لم تتعرض رواية في تاريخ الأدب لمحاولات مُتعدِّدة من التشذيب والحذف والاختصار، وصولاً إلي المصادرة، والمحاكمة كما تعرضت رواية »عشيق الليدي تشاترلي» للكاتب ديفيد هربرت لورانس الذي يُصنَّف علي أنه من أهم أدباء القرن العشرين. وروايته أشبه ب »قنبلة، وليس كتابًا» كما وصفتها الجارديان، أو »نقطة تحوّل مهمّة في التاريخ» كما عبّرت جريدة الأوبزرفر، أو أنها »من أعظم الإنتاجات التي قدَّمها الاقتصاد الأدبيّ في أعقاب الحرب العالمية الأولي» كما وصفها حنا عبود في مقدمة ترجمته للرواية، بل وأضاف بأنها رواية »نبوئية أو رؤيوية» فقد تحقّق مما قاله لورانس في الرواية، كحبوب الحمل التي اكتشفها العلماء من أجل تنظيم الأسرة، وكذلك ارتياد المرأة للفضاء، والذي تحقق عام 1962 علي يد رائدة الفضاء السوفيتية. طُبعت الرواية لأوّل مرة خارج بريطانيا في فلورنسا بإيطاليا عام 1928 في طبعة سرية، حيث لم يجد لورانس ناشرًا في بريطانيا ينشر الرواية بسبب الإباحية التي وَصَفَ بها العلاقة الحميمة بين الليدي تشاترلي وعشيقها (مليورز) حارس الصّيد. وتمّ بيع أكثر من 2 مليون نسخة في السنة الأولي من النشر. حاول لورانس نشرها فرفض جميع الناشرين عمله، مما دفعه إلي طباعتها سرًّا وتوزيعها. فاضطر لورانس لإعادة كتابتها مرة ثانية وثالثة ولأنه كان عنيدًا، أصرَّ علي عدم حذف أي كلمة من روايته حينما فاوضه الناشرون علي ذلك. وقد أعلن رفضه قائلاً »إن خضوعي لهم، مثل محاولتي لتغيير شكل أنفي بتقليمه بمقص. الكتاب سينزف». وفي المرتين؛ الثانية والثالثة طبعها في كل من فرنسا وإيطاليا من دون تصريح، وكذلك طبعت في أمريكا من دون استئذانه. وفي عام 1950 أصرت دار نشر في الولاياتالمتحدة علي نشرها وحينما احتجّ المسؤولون وَرُفعت قضية في المحكمة ضد دار النشر. وقد تولّي محامو الدفاع إثبات أنّ المشاهد التي تصف حميمية العلاقة، إنما تخدم الحدث ولذا لا يمكن تجاهلها، وما ساعد دار النشر علي كسب القضية، هو شهادة عدد من أهم الأدباء وقتها مثل: ألدوس هكسلي، والروائي إدوارد فوستر، وريموند ويليامز، وغراهام هو، والناقدة هيلين غاردنر التي أشادت بالرواية قائلة »إن تكرار ألفاظ في الرواية يعتبرها المجتمع فاحشة يرجع إلي رغبة لورانس في تطهيرها من تداعيات الفحش التي ارتبطت بها من كثرة الاستخدام عبر الأجيال». كانت ثورة مشاهير الأدب، لا ليقولوا للقاضي، إنْ كانت المشاهد الإباحية في الرواية مناسبة أم لا! بل ليؤكّدوا أنّ العمل الذي بين أيديهم من الأدب. فقد أعادت الرواية بطريق غير مباشر السؤال القديم: ما الأدب؟ وقد بدا لهم من الدعاوي أنها محاكمة للأدب. وبالمثل رجال الدين الذين استدعتهم المحكمة للشهادة وقفوا إلي جانب الكتاب علي رغم إلحاد مؤلفه، إذْ قال الأسقف وولويتج في شهادته: »إن لورانس يصوّر في أدبه قداسة العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة». وقد تكرر أمر المصادرة والمنع في بريطانياوفرنسا ثم في اليابان والصين. وجدير بالذكر أنّ نص محاكمته قد طبع ووزع في عدد كبير من البلدان. تحت مقصلة القضاء في عام 1960 بمناسبة ثلاثين عامًا علي وفاة مؤلف الرواية لورانس قامت دار بنجوين بالنشر العلني للرواية مستغلة التغيرُّات التي حدثت علي قانون المطبوعات البريطاني، لكن ما إن ظهرت الرواية في الأسواق حتي - كما يقول حمدي عبد الرحيم -: »هبت النيابة البريطانية وقامت برفع دعوي قضائية بمصادرتها» ويوجز عبد الرحيم عريضة الاتهامات التي قدمها ممثل الادعاء كالآتي: أن الرواية منافية للذوق العام، وتحضُّ علي الفسق والفجور، وأخيرًا تحتوي علي ألفاظ عارية وتخدش الحياء العام، ومن ثمّ لجأ المحامون إلي حيلٍ خاصّةٍ بعدما عرفوا أنّ الاعتماد علي الأسانيد القانونية لنَ يفيد القضية بل يُعقِّدها، حتي أنهم ذهبوا مذهبًا آخر، خاصة بعدما حدث تداخل مُزرٍ بين الحياة الشخصيّة للمؤلف لورانس، خاصّة الشهادة التي نشرتها الروائية البريطانية »دوريس ليسنيغ»، والتي كانت بمثابة صبّ الزيت علي النّار، حيث سردت الكثير من وقائع الحياة الشخصية للورانس وممّا ذكرته: »أن لورانس كان متزوجًا من سيدة ألمانية تُدعي فريدا، وكانت هذه الزوجة علي علاقة مع إيطالي، والغريب أن لورانس كان علي علم بهذه العلاقة،... إلي آخر هذه القصة. والتي انتهت بتعدّد شكوي زوجته فريدا من عجزه الجنسي الذي نتجَ عن إصابته بمرض التدرن الرئوي» اللافت أن دوريس ليسنيغ ذاتها قالت عن الرواية »لم يكتب أحد قَطُّ أفضل من لورانس عن صراع الجنس والحب». أوصياء الرب ومن هنا عمدت هيئة الدفاع إلي صرف انتباه القضاة عن الحياة الشخصية وبالفعل مارسوا حيلهم بفصل الحياة الشخصية للمؤلف عن أحداث الرواية، وراحوا وفقًا لما ذكره حمدي عبد الرحيم في مقالة بعنوان »عشيق الليدي تشاترلي، الرواية التي وصفت بالفجور وطوردت 30 عامًا» يسائلون العامة عن موقفهم من أعشاب لندن التي تشهد المطارحات الغرامية العارية والكاملة المكشوفة. كما تَحدّوهم بأن يُحدِّدوا من الرواية الألفاظ العارية المكشوفة التي يزعمون أنها تملأ صفحات الرواية، ثمّ تحدّوهم مرّة ثانية بأن يجدوا الخيط الفاصل والحاسم بين ما هو خادش للحياء العام وما هو جرئ وحقيقي. وكان مقابل هذه الأسئلة هو الصمت. وكانت المفاجأة أنّ لجنة الخبراء التي شكّلتها المحكمة لفحص الرواية - وقد ضمت العلماء والكُتَّاب والمثقفين - انتهت بعد الفحص والتدقيق إلي »أن الرواية ذات مستوي فني رفيع ولا يمكن اعتبارها إباحية، بأي حال من الأحوال» لكن المحكمة لم يطمئن يقينها لهذه النتيجة، فأحالت الرواية إلي رئيس الأساقفة »فير وولويج» لاستطلاع رأيه في الرواية. وانتهي هو الآخر إلي أن »رواية عشيق الليدي تشاترلي ليست مخلة بالآداب». وهذه الشهادة تتطابق بنسبة ما، مع شهادة سيدة من أعضاء لجنة الخبراء التي قالت في شهادتها: »إن الرواية رفعت العلاقة الجنسية إلي مستوي التقديس»، وهو ما قابلته قاعة المحكمة بالتصفيق الحاد. استمرت المحاكمة ثماني سنوات ثمّ أرغمت دار بنغوين المحكمة علي إعطاء الموافقة علي نشرها. فطبعت مليوني نسخة اختفت من الأسواق بلمح البصر. واعتمدت دار بنغوين في دفاعها علي الرسالة الاجتماعية البنّاءة لهذه الرواية. وكما يقول عبد الكريم عبد المقصود في مقدمة الطبعة الجديدة الصادرة عن دار آفاق للنشر 2018، إن النص الكامل للرواية »لم يُطبع إلا في 1959 في نيويورك وفي لندن 1960 بعد اتخاذ القرارات القانونية بشأنها في المحاكمة الشهيرة بشأن الرواية، ضد دار بنجوين، التي نشرت الرواية، بموجب قانون المنشورات الفاحشة، وقد انتهت بتبرئة بنجوين، وتبرير استخدام الرواية لمصطلحات جنسية كانت محظورة حتي ذلك الوقت. وسمحت هذه القرارات بحرية نشرها وتداولها، وصارت الرواية نموذجًا لعدد لا يُحصي من الأوصاف الأدبية للأفعال الجنسية. الرواية تصوّر علاقة حبّ جنسي بين حواجز الطبقة والزواج. العشيق حارس طرائد عند زوج العشيقة، وبتعبير لورانس، علي لسان السير كليفورد تشاترلي، زوج الليدي تشاترلي ينتمي »للطبقة الخادمة»، والعشيقة، الليدي تشاترلي، تنتمي »للطبقة الحاكمة»، بتعبير لورانس، علي لسان الشخصية نفسها». الرواية كان لها أثرٌ تثقيفي مهمٌّ في جيل ما بين الحربيْن العالميتيْن. فلم يكن هدف لورانس في هذه الرواية، التي تعرّضت وكاتبها للانتقاد والتشهير والاضطهاد والملاحقة؛ الإباحية لذاتها، بل سبر أغوار العلاقة الزوجية بأبعادها كافة، وهو ما يُفسِّر إصرار ديفيد لورانس علي عدم التخفيف من الجنس في الرواية، وفي الوقت ذاته هذا الإلحاح الجنسي نابع من رؤية ذاتية، قد صاغها فيما بعد في مقالة عن الرواية بعنوان »رؤية ذاتية عن عشيق الليدي تشاترلي» أوضح فيها أفكاره عن الجنس والجمال والحبّ. وكيف يحدث التوافق. ويبرّر العلاقة بين الجنس والجمال كما أرادها في الرواية بقوله: »الجنس والجمال هما شيء واحد، كالشعلة والنار. بكراهية الجنس ستكره الجمال، وبعشق الجمال ستحب الجنس. الجمال بمفهومه الحي الخالص: تستطيع أن تحب الجمال في شيء صامت مثل لوحة أو تمثال أو ما شابه ذلك وتكون كارهاً للجنس، ولكن أن تحب الجمال الحي لابدّ من احترام الجنس». وبعد استفاضة عن كيفية تحقيق التوافق بين الجسد والعواطف، وكيف أنّ الجنس الحقيقي يُقاوم العاطفة المزيفة، حتي عدّ »الجنس بلا حب هو دعارة مؤكّدة» يستمر في توصيف العلاقة بين الرجل والمرأة ويعتبرهما »نهران من الدم» لهما القدرة علي التلامس والاتصال والتجدّد وتجديد بعضهما بعضًا. وإن كان يجعل »عضو الذكر هو الرابطة التي تصل بين النهرين» فيجعل التيارين متوحدين ويخرج من ثنائيتهما مفرد جديد هو التوحد، والذي يتحقّق بينهما تدريجيًا عبر فترة الحياة هو أعظم إنجازًا للزمن أو الأبدية، فمنه تنبع كل الأمور الإنسانية: الأطفال والجمال والأشياء الرائعة. كل الخليقة الإنسانية، وكل ما نعرفه عن إرادة الله، وأنه أراد ذلك التوحُّد أن يحدث ويتحقَّق في فترة الحياة، وداخل ثنائية التيارين العظيمين للدم. العجيب في الأمر أنّه استغلّ تحليلاته ليدافع عن التهمّة التي وجهت إليه فيقول »مَن يتهمونني بالبربرية، وبأنني أريد العودة بإنجلترا إلي البدائية، ولكن ما اعتبره بربريًا وبدائيًا هو البلاهة والموت فيما يتعلّق بالجنس. الرجل الذي يجد أكثر أجزاء المرأة إثارة ملابسها الداخلية هو الذي يكون بربريًا». بصفة عامة كانت العلاقة بين الرجل والمرأة محور رؤيته للحياة الإنسانية، ومبعث هذا لتجربة حياته الشخصية الأكثر إيلامًا، والتي اُسْتغلت أثناء أزمة الرواية أسوأَ استغلالٍ، إلا أنّه في المطلق كان يُدرك للدور الجديد للفرد في ظل العالم الصّناعي الصّاخب، ليس فقط في إصباغه بالأنانية، وإنما في إصابته بالفقر والجدب، وكأنه في إشارات مبطنة يُحذِّرُ من خطر انفصال الكائن الحي عن الكون أو الطبيعة، وما يعنيه ذلك من فقر وجدب بل وموت، علي حد تعبير رحاب عكاوي في مقدمتها للترجمة. وبصورة أعمّ، كان يتوق إلي العودة إلي الطبيعة كوخ البستاني العشيق ويتصوّر أن في ذلك خلاص الإنسانيّة، كما يلعن أحيانًا العقلانية والآلية التي تقتل منابع الحياة المتكامل الذي يحقق ذاته. وما يؤكد هذا أن الإخصاب حدث في الكوخ. أزمة رواية لورانس التي لم يتقبلها المجتمع في ذلك الواقع راجعة إلي اعتراضات علي القيم التي كسرتها السيدة النبيلة بإقدامها علي هذا الفعل الشائن، لكن السبب الحقيقي- كما يقول أحد نقاده - يتمثّل في هذه النظرة الارستقراطية. فجزء من اعتراضات المجتمع »يعود لكون تلك السيدة النبيلة تقيم علاقة مع شخص من العامة وفي ذلك إهانة للمجتمع الارستقراطي وهذا ما لا يمكن التغاضي عنه. وما لم يُدركه لورانس، أنه بعد وفاته وبعد الستينات ومع انفتاح المجتمع وحرية الثقافة والأدب باتت روايته من الأعمال المتحفظة مقارنة بما كتب منذ ذلك الحين وحتي يومنا هذا لم تكن رواية عشيق الليدي تشاترلي هي أوّل صدام بين لورانس والرقابة فقد سبقتها رواية »قوس قزح» عام 1915، وقد اعترضتْ الرقابة علي الإباحية التي فيها. مثلما لاقت الرواية الاعتراضات في المجتمعات الغربية بفعل التوجه الكنسي الذي كان رافضًا لمثل هذه العلاقات. تعرضت الرواية في العالم العربي إلي مذابح من قبل مترجميها لا تقلُّ جريمة عمّا حَاقَ بمؤلفها وبالنص في الغرب. ففي العالم العربي، تمّت ترجمة الرواية أكثر من مرّة وفي كل مرة كان ثمّة جورٌ صارخٌ من قبل المترجم علي النص الأصلي بحجّة الانتصار للأخلاق والفضيلة، وكأنّ المترجمين العرب علي اختلاف بيئاتهم نصّبوًا أنفسهم حُرَّاسًا للفضيلة ومدافعين عن الأخلاق والقيم المجتمعيّة التي أراقتها الرواية بدمٍ باردٍ. أوّل هذه الممارسات كانتْ من قبل المترجمين الذين صاروا أشبه بأوصياء الرب، فقاموا مِن تلقاء أنفسهم بحذف الكثير من العبارات والجمل حتي لا تخدش الحياء العام، وهي التهمّ التي يلتقطها أوصياء الرب لمحاكمة مَن يتجاوزون وفق مخيالاتهم. أوّل من تصدي لترجمة الرواية إلي العربية، الدكتور ماهر العيوطي، وقد صدرت ترجمة الرواية عن السلسلة الشهيرة بمؤسسة دار الهلال، روايات الهلال، عام 1987. ثم تأتي الترجمة الثانية للمترجمة »رحاب عكاوي» صدرت عام 2006، واللافت أن المترجمة وصفت عملها هكذا: »إعداد وتحليل وتقديم»، والترجمة صادرة عن دار الحرف العربي، ضمن سلسلة أجمل الروايات العالمية. وفي مطلع هذه السنة أصدرت دار آفاق ترجمة جديدة، يقول عنها مترجمها عبد المقصود عبد الكريم بكل ثقة إنها أوّل ترجمة كاملة إلي العربية لرواية د. ه. لورانس »عشيق الليدي تشاترلي». وفي نفس التوقيت أصدرت دار الكرمة طبعة جديدة من ترجمة الدكتور أمين العيوطي، والتي سبق وأن صدرت عن دار الهلال. الفرد والعالم الصّناعي بغض النظر عن العلاقات الحسيّة التي تكرّرت داخل الرواية، والتي كانت نتيجة لحالة الانفصال الحميمي التي وجدتها »كونستانس» أو »كوني» في علاقتها بكليفورد، وهي في الأصل كانت ليس نتاجًا عن العجز الذي أصاب نصفه السفلي، وإنما كانت تتويجًا لحالة الانفصال التام لما يحيط به من كائنات؛ رجاله حُرَّاس الصيّد، ورجال الغابات أو البساتين والعمّال، فالذي كان يربطه بهم هو العامل المادي، ما عدا ذلك فهم ينطبق عليهم ما ينطبق علي حارس الصيّد الذي يبدو في نظره »حيوانًا نصف مروّض، به قدر من اللُّطف الحيواني، وقدر من السُّوقية نصف الحيوانية». وقد تجلت حالة الانفصال في المشهد الذي شعرت فيه كوني بذعر كليفورد من نفورها منه. وعندها أخذت تُحاسب نفسها، وتأكّد لها أنها لا تميل إليه، بل نفرت من جسده حتي قبل أن يتعطل ويشل. أما ما جذبها إليه فهو قوة عقلة وحدة ذكائه، وبدا »سيدًا لها، ومعلمًا وهاديًّا». الرواية تدين - في أحد أوجهها المتعددة - الفردية التي نتجت عن الإفراط في استخدام الآلة أيًّا كان نوعها؛ آلة الحرب، وآلة التعدين أو حتي السيارة والعكازين. فكان كليفورد مشدودًا إلي الآلة علي حدّ تعبير أمين العيوطي فهو »منذ البداية مشدود إلي آلة، آلة التعدين أو آلة الحرب التي أقعدته، تتحكم فيه الآلة بقدر ما يتحكم فيها، تأثرًا أو تأثيرًا متبادلين». هذه الفردية والتفكير في الأنا دفعت الزوج في بادئ الأمر لأن يُحرّض الزوجة علي إنجاب طفل من آخر، المهم عنده هو استمرارية حياته الخاصة، وتطورها، وعندما سألته كوني في تعجب: »ألا تبالي مَن يكون ابن الرجل ؟». فجاء الجواب هكذا: »إني أثقُ جدًّا بغريزتك الطبيعية في الاحتشام، والانتقاء، إنك لن تدعي النوع السيء من الرجال يلمسك». ثم يعلن في خطوة أبعد رفضه معرفة من يكون. فيقول جوابًا لسؤالها: وهل تتوقع مني أن أخبرك؟ فيرد في برود : »أبدًا. الأفضل ألا أعرف. ثم يقول: هل هذه الإثارات العابرة مهمة؟». وهذا المنحي يأخذ بالرواية إلي إدانة تامة إلي الثورة الصناعية التي أفرطت في توحيش الذات الإنسانية، بانغماسها في تحقيق مصالحها، حتي ولو كان علي سبيل الأخلاق والشرف. فهو غير مبالٍ بمن والد الابن بقدر ما أنها ستعطيه ولدًا ووريثًا يُحارب به من أجل البقاء علي منجمه وضيعته، ومن ناحية ثانية يحافظ به علي سيادة طبقته كما يقول العيوطي.(مجلة العربي عدد أغسطس 1989،ص 109) يُنحّي عبد المقصود عبد الكريم التيمة الجنسية التي ذاعت بها الرواية وكانت أحد أهم أزماتها سواء في نشرها أو حتي في ترجماتها، حيث سعي المترجمون العرب إلي تحاشي الألفاظ الجنسية الصريحة، إلي المرتبة الثانية. ويري حسب قوله في مقدمة الترجمة الجديدة التي يراها الكاملة والصحيحة »أعتقد أن التيمة الرئيسية للرواية هي العلاقة بين أرباب العمل »الطبقات الحاكمة» والعمّال »الطبقات الخادمة». كما تشير الرِّواية إلي ثمّة ارتياب من لورانس إزاء الثورة الصناعية وما أحدثته مِن تشويه لجمال الطبيعة فقد صار »الريف بعيدًا عن الأصالة جدًّا»، كما حوّلت العمّال إلي عبيد عند أصحاب المصانع، ويكفي معاملة كليفورد لكلِّ مَن يعمل عنده، دلالة علي هذه العجرفة التي يتعامل بها الأثرياء مع الطبقة الجديدة. ونلمح هذا الجانب الانتقادي متثملاً في نبرة الراوي متتبعًا الحارس بعد لقائه بكوني وقد غاب في طيات الغابة، حيث الهدوء كان ضاربًا، والقمر قد غاب، فنقم علي صوت الآلة الخافت. فهي الآلة الملعونة، التي لا تلبث أن تلتهم الغابة وتعصف بالبقية الباقية من حريته واستقلاله وعزلته. فالجانب المهم في الرواية هو النقد الصريح للمجتمع الصناعي الذي في نظره »شلَّ قدرة الإنسان علي إقامة علاقات حسيّة طبيعية، مثلما شلَّت الحرب العالمية الأولي لورد كليفورد نتيجة إصابته، في حين تتفجر زوجته ليدي تشاترلي طاقة وعنفوانًا فتلجأ إلي حارس الغابة، الذي يعمل لدي زوجها، وتنشأ بينهما علاقة في أحضان الطبيعة ويبدآن معاً حياة جديدة.» مؤلِّف الرواية ديفيد هربرت لورانس هو أحد أهم الأدباء البريطانيين في القرن العشرين، ولد في 11 سبتمبر 1885 في قرية إيستوود بمقاطعة نوتنجهام شاير بالمنطقة الوسطي من إنكلترا، لأسرة عاملة متوسطة الحال، كان أبوه من عماّل المناجم، أما أمه فكانت علي قدرٍ من التعليم والثقافة بخلاف والده، وهو ما كان أحد أسباب الخلافات بينهما وقد انتهتْ بالطّلاق، وأشار ديفيد لهذه العلاقة في روايته »أبناء وعشاق» 1913، والتي عالج فيها العلاقات الغرامية والعائلية. تعدّدت مجالات إبداعه فهو يوصف بأنه روائي، و شاعر، وكاتب مسرحي، وكاتب مقالات، وناقد أدبي ورسام أيضًا. كما كتب في أدب الرحلات وترجم أعمالا عديدة من اللغة الفرنسية إلي الإنجليزية وله لوحات عديدة مرسومة، وكان التأثير السّلبي للحضارة الحديثة علي الجوانب الإنسانية للحياة وتجريد هذه الحياة من البعد الإنساني هو محور أغلب أعمال هذا الأديب البريطاني، ويري بعض النقاد أنّ الرجل أسرفَ في سوداويته، وكذلك في الاعتماد علي المشاهد الجنسيّة الفجّة في توصيل أفكاره. أخذت حياته أطوارًا مختلفة، وقد أسهمت جميعها في تشكيل وعيه، وكذلك أسلوبه وأعماله الإبداعية. فبعد أن تأهّل إلي الجامعة تعرَّف علي فريدا ويكلي زوجة أستاذه في الجامعة، وهي ألمانية من عائلة نبيلة، ثم هربا معًا إلي ألمانيا، إلي أن تزوجا عام 1914، وكانت علاقتهما خلفية العديد من رواياته، حتي وفاته في مدينة ڤنس الفرنسية. وعن الرِّواية التي حظيت بشهرة عريضة، يعترف لورانس قائلاً: »كتبتُ الرواية ثلاث مرات، وبعد أن قرأت النسخة الأولي لاحظت أن عجز كليفورد جاء رمزيًا بالشلل. كان الشلل الأعمق لمشاعره وأحاسيسه المميزة لنوعيته من الرجال ولطبقته حاليًا. هل هذه رمزية؟ الرواية بمدلول أحداثها جعلتها رمزية. بطل الرواية كليفورد يعود من الحرب مقعدًا، نصفه الأسفل يعيش مشدودًا إلي مقعد يمنعه من التنقل في أرجاء متنزه قصره وغابته».