كل الأشياء حولك هي "كائنة" بالفعل، ليس برغبتك الشخصية وتصوراتك لها، وإنما بفهمها وإدراكها الحقيقي والصادق لنفسها، كل الأشياء تستطيع أن تقنعك بوجودها، تستطيع أن تحدثك عن مشاعرك تجاهها ومشاعرها تجاهك، تسميها "جمادا" وتسميها "حيوانا"، وتسميها "إنسانا" وتسميها بأسماء ليست لها، وإنما أنت في معظم الوقت تنسي كثيرا، أنها تسميك أيضا، وتعتبرك طرفا قد يكون فارقاَ ومغايراً، وقد يكون تافها وحقيرا، حياة مليئة بالتفاصيل والرؤي، كل ما يشغل الوجود له رؤية للعالم بالفعل، ينطق ويتحدث بمالديه من أطروحات، يصف نفسه جيدا، ويقول لك: انتبه، فأنا موجود أيها الأحمق. وأنت تقرأ المجموعة القصصية الأولي للكاتب محمد فاروق "سينما قصر النيل" والصادرة عن دار ميريت، حتما ستكون مجبورا علي التصديق، علي الإذعان للجمل الصادقة المملوءة بالتفاصيل المباحة والحقيقية طوال الوقت، لأشياء وكائنات وحيوات مختلفة، لن تزهد في الاهتمام بها، وخصوصا تلك اللغة الصادمة التي لاتحتمل النفاق ولا التجمل، لغة قادرة علي تصديق نفسها، قادرة علي خلق الدهشة الناتجة من الوضوح، والانبهار الناتج من البسيط والممكن، حتي لو كانت تلك الكائنات فأرا، أو رجلا من الأسفنج يركب حصانا من الحلوي، أو رجلا لا يحب البستان، أو رجلا مملا يتحدث عن ال" الكائن" الذي يحبه، أو فتاة اسمها "القضية الفلسطينية عبد الفتاح شكري"، كل هؤلاء بالفعل يعترفون أحيانا بضآلة وضعهم وخطورته وتوتره، وأحيانا يعترفون بأهميتهم واعتدادهم الكامل برغباتهم وأحقيتهم في فرض انتباه الآخرين من الكائنات، وفي كل الأحوال، بصرف النظر عن مدي اعتدادهم بنفسهم، فهم في النهاية، موجودون بالفعل، جعلهم الكاتب هكذا، وجعلنا نصدقهم، ونصدقه. ستجد نفسك مثلا وأنت تتابع لغة "محمد فاروق" في قصة "رجل الإسفنج وعروس الحلوي" مدهوشا بحياة مفعمة بالوجوم والقلق، متعاطفا مع هذا الرجل الإسفنجي وهو يرصد مأساته في تريث، وفخورا باستماتته العنيفة علي عشقه لهذه العروس من الحلوي، هو لا يعرف شيئا سوي أنه يحب عروس الحلوي هذه، وهو يعبأ جدا بأنه غير قادر علي التحرك، كل من يحيطون بالرجل الإسفنجي بداخل المحل وخارجه، يصيبونه بقمة الضجر والإحباط، فلو أنهم سمعوه مرة لاستراح، هو يحب فقط هذه العروس البيضاء المصنوعة من السكر، وهو يضجر بهذا العالم، بصاحب المحل، بالزبائن، بالطفل الذي يخنق رقبته وهو يمسكه، بكل من ينغصون عليه تطلعاته، لا عليك عزيزي القارئ إلا ان تقف احتراما لهذا الرجل الإسفنجي الوقور الفخور بتجربته الراقية المهذبة، تجربته قد تبدو أعظم بكثير من تجارب العشق الآدمية التي ندعيها ونحكيها بنفاق، ثم يصيبنا منها القرف والإنكار، حتي ولو قادته الصدفة للانقلاب علي ظهره بفعل غير مقصود من صاحب المحل، وتعلقه بمسمار علي الرف الذي تقف عليه حبيبته، حتي لو بدأت ملحمة النمل العظيمة وهو يتسرب ليحطم أسطورة الحبيبة المصنوعة من السكر، تستطيع إذن إدراك معني الألم وانت تشاهد حبيبتك يلتهمها النمل في تلذذ وحرفة، تنقص مع الأيام حتي تختفي، أما أنت أيها المسكين، فلن تستطيع أن تفارق مكانك. كل هذا في الحقيقة لم يشفع للرجل الإسفنجي عند الكاتب ليصدر به كتابه وتخلي عنه مبدئيا تخليا لا ينم عن تأجيل بقدر ما كان ينم عن شفقة عليه، فاتفقوا جميعهم علي أن يكون هناك تضحية بتصدير الكتاب بتلك المرأة في "سينما قصر النيل"، القصة التي تبدأ رحلتها في الاستحواذ علي ذاكرتك منذ اللحظة التي تغلق فيها الكتاب، لغة سردية استمدت يأسها من يأس بطلتها، واستمدت عدم ثقتها في الحكي النمطي من عدم ثقة المرأة في أزمنتها التي خانتها، أحيانا تخونك الأزمنة جميعها لتتشبث ببعض الصور وتبكي، وأحيانا تحاول السيطرة علي اللحظات التي تظنها جميلة، وتحاول الإحاطة بالأوقات الثمينة، ولكنك تكتشف أنك جزءا منها لا يمكنك اتخاذ القرار، وحينما تصبح هذه الأزمنة ماضيا ستضع بينك وبينها الكثير من العراقيل والاندهاشات، تجعلك مستسلما وأنت تبكي شيخوختك العظيمة، كل هذا تجلي في تلك المرأة التي اكتشفت أن زوجها يخونها خيانة غير نمطية مع "نادية"، خيانة تمتزج بأجواء "الست"، "والقصبجي"، حدث هذا ساعة قررت حضور حفل "الست" لتشاهد زوجها يخونها مع أخري، ساعتها قررت المشاهدة، المشاهدة التي لم يكن لها طعم فريد إلا بكلمات أغنية الست الفريدة، وبألحان تمتلئ بالشجن الثري، جلست تتابع الخائنين من الصف التاسع، بينما كانا يجلسان في الصف الرابع، دموع امتزجت بإعجاب الحاضرين بروعة "الست" وهي تبهرهم "رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا"، ولم يكن الخائن يدرك أن "أم كلثوم" ستحميه من فضيحة محققة حين قررت الزوجة استكمال الحفل في صلابة، عمد الكاتب في مهارة إلي استرجاع الأزمنة في خفة المشاهد من أعلي، لتتم الإجابة علي كل الأسئلة النمطية والغريبة، قصة هذه الزوجة منذ البداية، كيف تزوجا؟ كيف كانت العوائق؟، كيف وصل هو إلي الخيانة؟، مع من خانها؟، متي طلق الزوجة الثانية؟، كيف رحل؟، وسريعا استطاع بلغته الصادقة تمريرنا علي الأزمنة والأوقات، لتعود هذه المرأة المسنة إلي نفس المشهد، ثومة: يا أغلي من أيامي، القصبجي، الحفناوي، الحضور، وزوجها وهو يحتضن "نادية"، وكانت خلفهما بأربعة صفوف في هذا الزمن البعيد، ولكن الدموع هذه المرة سقطت علي الريموت الراقد في حجرها، واكتشفت أنها تشاهد ذكرياتها علي شاشة قناة تسمي روتانا زمان. ستحاول في كل الأحوال أن تلتقط الأزمنة مقنعا نفسك أنك تحتويها، ستشاهدها في البداية وكأنها جزء منك، ولكنك ستكتشف مؤخرا، أنك أنت الجزء الوضيع الصغير جدا في هذه الصورة الكبيرة، أنت عنصر في هذه الذكريات المسجلة، أنت العنصر الباكي عندما كنت بداخلها، وأنت العنصر الباكي أيضا، وأنت تجبر علي مشاهدتها بعد سنوات.