كادا أن يفقدا بعضهما الآخر ويفترقا إلي الأبد، فيخرج هو إلي المجهول، وتعود هي إلي شبق الحياة، لأنهما باختصار، لم يعودا يطيقان حالة الهذيان المتلبسة جسديهما تحت قسوة وتعذيب الحياة. ... وفي آخر شجار لهما، أقسم بالطلاق ثلاثاً ألا يعود إلي منزله المشؤوم، لأنها أخبرته بكل صلافة أنه لم يعد الفارس ذا الجواد الأبيض الذي طالما حلمت به، فأوقن أنها تنام مع غيره في أحلامها، وترسم صورة لرجل آخر، أشد فحولة منه، وربما يمارس معها الحب علي سريره أيضاً، وظل قرار الطلاق ماثلاً بين أنيابه بينما يبادل صديقته نادلة المقهي همومه بحزن فتربت الأخيرة علي كتفه بحنان، تفكر في حل لمعضلتهما تلك، تستعيد بعض الأحداث من أفلام الرومانتيك والمسلسلات التركية التي تشاهدها، تبحث في أغوارها إلي أن تقع في مخيلتها صورة (اللمبي) وهو يسقط عن الشجرة مرات عدة من أجل عيون حبيبته التي اختفت بعد ذلك الفيلم ولم تعد تراها، فتضحك جازمة بأن حالة السيد (لمبي) قد تخرجهما من حالة الاصطدام، دون أن تبلغه النادلة بأن تلك الفكرة لم تكن حديثة الصنع، أو أن نهايتها قد تكون غريبة كفكرتها. صبيحة اليوم التالي، استنشق مع بزوغ أول خيط من خيوط الشمس عبق الحياة، ثم خرج كعادته يمارس روتينه الأزلي، يجري علي الكورنيش، ثم يحصل علي جرعة حمام ساخنة، ثم يتوجه لتناول طعام الإفطار في أحد المطاعم القريبة من شقته، ويمضي إلي مكتبه/ مكتبها في العمل، وبين يديه باقة من الزهور، وقبل أن يدلف إلي مكتبه، يطلب من الفراش أن يبلغها بأن عميلاً لديه معاملة ويرغب في الحضور لمكتبها لبعض الأمور الهامة، فتوافق كالعادة، وحين يدلف إلي مكتبها، تأخذها الدهشة والحيرة، يقف أمامها طويلاً وهي متسمرة دون أن تنبس ببنت شفة، يسأل: هل لي أن أجلس؟ تضحك، تضحك كثيراً، تجيب: تفضل. بابتسامة ماكرة، يقول: أنا عارف محمود، عفواً أنا فارس الأبيض، مواطن عربي. تطفر دمعة دافئة، والضحك يجلجل في الغرفة: هل عدت إلي جنونك من جديد؟! عفواً، ماذا تقصدين؟ تفكر لحظتها أن تمارس معه اللعبة كما يريد، وأن تستمر في حوار علّه يبدد حالة الاختناق التي أحالت وجهها إلي مفترق للتجاعيد. آسفة، ظننتك زوجي (تضحك). تتابع: تفضل، هل من خدمة أسديها لك؟ نعم، أنا، أنا بصراحة، (وكأنه متوتر) مذ رأيتك هنا لم أعد أدرك شيئاً غير وجهك الوضاء. تبتسم، تتمتم لنفسها: يبدو أنه يريد أن يخدعني بطريقة جديدة، و... عفواً آسفة، لقد سرحت قليلاً. لا عليك، لكن هل تقبلين مني باقة الزهور؟ بالتأكيد، أشكرك علي ذلك، لكن اخبرني. تفضلي (وفي عينه حالة من الهيام، كأنه يجول في أروقة عالم آخر). من قال لك بأني أحب اللون الأبيض؟ هكذا ظننت، لأن قلبك ناصع البياض. غريبة، إن زوجي لم يلتفت لذلك رغم أننا متزوجون منذ أكثر من عشرة أعوام. وهل أنت متزوجة؟ نعم، لكننا علي وشك الطلاق. هل لي أن أعرف السبب؟ يبدو أنك فضولي...، ربما سأخبرك يوماً ما. إذن، هل تسمحين لي بدعوتك علي الغداء اليوم؟ تضحك، "هو لم يدعها لتناول طعام الغداء مذ عملا معاً في هذا الفراغ". بكل سرور، لكن ألا تخشي زوجي. لا، فأنا حين أكون معك أشعر بأنني قوي. تبتسم، ترتسم علي وجهها علامات الرضا: إذن نلتقي بعد انتهاء العمل الساعة 2:30 مساءً. بالتأكيد سأكون بجوار المبني في 2:25. اتفقنا إذن، تحياتي لك يا صديقي الجديد. تتابع والابتسامة ما تزال مطبوعة علي شدقيها: عفواً لقد نسيت اسمك. فارس، فارس الأبيض سيدتي. ينصرف إلي مكتبه، يمارس رياضته بالتوقيع علي الأوراق ومتابعة شؤون الموظفين جميعاً، وهو ينتظر انتهاء الدوام بفارغ الصبر. وقبل أن يخرج أي من الموظفين يكون بانتظارها في الخارج، بعربة جديدة استأجرها لتوه، ذات لون أحمر، وحين تخرج، تسأله غامزة: من أين لك هذه السيارة؟ إنها لي، أو بإمكانك اعتبارها لك؟ يبدو أنك كريم جداً، حتي علي من لا تعرف؟ لا، أنا أعرفك جيداً، فأنت تراودينني في أحلامي ويقظتي. ألا تخاف من أن أثور في وجهك، فأنت تهين زوجي بذلك. يضحك: إن زوجك ورغم أني لم أره، لم يقدر النعمة التي بين يديه، فلو كنت مكانه لاحتفظت بك علي الدوام. هامسة: لا أعتقد ذلك، أيها المخادع. عفواً، سمعتك تقولين شيئاً. لا عليك، كنت أتمتم بأغنية تعودت عليها. ينزلان من العربة، يسيران باتجاه أحد المطاعم الفاخرة، يجلسان علي إحدي الطاولات الفارغة، يسألها والابتسامة تراوده: ماذا تطلبين؟ تطلب وتطلب، كأنها لم تأكل منذ عشرين عاما، وفي مخيلتها مشاجرة جديدة قد تخلق حالة حب علي فراشهما بعد كل ذلك، لكنه هذه المرة لا يفكر سوي بإتمام اللعبة التي رسمتها لهما صديقته نادلة المقهي. وفي نهاية الغداء، يسألها علي استحياء: هل لي أن أطلب رقم هاتفك المحمول؟ بكل تأكيد؟ لكن ألا تخاف زوجي؟ لا، فأنا لم أخفه حين دعوتك علي الغداء، فلا أعتقد بأنني سأفعل حين أهاتفك. ومتي ستهاتفني؟ متي تحبين؟ في أي وقت؟ خارج وقت العمل الرسمي. يطول حديثهما، يجلسان لساعات طوال، ثم يأخذها إلي شقته، ويتركها هناك، فتسأله باستغراب: إلي أين أنت ذاهب؟ سأعود إلي بيتي؟ تبتسم: أما زلت تمارس تلك اللعبة؟ يكفي هذا؟ أتركك الآن؟ سنلتقي قريباً؟ إلي اللقاء. يمضي إلي المقهي، وهناك يضحك كثيراً مع صديقته نادلة المقهي، ثم يهاتفها، ويتحدث معها كأنه لم يتعرف عليها قبلاً، يطلب منها بريدها الالكتروني، وفي المقهي يمارس لعبته مجدداً، حسابها في (الفيس بوك) ما زال موجوداً لديه، يدردشان بطريقة لذيذة، يتحدث إليها، يخبرها بأنه أحبها مذ رآها، ويعاود بها ذكرياته القديمة، كيف التقاها، وبما كان يحلم حينها، و..و..و. هي أيضاً، تحدثت إليه، شكت له زوجها، وكيف تغيرت أحواله في الفترة الأخيرة بسبب ضغط العمل، وماذا تكره منه، وهو يسجل في ورقة كل عيوبه التي تراها بعينيها، وقبل أن ينتهيا من حوار طويل لم يسبق أن استمر بطريقة هادئة كتلك المرة، يطلب عنوانها الذي يعرفه، وحين يصل منزله/ منزلها، يصفر لها، ينادي عليها، وهي تنظر إليه من شرفة المنزل وفي وجهها ابتسامة بنت العشرين، التي سرعان ما تتلاشي بعد أن يحاصره ثلة من رجال غرباء كانوا يقطعون الطريق صدفة، يبصقون في وجهه، يضربونه بشدة، يركلونه بأقدامهم، لأنه يعاكس امرأة غاب عنها زوجها، وهي تجري نحوه لتبلغهم بأنه زوجها وليس أحداً آخر، لتكتشف بأن ركلاتهم قد بلغت مبلغاً عظيماً في جسده، ثم تسنده إلي جوارها، يمضيان إلي منزلهما، بينما تفتر شفتاها عن ابتسامة شبقة: الآن، سأريك يا صديقي كيف تحافظ علي مملكتي. تنام، والعتمة تحاصر ليلتهما الحمراء.