزمن ليس آخر ما بالرواية من عناصر تحتاج لتأمل فاللغة كذلك ومحاولة تفصيح العامى والدارج والتفاعل بين الحوار والسرد كلها مما يمكن تأمله والنظر فيه لمحاولة رصد ما ينتج عنها جميعا من الجماليات.