بصورة طفل يسير بجوار »الجدار العازل« في الاراضي الفلسطينيةالمحتلة يستقبلك غلاف كتاب الصحفي الألماني »هايكو فلوتاو« والذي تحمل ترجمته العربية نفس الاسم ويحمل عنوانا فرعيا »فلسطينيون واسرائيليون علي أرض ممزقة« ، وبكلمات متعاطفة مع الضحية دائما يعبر بنا الكتاب خلال دهاليز الصراع العربي الصهيوني منطلقا من حقيقة المأساة التي يمثلها الجدار العازل في حياة الفلسطينيين ولكن ايضا ساردا وجهة النظر الأخري كما نتوقع من صحفي غربي. لا يسعي الكتاب إلي أن يكون بحثا تاريخيا، فلا لغته علمية ولا هو يتبع منهجا بحثيا بعينه، ولكنه يقدم بالفعل مقاربات تاريخية صحفية مميزة، ففي فصل »سدود العجز« يتتبع الكتاب تاريخ بناء الاسوار العازلة بين الأمم وتاريخ فشلها في هذه المهمة كذلك، مستعرضا الاسوار المنتمية لعصور الامبراطوريات القديمة، بادئا بسور الصين العظيم الذي شيدته الامبراطورية لحمايتها من هجمات المغول ولكنه فشل في المهمة واجتاحه المغول بمساعدة جنرال فاسد، ثم سور هادريان الذي شيده الرومان في بريطانيا لحمايتهم من »البرابرة« (دائما هناك خطر »المتوحشون« كمبرر لبناء السور، يتغير المتوحشون عبر الصراعات وتبقي الاسوار)، ثم ينتقل سريعا إلي العصور الحديثة حيث يقف سور برلين كأشهر الاسوار العازلة في القرنين الماضيين، ولكن الكتاب لا يكتفي باستعراض تاريخ قيام وانهيار سور برلين ولكنه يتتبع تاريخ جيتوهات اليهود في أوروبا كأحد أهم اشكال العزل بالأسوار، وبما أن الكاتب ألماني والكتاب موجه بالأساس للقارئ الغربي فإنه يقضي في هذا الجزء الوقت الأكبر من الفصل ولكنه لا ينتهي عنده، حيث نكتشف ان انتشار الاسوار العازلة والتي يصفها استاذ الفلسفة الفرنسي تيري باكو ب » جدران الخوف« يمتد من شمال غرب اوروبا في بلفاست بايرلندا إلي جنوب القارة العجوز في البوسنة كما يصل إلي الحدود الهندية البنجالية والحدود الامريكية المكسيكية، ويورد المؤلف رقما مفزعا حيث يؤكد ان »هناك 31 سورا أو حائطا طينيا مشيدا او يشيد حول العالم ويبلغ مجموعها الكلي 23 الف كيلو متر« ص 74. ينتقل الكاتب من الاسوار إلي تاريخ فكرة العزل عن الآخرين في الفكر الصهيوني مركزا علي »فلاديمير جابتونسكي« أحد مؤسسي عصابات »الهاجاناه« الصهيونية والذي يسميه المؤلف »المبشر بالجدار« حيث كان اول من طالب بعزل العرب عن اليهود في فلسطين بأي طريقة كانت حتي وان تم ذلك عبر »سور حديدي« كما هو عنوان اشهر مقالات جابتونسكي، ولكن المؤلف يستعرض ايضا عددا من المفكرين اليهود الذين انتقدوا فكرة العزل واهمهم حنة ارندت الفيلسوفة الالمانية الامريكية صاحبة كتاب »في الثورة« . يبتعد المؤلف بعد ذلك الفصل المركزي عن التأريخ لمسألة الجدار ليغوص اكثر في جذور القضية الفلسطينية، ويلجأ إلي المؤرخين الجدد في اسرائيل، ويبدو هذا اللجوء منطقيا في ضوء توجه الكتاب الأصلي للقارئ الغربي، ويقدم اضاءة جيدة ايضا للقارئ العربي تكسر فكرة الآخر المصمت المعادي لنا بحكم هويته غير القابلة للتغير، ويتناول المؤلف هنا اراء العديد من المؤرخين اليهود الذين ينتقدون الرواية الصهيونية الاصلية عن أرض الميعاد (فلسطين) التي بلا شعب، ويسردون رواية اقرب للرواية الفلسطينية عن النكبة والتهجير خلال حربي 1948 و1967، وربما يكون جويل بنين المؤرخ الاميركي اليساري اليهودي هو الاشهر لدينا ممن يرجع لهم المؤلف بسبب كتاباته العديدة عن مصر، ولكن المؤرخ الذي يرجع إليه المؤلف أكثر من غيره هو الاسرائيلي بيني موريس صاحب كتاب »ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين« والذي كشف للاسرائيليين تلك الحقيقة الغائبة عنهم ان مؤسسي دولتهم قاموا بطرد الفلسطينيين من ارض اجدادهم! يفرد الكتاب -الذي فقد الفهرست في مرحلة ما من الانتاج رغم احتوائه علي كشاف بالاسماء وثبت بالمراجع وحتي خرائط لفلسطين- اخر ثلاثة فصول لعملية السلام ومعضلاتها، متناولا المقاومة ونشأة حماس ومدينا بشكل لا لبس فيه العمليات الاستشهادية التي يسميها ب« الانتحارية« طوال الكتاب -ربطها الكاتب طوال الوقت بحركة حماس متجاهلا ان حركة فتح نظمت ايضا عددا كبيرة من العمليات الاستشهادية خلال الفترة التي يتناولها الكتاب- وهنا تجب الاشارة إلي ان المترجمة عبير مجاهد، رغم الجهد الواضح الذي بذلته في الكتاب فأخرجته في عربية سلسة، لم تراع في بعض الاحيان ان الكتاب كان موجها للقارئ الغربي ما يتطلب ايضاحا هنا وهامشا هناك يعرض للرأي من الزاوية العربية، وقد أوضحت المترجمة لي انها فضلت الابقاء علي الكتاب علي ذلك النحو ليحتفظ بطابعه الذي وضعه عليه المؤلف. وربما يكون أحد أهم مميزات الكتاب هو النكهة الصحفية التي تتوافر به، ليس فقط عبر اسلوب الكتابة، ولكن أيضا من خلال العديد من اللقاءات والتحقيقات التي يقترب فيها المؤلف من الاثر الانساني للجدار ولجوانب الصراع الفلسطيني الاسرائيلي علي البشر سواء فلسطينيين دمر الجيش الاسرائيلي والجدار منازلهم او مكاتبهم أو عاق حياتهم وتنقلاتهم داخل الضفة الغربية أو اسرائيليين عانوا من اثر العمليات الفلسطينية المسلحة، فهذه الموضوعات الصحفية التي ترصع فصول الكتاب تنقل القارئ من برودة الارقام والتحليلات إلي حرارة المشاركة الوجدانية لمشاكل ومشاعر البشر/الضحايا في حرب لم يخترعوها. تبقي الاشارة في النهاية إلي ملاحظة صغيرة تتعلق بأهمية تدقيق الاسماء والوظائف في الكتاب، فالمؤرخ جويل بنين يرد اسمه الاول في الكتاب »جول« ، ومحمود الزهار يرد اسمه كمتحدث باسم حماس دون الاشارة إلي انه اصبح في عام 2006 وزيرا لخارجية حكومة حماس، وافراهام (أو ابراهام) بورج يرد وصفه في الكتاب مرة بالمتحدث الرسمي الاسبق باسم الكنيست الاسرائيلي ومرة أخري برئيس الكنيست الاسبق وهو الأدق، ولكن هذه الملاحظة لا تقلل باي حال من الجهد الكبير للمترجمة ولا لدار نهضة مصر التي اصدرت الكتاب في غلاف يفوق الغلاف الأصلي جمالا ولا لمعهد جوته الذي دعم ترجمة هذا الكتاب من الألمانية إلي العربية.