عرفت قصة النحّاتة الفرنسية كامي كلوديل »amille »laudel للمرة الأولي عام 1998، حين شاهدت فيلمًا يحمل عنوانه اسمها في المركز الثقافي الفرنسي بالاسكندرية، الفيلم بطولة إيزابيل إدجاني التي قامت بدور كلوديل وجيرار دو بارديو الذي جسد شخصية النحات الفرنسي الأشهر- أستاذها وحبيبها- رودان. أثارت شخصية كلوديل اهتمامي بشكل خاص لما تحمله من تركيب وحيرة واحتماليات تأويل متعددة أثناء حياتها وبعد رحيلها. هي كاميّلوي كلوديل، ولدت في 8 ديسمبر عام 1864، في »فير دو تاردونوا»، مدينة صغيرة شمال فرنسا وتوفت في مصحة عقلية بالقرب من مدينة أفينيو الفرنسية في 19 أكتوبر 1943. عاشت كاميّ طفولة طبيعية بين أبوين وأخ وأخت يصغراها وبدأت موهبتها في النحت تظهر منذ سنوات مراهقتها، فقاومتها أمها بينما قدم لها أبوها كل الدعم اللازم بناءًا علي نصيحة من النحات الفرنسي ألفريد بوشيه وكان مسقط رأسه نفس المدينة التي ولدت فيها كلوديل . في عام 1881 نجحت كاميّ في أن تقنع عائلتها بالانتقال للعيش في باريس كي تستطيع تجويد موهبتها الفنية بالقرب من أساتذة الوسط الفني الباريسي وبالفعل انتقلت العائلة إلي باريس ماعدا الأب الذي كان عليه أن يبقي لظروف عمله. التحقت بأكاديمية كولاروسي الفنية واستأجرت أتيليه لتعمل فيه علي منحوتاتها وشاركها به مجموعة من الفنانات الشابات، تولاهن روشيه بالرعاية والتوجيه حتي اضطر للسفر إلي روما لإنجاز مهام عمله فعهد إلي أوجست رودان باستكمال مهمة تعليمهن. في عام 1882 بدأت ما يمكن أن نطلق عليه »سنوات رودان» في حياة كاميّ كلوديل والتي امتدت - فعليًا وتأثيريًا - حتي وفاتها. دشّن لقائهما الأول رحلة كامي بين الحب والعذاب، التحقق والضياع، المتعة والمرض النفسي قبل أن تنتهي الرحلة بوفاتها وحيدة في مصحة نفسية. لا ينكر أحد انبهار رودان بموهبة كامي في بداية علاقتهما لكن هذا الانبهار لم يلبث أن تحول إلي استغلال ثم تخلي، وهي التحولات التي مارسها رودان بمقدرة ذكورية خالصة دون أن تنتبه لها كاميّ ولم تفق من غيبوبتها العاطفية إلا وهي علي شفا الجنون. انضمت في عام 1884 إلي مجموعة المتمرسين أو المنفذين لتصاميمه الفنيه وشاركت بموهبتها الاستثنائية في تنفيذ عدد من أعماله الفنية الهامة ويُقال أنه كان يعهد إليها خاصة بتنفيذ الأيدي لما تتطلب من دقة وحس فنيّ وإنسانيّ رفيع. سريعًا ما استقرت وتوطدت شراكتهما الفنية بفضل أصالة موهبتها وإرادتها العارمة حتي أن رودان صرّح قائلًا: »أصبحت مدموازيل كلوديل المتمرسة الخارقة في فريقي، واستشيرها في كل شيء.» وكان يردّ علي منتقديها قائلًا: »لقد علمتها أين تجد الذهب، لكن الذهب الذي عثرت عليه، وجدته بطريقتها الخاصة.» مارست كلوديل تأثيرها الفنيّ علي أستاذها وألهمته في منحوتات شهيرة مثل : »القبلة»، الذي اشتغلا عليه سويًا، و»باب الجحيم» العمل الأشهر لرودان وغير المكتمل وساهمت فيه كاميّ مع العديد من المشاركين. عاشا قصة حبهما الملتهبة قرابة عشر سنوات، لم يعرفا خلالها الراحة أو الاستقرار. حين قابل رودان كاميّ كان مرتبط بالسيدة روز بوريه، التي عملت معه موديلاً سابقًا، منذ قرابة العشرين عامًا. لم يمنح رودان كاميّ حقها الفني أو العاطفي؛ فلم يعلن عن مشاركتها بشكل واضح في الأجزاء التي نفذتها ضمن منحوتاته، كما رفض الزواج منها رغم ارتباطهما العاطفي ولم يترك العيش مع السيدة روز طيلة علاقته مع كاميّ. أخيرًا وفي عام 1892 أدركت كاميّ استغلاله لموهبتها طيلة عشر سنوات ومشاعره المنقوصة إزاءها رغم حبها الجنوني له، فقررت الابتعاد عنه والتفرغ للنحت الخاص بها. نفذت مشروعها الأهم L'Age mالذي يمثّل رودان واقفًا يدير ظهره لها وينظر نحو امرأة أخري تمسك به – تمثل السيدة روز- وكاميّ جاثية علي ركبتيها تمد زراعيها في الهواء وتحاول التمسك به دون جدوي. استطاع رودان، الذي كان يحتكر أبوية النحت آنذاك، أن يسيطر علي الاعتراف النقدي كذلك، فهاجم النقاد أعمال كلوديل أشد الهجوم واتهموها بعدم الأصالة الفنية. حينها لم تحتمل كلوديل تلك الموجات من الرفض والإخفاق المتوالي، فمنذ أن بدأت ممارسة هوايتها أثناء سنوات مراهقتها كانت أمها تحاربها وتعارض دعم أبيها لها، فارتمت في كنف أستاذها وحبيبها رودان الذي استغلها ثم تخلي عنها وحين استجمعت ما بقي لديها من إرادة لتعمل مستقلة هاجمها النقاد ولم تلق ترحيبًا لعمالها. شيئًا فشيئًا بدأت تنتابها نوبات من الهستيريا حتي اقتادتها عائلتها إلي مستشفي للأمراض العقلية في عام 1913، ظلت به لأكثر من ثلاثين عامًا حتي ماتت به عن عمر 78 عامًا. لم يزرها أحد من عائلتها ولا من أصدقائها باستثناء أخيها بول كلوديل، الكاتب الشهير – عشر مرات فقط علي مدار أكثر من ثلاثين عامًا . وحين استشعرت إدارة المستشفي تحسنًا في حالتها وأبلغت أخاها رفض استلامها وخروجها معه رغم توسلاتها. بدأ الاحتفاء الحقيقي بفنّ كاميّ كلوديل وموهبتها في سنوات الخمسينيات من القرن العشرين، وذاع صيت أعمالها المتبقية بعد ما حطمته في بعض نوبات الهستيريا التي كانت تصيبها قبل دخولها إلي مستشفي الأمراض العقلية. احتفي النقاد بأعمالها وأعاد مؤرخو الفن التشكيلي الاعتبار لما ساهمت به من أعمال أو مشاركات في أعمال رودان. وما أراد هو إخفائه بات حقيقة يعرفها الجميع ويعترف بها المتخصصون والمتذوقون والجمهور؛ سواء فيما يخص موهبتها الفذة أو قصة حبهما، وللمفارقة فإن متحف رودان في باريس يعرض عمل كامي كلوديل الأشهر الذي يجسد تخليّ رودان عنها وسط مجموعة أخري من أعمالها في صالة مخصصة تحمل اسمها. كأن التاريخ يرفض إلا أن يسجل حقيقة قصة ومأساة فنانة فذة وإنسانة تخلي عنها كل من أحبتهم ولم يبق لها إلا نفسها وبعض من عقل.