طالب أقصري بجامعة طيبة التكنولوجية يفوز بالمركز الثالث بمسابقة إبداع 12    وزير الري يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين مركز التدريب الإقليمي وجامعة بنها    السيسي يصدر قرارًا جمهوريًا بشأن تشكيل المجلس القومي للطفولة والأمومة    أتكفل بمصاريف علاجهم.. نجيب ساويرس يناشد المسؤولين السماح بدخول المصابين الفلسطينيين لمصر    «التضامن الاجتماعي» تقرر قيد جمعيتين بمحافظتي القاهرة والشرقية    بعد الانخفاض الاخير.. تعرف علي أسعار الذهب اليوم الاثنين 27 مايو 2024    وزير البترول يكشف عدة حقائق عن منظومة الطاقة وسبل مواجهة تحدياتها    الإسكان: تنفيذ حملات لإزالة مخالفات البناء وغلق الأنشطة المخالفة بالمدن الجديدة    بحوث البترول يناقش الأجيال الجديدة من الذكاء الاصطناعي اتجاهات وتطبيقات    أسعار الأسماك في سوق العبور اليوم | 27 مايو 2024    رئيس الوزراء يبدأ جولته بالبحيرة والإسكندرية بتفقد مزرعة نموذجية فى النوبارية    تداول 46 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الإثنين    مجزرة رفح.. الأونروا: غزة جحيم على الأرض وصور الليلة الماضية شهادة أخرى على ذلك    مصر تدين بأشد العبارات قصف إسرائيل المتعمد لخيام النازحين فى رفح الفلسطينية    لليوم الثاني.. تجهيز 200 شاحنة تمهيدا لإدخالها إلى قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم    مواجهة الزمالك والاتحاد.. مواعيد مباريات اليوم الإثنين    كولر يطير لسويسرا لقضاء إجازة خلال توقف الدوري    جوارديولا يحدد موعد رحيله عن مانشستر سيتي    اليوم.. تسليم أرقام جلوس طلاب الثانوية العامة للمديريات    استعجال تفريغ كاميرات المراقبة في حريق مخزن أخشاب بإمبابة    إصابة شخص صدمته سيارة خلال محاولة عبوره طريق إسكندرية الصحراوي بالجيزة    إصابة 3 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بالعياط    عطلة عيد الأضحى للقطاع الحكومي في مصر: مواعيد وتفاصيل    التفاصيل الكاملة لإيقاف تشغيل عدد من القطارات أيام الجمع والعطلات الرسمية    الأمن العام يضبط يضبط 44 كيلو مخدرات قيمتها 4 ملايين جنيه| صور    جامعة القاهرة تحتضن ختام فعاليات مهرجان إبداع 12    وزير الإسكان يتابع مشروعات تجديد أحياء القاهرة الإسلامية والفاطمية (صور)    سيدة الشاشة العربية.. سر الغضب علي هذا اللقب    موعد وقفة عرفات 2024 وأهمية صيام يوم عرفة    وكيل وزارة صحة الاسماعيلية تفاجئ وحدة أبو جريش الصحية وتحيل المقصرين للتحقيق    «الرقابة الصحية» توقع بروتوكول تعاون مع جامعة طنطا لمنح شهادة «جهار- ايجي كاب»    وزارة الصحة توجه نصيحة لدول إقليم شرق المتوسط بشأن مفاوضات معاهدة الأوبئة    عاجل:- توقعات بزيادة أسعار الأدوية قريبًا ومخاوف من نقص الدواء    مقتل وإصابة العشرات في 4 ولايات أمريكية جراء عواصف شديدة    الجزائر: نعتزم إعادة طرح ملف عضوية فلسطين أمام مجلس الأمن    500 ألف جنيه مكافأة لكل لاعب بالأهلي بعد التتويج بدورى أبطال أفريقيا للمرة ال 12    مهرجان كان السينمائى 77 .. مصر تتصدر المشاركات العربية    طلاب الدبلومات الفنية يؤدون امتحان اللغة الفرنسية والحاسب الآلي بكفر الشيخ    ميناء دمياط توقع مذكرة تفاهم مع "علوم الملاحة" ببني سويف لتعزيز التعاون    تشكيل الأهلي المتوقع ضد الفيحاء في الدوري السعودي للمحترفين    بعد قليل، نظر استئناف باقي المتهمين بقضية التوكيلات الشعبية المزورة    ستولتنبرج: الناتو يستعد للعب دورا أكبر بكثير في دعم أمن أوكرانيا    راهول كوهلي يكشف عن خضوعه لتجارب أداء فيلم The Fantastic Four    هل حج الزوج من مال زوجته جائز؟.. دار الإفتاء تجيب (فيديو)    ميدو: إمام عاشور ممكن يلعب في أي مكان حتى لو مدافع.. ولا بد من دعم المنتخب بقوة    الأزهر للفتوى يوضح سِن الأضحية    كولر: لم أستطع الفوز على صنداونز.. لا أحب لقب "جدي".. والجماهير تطالبني بال13    هبوط فروزينوني.. وإنتر ينهي موسمه بالتعادل مع فيرونا في الدوري الإيطالي    أهمية ممارسة الرياضة اليومية.. لجسم وعقل أقوى وصحة أفضل    علي جمعة يوضح معنى العمرة وحكمها وشروط وجوبها: آثارها عظيمة    أستاذ اقتصاد ل قصواء الخلالي: عدم التصنيف القانوني للوافدين يمثل عبئا على الاقتصاد    جيش الاحتلال يعلن اغتيال قياديين فى حركة حماس خلال هجوم على رفح الفلسطينية    أوراق مزورة.. نقابة المحامين تكشف سر تأجيل القيد بالفترة الحالية    ماكرون: لم يكن لدى أوروبا هذا العدد من الأعداء كما هو الحال الآن    قطاع المتاحف: طريقة عرض الآثار بمعارض الخارج تتم من خلال لجان مشتركة    خبيرة: اللاجئون يكلفون الدولة اقتصاديا ونحتاج قواعد بيانات لهم دقيقة ومحدثة    بالتفاصيل.. تعرف على خطوات أداء مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح من سيرة شعرية
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 06 - 2012


1
واقبضْ علي الجمر
سافر شرقًا، سافر غربًا، وارحل أياما وأسابيع، شهورًا أو سنواتٍ، لن تصبرَ عن أرضٍ ولدتْكَ، وعن وطنٍ تنشطرُ اثنيْنِ وأنت تحاوره وتداورُه، في شطرٍ منك تُباركهُ وتُقدّسه، وبدمعك تغسلُ جبْهتهُ، وتظلّ تعانقهُ مفتونًا حتي الموت. وبشطرٍ آخَرَ منْكَ تشاكسهُ وتثور عليه وتلعنهُ، وتراهُ دميمًا في عينيْكَ، تُحدّقُ فيه بلا صوت. هذا قدرُكْ. هذا قانون وجودكَ ممتَدٌّ في كلِّ نسيج حياتكَ، فاقبلْهُ حينًا، وارفضه حينا، لكنك في الحالين تظلُّ الذابحَ والمذبوحَ معًا، الغادرَ والمغدورَ معا، فاقبض بيديْكَ علي الجمرِ، وتابعْ!
هيا، أسرعْ، سأسيرُ معكْ. لن أتركك وحيدًا تلْقَفُكَ الأشراكُ، ويقتلُك الختْلُ المتربّصُ، والتيه الممتدُّ كبحر الظلماتْ. أصحابُك: أقمارُكَ ونجومُكَ، ما عادوا - بعد رحيلٍ وغيابِ - غيْرَ أصابع كفٍّ واحدة ممدودة.
فاحرص أن يبقَوْا حيثُ همُو، في عُمْقِ الأُلفَةِ من عقلك وفؤادك. كلٌّ منهم جسرٌ بينك - حين تئنُّ - وبين العالمْ. وأصابعُك الخمسُ علاماتُك وأدلاّؤك، حين تضيقُ بك الأيام، ويختنق الملكوتُ، ملاذُكَ هُمْ، مُتَّكؤكَ هم، ويقينُك أنَّ الدنيا من غير صِحابِك قَفْرٌ ويبابْ، والليلُ السّاجي من غير نجومكَ هولٌ وسرابْ. ويقينُكَ بالصحبة يُغْنيكَ ويُسْليكَ ويجعلُك جديرًا بحياةٍ موعودة. فتشبَّثْ بحبال أُخْوَّتكَ المشدودة، واحرص ألَّا ينقطع الحبلُ، وألَّا يخذلكَ زمان ضائعْ!
من أين أتيْنا، كلٌّ منا، ذات صباحٍ أو ذات مساء؟ في عامٍ من أعوامِ العمر ومن ساعاتِ الُّلقيا؟ انظرْ لقُرًي ونجوعٍ وكفورٍ، خلّيْناها عبر ضفاف الوادي، في منعطفاتِ الجغرافيا، وغَياباتِ التاريخْ. قَذَفتْ ببنيها، وعليهم خَلعتْ ما صاغتْهُ من الأحلامِ، فكُنّا بعْضَ الحلم، وبعْضَ الصيْحةِ حين قُذفْنا. وانهمرت أيامٌ، وانكسرت أحلامٌ، وارتجّتْ أفئدةٌ وعقول. لكنَّا، تجمعنا اللحظةُ، مازلْنا. ستطيحُ بنا الأهواء، وتنثرُنا الصبواتُ، وتُربكنا الفوْراتُ، فنصمدُ حينًا، تتكسّرُ همّتنا حينا، نصطدم بحائط عزلتنا، ونلاصق أشواك حظائرنا، نتخلَّف عن لحْظةِ وصلٍ، أو نلمسُ جسْرَ مرارتنا، لكنا ندركُ أن مآل الدربِ سيجمُعنا، ويصون وديعته فينا، من غير بكاءٍ وحريق مدامع!
هل جرّبْنا العودة لشطوط البدء، وأقبيةِ الزمن الخالي، وجلسنا تحت نخيلٍ باقٍ ممتدٍّ، وسياجٍ يحرمنا ما خلف النهر، ويُبعدنا عن موطئ قدمٍ، في ظُلَّةِ أرضٍ عطشي، ورجال ونساءٍ شتي، مطحونين ومهزومين، عبروا في صور وخيالاتٍ كالأشباح، طَوالَ عقود من زمن ممتدٍّ، بقيت منه أشجار التوت وأشجار الزيتون وفاكهة الماضي. من يذكر منّا فاكهة الماضي؟ كانت كلُّ ثمار حقول القرية فاكهةً، كلُّ نباتات الأرض الحبلي المخضوضرة طعاما للفقراءِ، وزادًا لكثير من أحلاس اللَّيلْ، طلابِ الجامعة وقد عادوا لإجازة صيف. سينامُ الناسُ جميعا إلَّا هم. ثرثرةٌ وحكايا ليلٍ مُختلسٍ ونَزقْ. وهجومٌ مثل جرادٍ يمحو أيَّ نباتٍ يؤكل ملْءَ حقول القرية، ليس يُميّزُ أو يختار. تمتلئ الأمعاءُ الخاويةُ ويمضي سهر ممتد حتي وقت أذان الفجر، ينامون ويصحو أهل القرية، في بدء صباحٍ يصبح - مثل صباحاتٍ أخري - يومًا مكرورًا يتطاول فيه شظفُ العيشِ، ويصبحُ فيه لسْعُ الوقت سياط عذاباتٍ، ومواجع!
من يملك أن يوقف زمنًا مثل قطارٍ مرَّ وليس يعود؟ سنعودُ - إذا عُدْنا - لقُرانا، في موسم موتٍ وعزاء. هذا قدرٌ لا نتخلَّفُ عنه، وقضاءٌ يفعل فينا دومًا ما يفعله، فنكاد نفيقْ. لكنَّا نعْنو ونكابدُ ما نلْقي، ونطامنُ من نفْخةِ عيشٍ أبعدنا عن كلِّ بداياتٍ وجذور. قد لان الجِلْدُ ووهَن العظمُ، وطارت منّا الأرواح شَعاعا، وانقطعتْ أنفاسُ العمْر. تثّاقل منا الخطواتُ ونحن نسيرُ وئيدا في موكب كلِّ عزيزٍ يرحلُ، حتي نُسْلمهُ حفرتَه، ندعو بالصبر وبالمغفرة، ونقرأ بعضًا مما نحفظهُ، ونعود بعبرةِ موتٍ، تتطايرُ منا عند مجيء اليوم التالي، إذ يشغلُنا زهْوُ الدنيا، وكأنّا لم نتوقّفْ أمسِ أمام مصيرٍ فاجع!
اقبض بيديْك علي جمرٍ، يتلظَّي نارًا ودخانا، وتأمّلْ حال أصابعكِ الملسوعة والمحترقة. واشكرْ نعمَةَ ربِّك، مهما كان الحالُ، فغيرُك يحمدهُ من غير أصابع!
2
يتامي في السَّبعين
مثلُكِ لا يحويهِ مكانٌ فردٌ، أو يطويه دُوارُ زمان. أنتِ هواءٌ أتنشَّقهُ حين أشارف قريتنا، عطرٌ يتخلَّلُ أنفاسي وأنا أقتربُ وأقتربُ، وأصبح في أول درْبٍ، يُسْلمني لمسار زقاقٍ، وألامس أول مقهي، تعمرهُ وجوهٌ لاتتغيّرُ، مهما غِبْتُ، وقد تتغيّرُ، من يدري! فأنا الآن أُغذُّ السّيْرَ، وأطوي الأرض، وأرنو للأبعدِ، للبيت القابع، حيث مكانُكِ يا سيدة البيت، ويا زمن الحُلْمِ، ويا ياقوتة أيامي المنضودة.
وتهبُّ نسائمُ وسْني، ويُغرّد طيرٌ في القلب، يستقبلني الضوءُ الخافتُ، فأدركُ أنّ أذان المغرب حان، وأن ظلامًا سوف يُطلُّ، وأصواتًا لليل ستغمرُ أُفق القرية، تصدحُ بنشيجٍ لا يسمعهُ غيري، يسري في داخل أعضائي ويُحرّك شجني، وأنا أتذكر يومًا لا يُنسي، حين وقفتِ علي عتبات البيت ودمع يغلي في عينيْكِ، وصوتك يعلو بدعاءٍ مختنقٍ، وأنا أتهيّأ لمغادرة البيت، وترْك القرية، وركوب قطارٍ يحملني نحو القاهرة، وحُلمِ الجامعة الموعودة.
كانت جارتُنا الطيبة تناديكِ وتهتفُ بالصبر، تهدهُد من حزن طاغٍ، وتكفكف من دمعٍ جارٍ وتهدّئ من لفحالوقت. وأنا بينكما أتمزّق تحت سياط فراقٍ ما زالت قسوته في أعماقي، وأنا لا أدركُ منذ اللحظة أن طريقي اختلفتْ، ومساري ينحدر إلي غربة أيامٍ تنداح دوائرَ ودوائرَ، تصبحُ أصل حياتي، لا أدركُ أني سأعود إلي القرية- بدءًا من هذا اليوم - ضيفًا يقضي أيامًا بين الأهل. أما القلب وأما العقل فقد صارا في زمنٍ ومكانٍ آخر حلاّ فيه، صارا أبعد مما أتصور. لا تكفي قريتنا الآن لحلم القرويّ، ولا تتسع، فقد شاهت، واختلف الإيقاعُ، وضاق الوقت، لهاثًا بعد لُهاثٍ، وأنا أهرب من طيف وداعٍ، تحمله تلك اللحظاتُ المشهودة!
هأنذا أتذكر جلسْتنا في البهو وفوق رصيف البيت البحريّ، ورأسي يستند إليك، وفيض حنانك يملؤني، وصياح صغارٍ يفعم جوَّ البيت، رضًا وسكينةْ، وأطالع فيك وفي عينيْكِ، كلاما لم نتكلّمْهُ وحديثًا لم نتبادلهُ، ووعدًا مخبوءًا في ذاكرة الغيب. كانت شجرات "اللوف" المتسلقة جدار البيت، تلوحُ وتهتزُّ مُحمَّلةً، تملؤها الكيزان الخضراءُ، وتنسدل علينا مثل عناقيد تدلّت في أُبّهة الوقت وفي خطرات الإمساء.
هل كان الابن الأكبرُ يأخذ أكثر مما يجبُ؟ وهل كانت غُربتُه الدائمة شفيعًا للتدليل وللإنعام عليه بحنانٍ عذبٍ منهمرٍ؟ هل كان الإخوة والأخواتُ تفاجئهُم تلك الصّبواتُ وتلك الجلساتُ، ولا يحظوْن ببعض الوقت، وبعض الفيْض من الإيثار؟ هل كان وجودُكَ - مهما كان قصيرًا - بحجبهم عن حضن الأمِّ ويتركهم في أسْر العزلة؟ لم يتشاكوْا يومًا قطّ، ولا ندّت عنهم كلمة عتْبٍ أو شكوي، أو حتي تقطيبةُ وجهٍ أو تكشيرة! كانوا دومًا متحابين ودودين، فرحين بعودة هذا الغائب، بينهو، زمنًا يتبخّرُ في بضعة أيامٍ معدودة.
في القرية بعضٌ من دمنا، أختي وأخي. ها، بيتُ العائلة هنالك مفتوحٌ ومُضاءٌ، والأصواتُ تجلجلُ فيه، وعطر الغائبة يفوح، ووجه الغائبة يلوح، وطير الغائبة ينوحُ. تغيّر موضع جلستنا في كل مساء، وتبدَّد حُلمٌ كان يُعشَّشُ ملْءَ زوايا البيت، ويملأ أركان الدنيا. لكنا مازلنا نملك أن نجتمع، وأن نتنادي من كل مكان أو صوْب. يجمعنا حزنٌ أو فرحٌ، ونري من بَقِيَ من الأهل، ونشهد كم يحيا فيهم وجهُ الغائبة كما يحْيا فينا، تتلاقي النظراتُ الصامتةُ، وتنهمر اللحظات السّاكتةُ، نتمْتِمُ بالكلمات اللاهثة وبالغمغمة المختنقة. ما أعجب دورانَ الأيام، وما أقسي فورانَ العمر! ما أتعس يوما يأتي لسْتِ به، لا وجهُكِ أنتِ ولا وجهُ أبي في مقعده يستقبلنا بذراعين مُثقَّلتيْنِ. مِنْ غير الوجهيْن المرسومين بداخلنا، أيضِيءُ الفرحُ وتولدُ بهجتُنا، وتزغرد ساعاتُ العمر؟. ماذا يجرُفنا الآن، ويخنقُ فينا الأنفاس ويدمينا؟ يجعلنا - في السبعين - يتامي أو غرباء؟ هل عُدنا ننكفئُ صغارًا، نرتدُّ إلي لحظات البدءِ، تُداهمنا أنيابُ الوحشة، نخشي رُعْبَ القادم حالاً ومآلا، نستنزلُ لُطْفَ الغيْبِ، ونشرعُ أيدينا الممدودة!
-3-
نُصب السيرك فَمنْ يُدهشنا
أغلقِ العيْنَ وأنقذ أُذنكْ. إنها الضوضاء من حولك تغزوك، وتحتلُّ فضاءً أنت فيه، فتحرَّك، وتنفَّس وابتعد ما أمكَنكْ. والفضائياتُ أسواقٌ، وبيعٌ وشراء، وزعيق، ونعيقٌ، وصخب. وانهماك في جنونٍ ينشدُ الربْحَ، ويأتي بالعجب. والأراجوزات، - طَوالَ الوقت - من كلِّ جدارٍ يطلعون. فهمو اليوم هنا، وغدًا في حارةٍ أخري، وفي قلب قناةٍ تدَّعي السَّبْقَ، وتدعو الناس - كلَّ الناس - ألا يتركوها، فلديها كلُّ ما يطربُ هذا الحشدَ من ضوضائها، حتي عراك الدِّيكة. ولديها كلُّ لغْوٍ، كلُّ سُخْفٍ وابتذال. ولديها عِتْرَةُ القوم ضيوف الثرثرة.
سيدورون علي كلِّ قناةٍ، ويدورون علي الأبوابِ بابًا إثْر باب. ولديهم ما يقولون - إذا قالوا - وما قد يلبسون. هاهنا قولٌ وزيٌّ، بعده قول وزيٌّ، ما الذي يجري إذا ما بدّلوا قولا وزيًّا، ثم من يدري بما في كلّ وقتٍ يعرضون؟ درّبوا أنفسهم، وانتشروا، وأعدّوا كلَّ ما يلزم، للموقفِ، لاشيء سوي لغْو الحناجر!
لا تلوموهم، فهم مرضي، يعانون سُعارًا، واضطرابا في خلايا القلب والعقل، وجدْبًا في الضمائر. عُبّئوا زورا وبهتانا، وصيغوا من هشاشاتٍ، فصاروا مثلما الباعة في الأسواق، هتّافون، دجّالون، من أجل الذي يُعرض للناس: أكاذِيبُ ودسٌّ وسمومٌ تملأ الكأس، وإيذاء مشاعر.
ما الذي صيّرهم أضحوكةً، بل هُزأةً في الناس مفضوحين، كلٌّ منهم في ركْب مولاهُ، وفي الجوقة سائر. ويقولون هي المهنيةُ الحقُّ، فعجِّل بالغنائم - حين تبدو اليوم ثوريًّا، طليعيًّا، تروم الحق والعدل، ولكن في غدٍ نلقاك وجها شائها آخرَ، محكوما بما ينفع مولاهُ، يداجي، ويناورْ.
نُصبتْ كلُّ الأحابيل، وكلٌّ عند ليلاه يُغنّي. والذي يبرز في " المولد" دِهقانٌ، شديدُ الفتْكِ ماكرْ. نُصب السيركُ، فمن يُدهشنا الليلةَ؟ من ينجح في إخفاءِ ما ينوي؟ ومن يأخذُ بالناس مقُودين، إلي فجرٍ كذوبٍ، بشع السِّحنةِ عاثرْ؟. قد أتي الطبّالُ والقرّاد والزّمارُ والحاوي - الذي يبهرُ - في جَمْع الغوازي، ولصوص الليل، والسّاحة ملأي بالعواهرِ.كلّ من ينتزع الإعجابَ، والدهشةَ، موهوبٌ وشاطر. النجاحُ الحقُّ أن تأتي بإعلاناتِ مَنْ يُعلن في السوق، وأن تزدحم الشاشةُ من حولك، فاصنع فاصلاً من بعد فاصلْ. وتوسّل للذي يدخلُ هذا السيركَ أن يبقي، ففي الجعبة ما أعددْتَ من لغْو ضيوف، وتقاريرَ، وأسرارٍ، وإعلامٍ كريهِ الوجهِ، مذمومٍ، ولكن لا خسائرْ.
سيزيدونك في الأجر، فهلّل كلَّ يوم، واحمل الصاجاتِ، قُمْ في السوقِ مزهوًّا، وفاخرْ. إنه الخزيُ الذي تجنيه، معروضٌ وسافر!
ما الذي يحدثُ في مصر؟ وماذا يصنعون؟ البيوت الآن ملأي بالذي يُعرضُ للناس، والعرض خبيثٌ، ولعين. قلَّةٌ نادرةٌ من بينهم، يلسعُهَا الجمرُ، وتستمسكُ بالقول الرصين. أَقسمتْ ألا تُقيم السيركَ، أو تفتحَ بابا للخلاعات، وللزور، وللعرض المهين. إنها تمشي علي الشوكِ، تردُّ الكيْدَ بعد الكيْدِ، لا تنطقُ إلا بالذي تؤمن من صدقٍ ومن حقٍّ مبين. سوف تبدو نغمة ناشزةً في وجه إعصار شديد العصفِ، فاجر. حسْبُها أن الذي تَنْشُدُ يَجْتاحُ الضمائر. فالذي تبنيه باقٍ، والذي تأباهُ مما حوْلها، هشٌّ وعابر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.