مشهد ما قبل الخروج / فلاش باك: لم يَخَفِ الطفلُ يومًا، وهو يري الظلالَ المتحرّكة التي يصنعها أخوه الأكبر علي الحائط حين تنقطع الكهرباءُ وتستعين الأمُّ بشمعةٍ قديمةٍ ملقاةٍ في أحد الأدراج الباهتة لخزانةٍ متشقّقةٍ توشك علي الانهيار. كانت ضحكاتُه عاليةً وأخوه يعقف أصابعَه كخيال الظلّ، يشكّلها وحشًا كبيرًا مفتوح الفم، يدمدم لنيل وجبته من لحم الصغير، وهذا يقفز في رشاقةٍ للإمساك بالوحش وضربِ الحائط بيديه الصغيرتين، وأخوه يملؤه الغيظ: فلا شيء يجدي مع ذلك الصغير الذي لا يخشي العتمة، ولا الظلالَ المبهمة، ولا "أبو رجل مسلوخة،" ولا أمَّنا الغولة، ولا هراوةَ العسكريّ الأسود، بل ولا عصا أبيه الكفيف كذلك. يجري ليختبئ في حضن أمّه، يطلق ضحكاته، ويعبث في شعرها، ويبحث عن الحلوي من خلال فتحة ثوبها الضيّقة. تجوس يداه في صدرها فتنهره، لكنه يعاود ضحكَه حين تعْثر يدُه علي شوكولاتةٍ طريّةٍ ولزجة. يأتي الأب بحصيلة اليوم من عمله الذي تكرهه الأم: فهي تشمّ رائحة الموت في ملابسه حين يقترب منها والصغارُ نيام، فتُعْرض عنه، وتستحلفه بأن يكفّ عن الجلوس علي المقابر وقراءةِ الذكْر الحكيم، باسطًا منديلَه المحلَّاوي الأزرق، يتلقّف ما يجود به أقاربُ الميت، حتي أصبح وجودُه بين المقابر مألوفًا، فأطلق سكّانُها عليه لقبَ "الشيخ مأمون" مع أنه لم يحفظْ من القرآن إلا أجزاءً يسيرة. لا تزال الأم تخشي أن يباغتها الموت وهي تلهو مع ابنها الصغير، أو وهي تتشاجر مع يحيي ابنها الكبير الذي فشل في الحصول علي دبلوم التجارة ويسعي إلي شراء توكتوك يقوده في شوارع شبرا الخلفيّة. يحيي يلحّ عليها أن تبيع قرطها الذهبيّ، وهي تتمنّع عليه وتستحلفه أن يكفّ عن الشجار؛ فروحُها أشبهُ بغصّةٍ في حلقها، ووجهُها يزرقّ، وهي تشعر بضيقٍ شديدٍ في التنفس، ولن ينصلح حالها إلا إذا ناولها صغيرُها شربة ماءٍ باردٍ تتجرّعه علي مهل وترشّ الباقي علي وجهها وملابسها مردّدةً: "يا حيّ يا قيّوم، أبعدْ عني الهموم، وعزّتك وجلالك ريّحْ لي قلبي وأبعدْ عن ولدي الشرّ." ولم تكن تحدّد بالضبط أيّ ولد تقصد، لكنّ عينيها كانتا تتّجهان تلقائيًّا إلي الصغير وهو يلعب بعرائس الخشب، ويقيم حواراتٍ طويلةً لا تفهمها إلا الأمُّ، التي ترحّب بهنّ وتُعدّ لهنّ قليلاً من الشاي تصبّه في أكوابٍ بلاستيكيّةٍ صغيرة، وتسقيهنّ بيدٍ مرتعشة، حتي يتسرّب الملل إلي الصغير فيطوّحهنّ في الهواء، ثم يرتمي تعبًا علي صدر أمّه. فجأةً شعرت الأمّ بوخز السكّين في كتفها اليسري ولم تعد تقدر علي الوقوف أو الجلوس. ولأول مرة شعر الصغيرُ بالخوف وترقرقتْ عيناه بالدموع وهو يري أمَّه تنازع الروح، والعرق يتصبّب من جبينها، وهي تحاول الابتسام له، مناديةً أخاه الذي تركها مغاضبًا لأنها لم تعطه قرطها الذهبيّ وظنّ أنها تمثّل عليه، مع أنها تشبّثت بطرف قميصه متوسّلة إليه أن يأخذها إلي المستشفي. الصغير يبكي وهي تهدهده وتحدّث نفسها في ألفاظ متحشرجة: "ريحة الموت في فمي وأنفي، وعلي طرف لساني مرارة، وكلّ حتة من جسمي بتتنفض وتنخلع. الظاهر يا عمري هاودّع الدنيا والخلايق." قطْع. مشهد الخروج (داخلي): جاء الأب، ومعه عفيفة العامشة التي تخصّصتْ منذ أن هدّها المرضُ في تغسيل النساء وإلباسهنّ الكفنَ الشرعيّ، وتعتبره عملاً لوجه الله شرط أن يضمن لها وجبتين للغداء والعشاء وقليلاً من الأرزّ واللحم إنْ تيسّر. جسدُ الأم مسجًّي بعنايةٍ علي طاولةٍ خشبيّةٍ قديمة. تتجرّع بعضَ الماء البارد وتغسل يدَها بماءٍ ساخن، وتبدأ في الغسل. الأب يروح ويجيء كبندول ساعة، يحاول أن يبكي لكنّ همّه هو كيف يمنع الصغيرَ من اقتحام الغرفة ورؤيةِ الأم عاريةً متوجّهةً إلي القِبلة. لأول مرة يبكي الصغير، ويشير إلي الغرفة المغلقة. تنتحب الجارات ويؤثّر فيهنّ بكاءُ الصغير، فتتطوّع إحداهنّ بمناولته غزلَ البنات أو قرصَ نعناع مدوّرًا أو نداغة، لكنه يقذفها في الهواء: فهو يريد الشكولاتة التي تدسّها أمُّه في صدرها. يتوسّل الأبُ إلي أخيه الكبير أن يخرج به ويشتري له ما يريد لحين دفن الأمّ. قطْع. مشهد الخروج (خارجي): سار الصغير بجوار أخيه الكبير ولسانُه لم يكفّ عن السؤال: إمتي نروح لأمّي؟ أمّك مشيتْ خلاص. راحت فين؟ عند ربّنا. طبْ، ليه ما أخدتنيش معاها؟ يكظم الولدُ الكبيرُ دموعه، فتتحجّر في مقلتيه. ضمّ الصغيرَ في حنانٍ وقبَّله لأول مرة وقال: الله يرحمها، خلاصْ، ادفنتْ في التراب. وأبويا هيقري عليها؟ آه. يعني هي خلاصْ؟ مشيتْ خالص؟ خلاصْ. خرجتْ من الدنيا. روحها عند رّبنا. أنا هادْعي ربّنا أروح لها بسرعة، علشان أجيب منها الشكولاتة ونلعب مع بعض. قطْع. مشهد داخليّ: لا يزال الصغير نائمًا، أو هكذا بدا للآخرين وهم يتحلّقون حوله وابتسامةٌ صافيةٌ تعلو وجهَه. فقد رأي أمّه تجلس بالقرب من نبع نهر، وحولها خضرةٌ كثيفة، وطيورٌ بيضاءُ تحطّ علي كتفها مرّةً وتقف علي يدها مرّةً. قالت له: معي قارورة من المسك والعنبر، سوف أرشّها عليك عندما تخرج معي. اقترب الصغير منها وحاول أن يمدّ يدَه إلي صدرها، لكنها امتنعتْ وغرفتْ له بيدها عسلاً، وباليد الأخري خمرًا بيضاءَ لذّةً للشاربين. أقبل الصغيرُ يرتشف في نهم، حتي سال علي حوافّ فمه العسلُ والخمر. طال حلمُ الصغير، ورفض دعواتِ أبيه إلي الاستيقاظ، ولم يؤثّر فيه صوتُ أخيه الزاعق وهو يهزّه بشدّةٍ ويقلبه ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال: فحلمُه لا يزال معلّقًا بين حياةٍ لا يرجوها، وحياةٍ يبتغيها ليظلّ دائمًا مع أمه. حلم الصغيرُ بأمّه كثيرًا، وشعر بأنفاسها وهي تهدهده ليغفو في سلام. أما الأب، الذي امتنع عن العمل وشحّ الخيرُ في البيت، أيقن أنّ صغيره ستتلقّفه يدُ عفيفة العامشة السمراء ذات العروق النافرة الخضراء رغم أنّ أرضيّة الحجرة الخشبيّة لم تجفّ منذ آخر زيارةٍ لها .أخذ يبحث لها عن وجبتين لغدائها وعشائها، فلم يجد، فجلس بالباب ينتظر أن يحلم مثل صغيره.