أنظر لنفسي في المرآة ولا أعرفني اليوم ، رغم أني أقوم بنفس الطقوس يوميا . أضع المساحيق علي وجهي. أهذب شعري الثائر دوما . أعرف جيدا حركات يدي وهي تجذب ثوبي من علي كتفي فتتسع فتحة الصدر التي تستقر العيون النهمة فيها . لم أحبها تلك التي تنظر إلي في المرآة . أخرجت لها لساني ورسمت بسمة باهتة علي شفتي وخرجت من الغرفة . شعرت بالنظرات التي انسكبت علي تعريني من باقي ملابسي. وجوه لا يميز بينها سوي رقم المائدة التي يجلسون عليها وعدد الزجاجات الفارغة أو تلك الزجاجة المميزة التي تخبئ نصفها السفلي في مكعبات الثلج وتطلق لعنقها العنان لتنادي نديم الليل بكأسه الذي لا يفرغ . نفس النظرة الشبقة تتنقل علي وجوه تعمد أصحابها في بداية الأمر أن يكونوا متحفظين أو علي أقل تقدير متمهلين . ثم بعد كأس واحدة ونظرة إلي واحدة منا يظهر الوجه البدائي الأصلي للجميع. بين هذه الموائد عرفت ضروبا من الحكمة لم أعرفها في أي كتاب ولا عند أي حكيم. هنا عرفت أنه مهما نجح أي فرد منهم في رسم صورته كرجل يلبس البذلة والكرافات في المناسبات ، أو في مكان عمله. هنا تظهر حقيقته التي يخفيها عن الجميع. يعود ذكرا لديه القابلية لأن تغويه أنثي. بل يتوسل كي توقعه في حبالها . يريد أن يهرب من أداء دور الرجل الذي فرضته عليه قوانين المجتمع الحديث. فجعلته يتحمل مسئولية إعطاء كتفه لتستريح عليه رأس من تحبه، وهي آمنة . تظن أنه سيحميها من الوحوش الضارية . في حين أنه يتوق ليدفن رأسه في صدر امرأة . يسكب فيها شوقه لأم تحنو عليه. ويلقي هو الآخر بهمومه علي كتفها . ويعيش طفولته التي ضاعت حين وصل إلي مرحلة البلوغ . يريد أن ينسي صوت أبيه الهازئ حين أشار لشعر ذقنه النابت حديثا محذرا إياه أن يقرب ماكينة حلاقته . وعندما شعر بالحرج كان صدر أمه ملاذا . ولكن صوت أبيه الهازئ جاءه مرة أخري وهو يحذر أمه من أن تختلط ملابسه الداخلية مع ملابس أخواته البنات لأن الولد وصل مرحلة البلوغ ويمكن أن تحدث مصيبة . وبقيت كلمة مصيبة ترن في أذنه إلي أن تزوج . وبعد تسعة أشهر عرف معني المصيبة. ثم تحول إلي خبير في الهرب من المصائب حين يستسلم راضيا للإغواء . وبعد أن يشعر بنشوة النصر يدق علي صدره دقات الفاتحين ويرحل ليبدأ رحلة العودة مرة أخري لنفس المكان . جلست علي أول مائدة لأنظر من النافذة الزجاجية التي تطل علي الشارع . لم أدقق النظر فيمن يجلس أمامي علي المائدة . مجرد انطباع في ذهني أنه ذكر كغيره لا يريد غير بسمة مرسومة بإتقان . وكلمات تدربت عليها علي مدار خمس سنوات. وإنصات لترهاته التي لا يجد من يسمعها خارج هذه الجدران المختفية خلف الدخان والأضواء المنبعثة من مصابيح صاخبة مختلطة بأصوات الموسيقي العالية ، والضحكات الصريحة المفتوحة النهايات مثل قصص هاو جديد لا يعرف كيف ينهي قصته . شعرت بعينيه تثبتان علي وجهي . لم أشعر بها تتجول كباقي العيون علي خارطة جسدي المستباح . كان هذا دافعا قوياً لأري من هذا الذي يؤجل عمله الأزلي . تجمدت أنفاسي وأنا أنظر إليه. لم ينطق بكلمة . ولكنه كان يقرأ ما كتبته خمس سنوات علي وجهي . حاولت كسر صمت العجز المفاجئ . فتحت الزجاجة المختفية في مكعبات الثلج فخرج منها زبد أبيض يثير الرغبة في تقبيل كأس من يجلس معك وتتبع آثار شفاهه بشفتيك . صببت الشراب في الكأسين بهدوء مصطنع وجلست أحتسيه ببطء وأنا أنظر إليه . كان يبادلني النظر بحيادية مسئول أمني أو صحافي متمرس . تنمرت أمامه . ووضعت في نظراتي كل مخالب النمرة الجريحة التي نزفت حتي أوشكت علي الموت . فاليوم أنا هنا من أبدأ العلاقة وقتما أشاء وأنهيها وقتما أشاء . لم أعد تلك التي أحبته يوما . وتركته يعشش داخل أروقة قلبها . وبعد أن زقزقت طيور الكون معها . استيقظت يوما ووجدته هاجر مع طيور الشمال . هنا كل مقاليد الأمور بيدي . ليست بيد أي رجل. هنا يأتي الذكور يزحفون علي أسطورة الرجولة المصطنعة . يقبلون كل الشروط . ويبذلون بلا تفكير . يتحررون من الوجه البلاستيكي الذي يخفي حقيقتهم . وينسون عهودهم لزوجاتهم . بل ينسون أسماءهم وهم يوقعون سجلات الدخول والتجول بين حدائق الأنثي التي لا تمل ولا تكل . قرأ كل هذا في عيني .عرف أني صنيعة يده . أني نتاج هجرته المفاجأة . كم تمنيت وقتها أن يكون تحدث معي قبل رحيله. لم أكن لأمنعه. بل مجرد معرفة الشيء يقلل من ألم الفقد . مثل الموت نخافه لأنه يأتي بغتة . فلو كنا نعلم وقته ما خفنا منه لأننا ألفناه بمعرفة موعده . رأيت ما يشبه الإعتذار في عينيه، بعض الحنان الذي أشتاق إليه ، بعض الإحتواء الذي أحتاجه، بعض الأمن الذي فقدته . ربما كان يريد أن يبعثني بين ذراعيه من جديد . أو ينفخ في من روحه . ولكن محاولاته كلها باءت بالفشل . فقد جاء بعد أن أسلمت الروح . وتحلل جسدي الذي كان يعرفه جيدا.