يحقّ للدكتورة سهير المصادفة، الفرح مع بلوغ سلسلة الجوائز الرقم مائة، وكدأبها علي بثّ رسائل هامسة، إبداعيّة حيناً، و فكريّة حيناً آخر، اختارت أن تتوج المسار المميز للسلسلة في عددها المائة، بترجمة رائقة قويّة تحرّض علي القراءة، للشاعر السوري د.وحيد نادر لكتاب "الملك ينحني ليقتل" وهو عمل "يستعصي بعض الشيء علي التصنيف أدبيّاً" للشاعرة والكاتبة الألمانيّة من أصول رومانيّة الحائزة علي جائزة نوبل لعام 2009، هيرتا موللر. يبدأ الاشتباك مع نصّ موللر مع عنوان الكتاب.العنوان الأصلي للكتاب بالألمانيّة Der König verneigt sich und tötet أو: الملك ينحني و يقتل، تحوّل في النصّ العربي إلي: الملك ينحني ليقتل. هذا الانزياح من واو العطف العموميّة، إذ الملك ينحني و يقتل في مسارين متجاورين يوحيان بوجود مسارات أخري يمارسها الملك/الديكتاتور إبان طقس الانحناء، إلي لام التعليل التي تقصر غاية الانحناء علي القتل فحسب، و هو انزياح مقصود لا شكّ، ربما كان جانباً من الجوانب التي تواجه دراسات الترجمة في طرح مشكلات الترجمة، من حيث هي ظاهرة لغويّة/ثقافيّة في الأساس، وانتقال النصّ من بيئة اللغة المصدر إلي بيئة اللغة الهدف. فبحسب النظريّة السوسيوثقافيّة لبيتر نيومارك فإنّ الإنسان : »لا يترجم اللغات بل الثقافات« ما يستلزم وعي المترجم لا باللغتين المصدر و الهدف، بل بالثقافتين اللتين يعمل بينهما. يتجلّي هذا الوعي في اختيار التبديل بين واو العطف و لام التعليل، إذ لا يُري في انحناء الديكتاتور إلا طقساً لا يمارس فيه إلا الانتهاك و القتل و الإذلال، لا شيء آخر. الملك / الديكتاتور في هذا الكتاب ليس نيكولاي تشاوتشيسكو الطاغية الروماني الّذي حكم خمسة عشر عاماً حتّي أُعدم علي شاشات التلفاز رمياً بالرصاص عقب محاكمة دامت ساعتين فحسب، بل رجل يحترف صناعة الخوف. يخشي الموت فيشوّه اللغة، و يصير الملاك محضّ تمثال رأس السنة المجنح، و يصير النعش موبيليا أرضيّة. الخوف هنا عِماد أساسي تتكئ عليه دولة الملك ،"عليّ أحياناً أن أعضّ علي أصابعي، كي أحسّ أنّني ما زلت موجوداً" ، يتجاوز الخوف تشويه اللغة إلي تشويه الروح، إلي ضياع الإحساس بالوجود الّذي يلقي بظلاله علي كل مظاهر حياة خلو من الروح. تحكي المؤلفة قِصّة أحد جيرانها في رومانيا، ملك آخر، لكنه هذه المرّة ملك التوت: كان مريض سرطان في مرحلته الأخيرة و لم يُعط يومئذٍ من العلاج سوي إبر البنسلين، إذ كان هناك نقص في إبر المورفين و لم يتوفر لدي الطبيب المعالج شيئاً منها. لم تستطع إبر البنسلين مساعدته علي تحمّل نوبات الألم التي كانت تجوب جسده، فاتفق مع الموت علي ذاك اللقاء. في دار بيته الخلفي انتصبت شجرة توت بسلم يستند علي جذعها. كانت دجاجاته قد تعلمت النوم علي الشجرة، حيث يصعدن درجات السلم كل مساء حتي يصلن إلي أعلي الشجرة و هناك يصطففن بانتظام للنوم علي الأغصان. و حين يطلع النهار ينزلن السلم عائدات إلي أرض الدار. كانت ابنة الميت تقول :"بعد تدريب استمر عدة أسابيع اطمأنت الدجاجات للشجرة تماماً. حتي أنّ الدجاجات لم يسمحن لانتحار الرجل أن يزعجهنّ، رغم أنّه علّق نفسه بحبل مشنقة مربوط بغصن الشجرة التي ينمن عليها. لم يصرخن و لم يرفرفن، لم يسمع أحدٌ أيّ صوت مهما كان صغيراً في الدار ليلة الانتحار". وهكذا وقد درّب الملك شعبه علي صعود شجرة التوت، يُرسل كلابه المفترسة لاصطياد الهاربين علي الحدود و تمزيق أجسادهم، ثمّ يتركُ تلك الأجساد ملقاة في العراء ( لِمَ؟) ليكتشفها الفلاحون فيما بعد أثناء الحصاد. الجميع هنا بانتظار الموت ولن يكون الفاعل مجهولاً لكنه كلي الوجود، ثابت. وغالباً ما يئول القتل إلي انتحار. وُلِدت هيرتا موللر عام 1953 في قرية نيتسكيدورف الرومانيّة بإقليم بانات وهي منطقة بوسط أوروبا مُقسمة حالياً بين ثلاث دول هي رومانيا وصربيا والمجر لأبّ عنيف المِزاج عمل بقوات SS الشهيرة، و أمّ Volksdeutsche ألمانية العرق، أقصاها السوفيت لتقضي عقوبة العمل بمعسكرات العمل الإجباري خمس سنوات، ليمحنها اسمها المسيحي صديق لأمها قضي نحبه بالمعسكر بسبب الجوع. سنجد في سيرة موللر ذات التفاصيل المتشابهة التي نصادفها بسير المبدعين ممن عاشوا بالمجتمعات الديكتاتوريّة، فقد خسرت وظيفتها كمترجمة في أحد المصانع الهندسيّة بسبب رفضها العمل جاسوسة لمصلحة الاستخبارات الرومانيّة لينتهي بها المطاف هاربة علي ظهر جرار زراعي إلي ألمانيا الغربيّة تحمل حقيبتين لا غير، شتاء 1987 . صدر الملك ينحني ليقتل عام 2003 و تواصل فيه موللر رصدها لوحشيّة معسكرات الموت، وفساد أجهزة الدولة و الصدمات الشخصيّة التي تقود الناس للجنون في دولة الطغيان اللإنساني، وهي الخيوط الأساسيّة التي تربط أعمال موللر منذُ روايتها الأولي منخفضات Niederungen التي صدرت عام 1982 في طبعة منقوصة جراء الرقابة الصارمة، و أول كتبها التي نُشرت في ألمانيا الإنسان في الدنيا طائر تدرج كبير، و الثعلب آنذاك كان هو الصياد، و ليتني لم أقابل نفسي اليوم ( صدر عن سلسلة الجوائز أيضاً بترجمة الدكتور مصطفي ماهر)، مروراً بكتابين من الكولاج الشعري : سيدة تعيش في عقدة الشعر، السّادة الشّاحبون يحملون أكواب القهوة المرّة، وحتّي كتابها الأخيرAtemschaukel أرجوحة النفس الّذي صدرت طبعتيه الألمانيّة والعربيّة بذات التوقيت أثناء معرض فرانكفورت الدولي عام 2009 بترجمة أنجزها د.وحيد نادر أيضاً. يقع الكتاب في تسعة فصول أغلبها قامت هيرتا موللر بكتابتها علي شكل محاضرات جامعيّة أثناء عملها أستاذة لنظرية الشعر في توبنجن و بادن فايل. الكتاب: "الملك ينحني ليقتل" المؤلف:هيرتا موللر الناشر:هيئة الكتاب