غرفة تهزها الريح في الرشفة الثالثة من كوب الشاي الساخن اقتحمت أذني كلمته الجارحة. التفت فوجدت فمه مفتوحا عن آخره، وسبابته ممدودة إلي الأمام، ومقلتيه ثابتتين في تحد، يكاد أن يتطاير منهما شرر، وقبالة ناظريه ترقد مساحة صامتة من الفراغ. كان واقفا فجلس، وسحب نفسا من الشيشة تاركا الدخان يخرج من منخريه، ثم أناخ رأسه علي مسند الكرسي الخشبي المتهالك، ولاذ بسكوت، مغمض العينين، فعدت أنا إلي كوب الشاي، وشفطت الرشفة الرابعة. عند الرشفة السابعة، كان بخار الشاي قد استكان في البرودة التي زحفت علي الكوب من غيمة السماء وظل الشجرة العجوز، وكان دخان شيشته قد خمد بعد أن توقفت القرقرة، لكن شخيره ارتفع وخالط زقزقة العصافير. مرت ساعة تقريبا أثناءها مر النادل وسحب خرطوم الشيشة من يده، ثم رفعها، وألقي عليه نظرة شاملة، ومصمص شفتيه، وقال: الله يخرب بيت الستات. وحين فتح عينيه تلفت حوله وراح يضع مقلتيه في وجه كل واحد من الجالسين ويتفرسه مليا، ثم مد يده في جيبه، وأخرج ورقة متهالكة متآكلة الأطراف، وراح يقرأ منها بصوت هامس. رميت أذني إلي فمه، فتبينت بعض كلمات متقطعة تشي بأنها شعر أو نثر بليغ. ولما انتهي طواها علي هيئتها ودسها في جيبه، ثم نادي بصوت زاعق: شاي وحجر معسل سلوم. عاد إلي الرشف والسحب البطيء وهو يهش غيمة دخان كثيفة تحوم علي رأسه. وفجأة انفجر بردح وصراخ، وهو يعنف امرأة غير موجودة أمامه. ثم خلع حذاءه وراح يضرب الهواء، ويجز علي أسنانه فتخرج كلماته محاصرة حبيسة ويقول: لازم أربيك أنت وعيالك يا بنت الكلب. ورأي النادل الحيرة في عيني فهمس في أذني: امرأته جننته، خلعته وخطفت العيال وهاجرت، وقبلها سرقت أمواله. ولما تهالك مكانه وكاد أن يسقط مغشيا عليه، قمت إليه أسند كتفيه، وأثبت جسده علي الكرسي، لكنه فرد طوله، ثم قال في انكسار: عاوزك توصلني البيت. وسري خوف مباغت في أوصالي، ونظرت إلي النادل أستنجد به، فتنحنح واقترب مني وقال مبتسما: لا تخف، هو رجل مسالم، حين يتعب يطلب منا أن نذهب معه، وكثيرون هنا رافقوه إلي المنزل، وأحسن ضيافتهم. وتأبطته ورحنا نمشي علي مهل وهو صامت إلا من أنات متقطعة تذوب في أبواق السيارات وضجيج المارة ونداء الباعة الجائلين. وأمام مقر جريدة "المصري اليوم" وعلي الرصيف المحاذي لحديقة "دار العلوم" توقف، وحملق في عيني إلي درجة ارتجف لها قلبي، ثم مد يده في جيبه، وأخرج الورقة وقال آمرا: اقرأ. وجرت الحروف علي لساني في صمت فصرخ في وجهي: بصوت عالي، عاوز الدنيا كلها تسمع. كانت قصيدة شعر بعنوان "الخائنة بنت الخائن" أطلت من أبياتها غير الموزونة ملامح امرأة متجبرة وعيال ضعاف وأب مغلوب علي أمره. فلما انتهيت مد يده إلي ذقني ورفعها حتي حلت عيناي في عينيه وقال: حابسها في البيت هي وعيالها. مالوا إليها فقلت كلاب أولاد كلبة. لذت بصمت طويل فصرخ في: ما رأيك؟ فقلت له دون تفكير: الجزاء من جنس العمل. فسرت راحة في ملامحه، فانبسطت بعد انقباضها الذي طال، وقال: أنت رجل عادل، ولذا ستكون الوحيد في هذا العالم الذي سأسمح له برؤية الخائنة وعيالها الأشرار. وانعطف بي في شارع المواردي وسار حتي اصطدمنا بسور مترو الأنفاق بين محطتي السيدة زينب وسعد زغلول، ثم انكسرنا يسارا، وعند باب بيت قديم تهالكت جدرانه وقف، وقال: كان بيتي وسرقته الخائنة وباعته بيعا صوريا للسمسار، ولم تترك لي سوي حجرة فوق السطوح، تضربها الريح فتهتز وأخاف أن تطير. ثم صمت برهة وعاد يقول: أتمني أن تخلعها العاصفة وتلقي بها أمام عجلات المترو، فتموت الخائنة هي وعيالها المتواطئين. وصمت مرة أخري ثم قال بصوت مبحوح: الأفضل أن تموت في قيودها من الجوع والعطش، ويموت معها صغارها الجاحدين. وفكرت أن ابتعد عنه قليلا وأهاتف النجدة لتأتي فتنقذ المرأة وأولادها، لكنه سحبني بشدة رجت جسدي فانزلق داخل عتبة البيت الذي بدا مهجورا، واقتحمني هلع وحيرة، وفكرت في أن أسحب يدي لكنه كان قد أطبق كوعه علي كوعي. انتبه لترددي فقال مشجعا: تعالي، درجات السلم سليمة، والدنيا نور. وماءت قطة فمرق فأر مذعور من بين أرجلنا، وعوي كلب راقد بجوار السور وزعق بوق سيارة وصرخت سيدة في البناية المجاورة في وجه بنتها التي كانت تدلي رأسها من النافذة وسحبتها بعنف إلي الداخل، فقلت له مبتسما، وأنا أحاول أن أسحب ذراعي بلطف: دقيقة واحدة، هاشتري علبة سجائر. نظر إلي برهة، ثم خلّي ذراعي، فسحبته وسرت متباطئا حتي ابتعدت عنه قليلا، ونظرت إلي الخلف فوجدته قد استدار ناحيتي، ولما بدا عليه أنه من الممكن أن يجري خلفي إن شعر بأنني أفر منه، توقفت بالفعل أمام كشك السجائر، وكان صاحبه قد رآني منذ قليل متأبطا ذراع الرجل، الذي نسيت أن أسأله عن اسمه، فقال لي مبتسما: يسكن سطح بيت مهجور آيل للسقوط، ويتخيل أنه متزوج ولديه أولاد يحبسهم وأمهم الخائنة، ولا ينوي أبدا أن يفرج عنهم، أو يترك غرفته التي تهزها الريح. شبح الظهيرة وحده يسير، وتراب الجسر يشعل النار في قدميه الحافيتين، وجمرة تحط علي رأسه من أثر حزمة القصب التي يحملها منذ ساعتين، متباطئا تحتها، والنسائم تعبر ثقيلة من تحت إبطيه المفتوحين علي غبار الطريق. حين وصل إلي شجرة السنط السامقة التي تعلو حقلنا، أناخ جسده، وحط عن رأسه حزمه القصب، ورفع هامته، تاركا منخريه تسحبان من النسائم علي اتساعهما، ثم رمي رأسه إلي جذع الشجرة، وراح صوت شخيره يعكر المكان. اقتربت منه، ورحت أتفرس في خريطة وجهه جيدا. كان البهاق قد زحف علي عنقه ووجهه ومقدمة رأسه، واختلط بالتجاعيد التي خطها الزمن، وبدت علي خديه بثور غائرة، تنبت في قلبها شعيرات سوداء وبيضاء، يتدلي بعضها قليلا، ليقترب من شاربه الكث، الذي بدا معلقا في الهواء أمام خديه الضامرين. كانت حزمة القصب الكبيرة تنام بجواره هادئة، والنسيم يداعب أوراقها الخضراء وقشها المائل إلي الاصفرار، فيهتز قليلا، ويحك رأس الرجل، لكنه كان قد غطس إلي قعر النوم البعيد، ولم يعد يدرك أنه هنا، فوق التراب وتحت الشجرة، وأنني بجواره أقرأ في صمت وحسرة. وبعد دقائق، جاء كلب مرقط، شعره أبيض تزركشه بقع سوداء. كان يلهث من العطش، ومن عينيه يطل جوع شديد. وقف عند رأس الرجل، وراح يحملق في وجهه مليا، ثم مد لسانه، وراح يلعق شاربه في هدوء، ثم رمي جسده بجوار الرجل، وراح هو الآخر في نوم شديد. حين مالت شمس العصر تحت فروع الشجرة، ومدت لسانها الدافئ المبهر إلي عيني الرجل، تململ قليلا، ثم راح يفتح جفنيه في هدوء، حتي طوق بصره كامل جسد الكلب، ومد يده وراح يربت علي رأسه، ويداعب أذنيه الطويلتين بأطراف أصابعه، ففتح الكلب عينيه، ودس رأسه في صدر الرجل، ثم جلس أمامه القرفصاء، ولسانه يتدلي قليلا علي حافتي نابيه القاطعين. جلس الرجل القرفصاء، وجلس الكلب قبالته، واقتربت منهما مندهشا، وقلت له: كلبك. فابتسم كاشفا عن أسنان سوداء مثرمة، وقال: لم أقابله سوي اليوم. ومد ناظريه إلي حزمة القصب الكبيرة، وكأنه يريد أن يطمئن إلي وجودها سليمة، كما ودعها قبل الغفوة، ثم مد كفه ووضعها فوق أعواد القصب، وزفر متنهدا في أسي: شغلانة تهد الحيل. ولما وجدني أنّقل بصري بين وجهه والقصب، استطرد: الأسعار نار، وما أكسبه لا يؤكلني أنا وزوجتي إلا عيش حاف. فنظرت إلي الكلب الذي يقعد مستكينا علي التراب، وقلت: عندك أرض. كانت عشرة قراريط إيجار، وأخذهم المالك بعد تغيير القانون. ومرق قطار ما قبل المغرب، وزعق صارخا وهو يهتز مجلجلا، فنبح الكلب، وتنبه الرجل، فاستدار، وراح يتابع القطار حتي اختفي، ثم قال: من زمان نفسي أسافر، حتي ولو إلي آخر الدنيا. في السفر سبع فوائد. هز رأسه وقال: لم أفارق قريتي منذ مولدي. وصمت برهة ثم قال متحسرا: أيام الملك طلبوني للجهادية فهربت ... لو كنت وافقت يمكن كنت شفت الدنيا الواسعة. كنت هأنزل المحروسة، ويمكن أشوف الملك نفسه، والإنجليز. التف حوله، ثم راح يهش بعض القش العالق علي رأسه وجلبابه، ووقف موجها عينيه إلي قرص الشمس الأحمر، وقال: جاء موعد الرزق. ونظرت إليه صامتا وفي عيني سؤال، فجاءتني إجابته: أبيع القصب للشباب الساهرين علي قهوة عبود. ثم مد يديه إلي حزمة القصب وقال: ساعدني يا ابني. ورفعت الحزمة معه حتي استقرت علي رأسه، وسحب نفسا طويلا، وكأنه يختزن طاقة تعينه علي استكمال مشواره الطويل، ثم تتابعت خطواته البطيئة، ويمينه يسير الكلب ولسانه يرقص علي نابيه، ويهتز في نسيم راح يهب ناعما مع قدوم أول الليل.