ذات صيف بعيد كنت أقلب في أعداد قديمة من مجلة الدوحة، أحد تلك الأعداد والذي يرجع الي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كان به حوارمنشور مع "إبراهيم أصلان". اخذ "أصلان" يصف لمحاورته عشقه لمنطقتي إمبابة والكيت كات، ما شدني الي الحوار وجعلني لا أنساه حتي الآن، كلامه الذي يشع بالحب عن الشوارع والناس العاديين، جيرانه وزملائه في العمل، أخذ يصف شغفه واهتمامه بالمرور علي الأسواق القديمة، تحديدا أولئك الذين يفترشون الرصيف وهم يعرضون بضاعتهم، أشياء قديمة ربما تبدو غير متجانسة مع بعضها، تماثيل نحاسية ملاعق فضية راديو قديم كنكة قهوة.. الخ. كان "أصلان" يصف حرصه علي المرور عليهم بشكل دوري، وأن حجرته امتلأت بتلك المقتنيات القديمة. ما الذي جعلني أتذكر هذا الحوار الآن، ربما لأنه لم يبرح ذهني من وقتها، وربما لأنه وضع في يدي مفتاح لشخصية "أصلان"، الذي يتعامل مع الكلمة وكأنها تحفة فنية يجب أن تعامل بشكل يليق بها، اهتمامه بالناس العاديين الجالسين علي المقاهي والماشين في الشارع، تلك التفاصيل الصغيرة التي يجيد التقاطها بحرفية عالية، تصل الي درجة الافتتان بها والوقوع في هوسها، سيبدو "أصلان" وكأنه درويش وقع في هوي التفاصيل، و"انجذب" الي المكان/ "الكيت كات"، حريصا علي أن يصف لنا الظل الذي يغرق الشارع، أو أن يهتم في إحدي قصص "حجرتان وصالة" مثلا، بالسيدة التي اختفت وراء ستارة البلكونة لتجمع الغسيل المنشور، وقدومها وهي تحمل كوم الغسيل، بينما الستارة تغطي جسدها ووجهها ومع تقدمها تنزاح الستارة الي الخلف عائدة الي مكانها. في كل كتابات "أصلان" ستبهرك تلك التفاصيل الصغيرة، تفاصيل تحدث في كل ثانية أمام أعيننا، وربما نمارسها نحن دون أن ندري أو نأخذ بالنا منها، لكن "أصلان" كان قادرا علي التقاطها ورصدها، هكذا يجب أن يكون الكاتب، قادرا علي اصطياد تلك اللحظات وحبسها في ذاكرته وكتاباته، وإبهارنا بحصيلته تلك.. التفاصيل هي التي تشكل لنا العالم من حولنا، تفاصيل تجعلنا نري الأشياء أو حتي أنفسنا بشكل مختلف ومغاير.. ليس التفاصيل فقط، بل هناك السخرية التي تجعلنا نبتسم ونحن نقرأ، السخرية التي يجيد "أصلان" تقديمها لنا، مبثوثة وسط كتاباته وحوارات أبطاله، تري ذلك واضحا في "خلوة الغلبان" و"عصافير النيل"، سخرية يلجأ إليها أبطاله لمواجهة مأزقهم الوجودي، ولتعينهم علي تحمل لعبة الحياة معهم. الزمن ملمح آخر في كتابات أصلان، سيظل العجائز حاضرين بقوة في نصوصه، هكذا بتذمرهم مما يحدث أمامهم وأحيانا غير المبرر، أو باستكانتهم واستسلامهم ليد الزمن التي مسدت أبدانهم، وربما أيضا ليمنحونا الحكمة، تلك التي وصلوا إليها خلال معركتهم المحسومة مسبقا مع الزمن. أحيانا كنت أتساءل: هل استطاع أصلان القبض علي الزمن؟ أعتقد أنه فعل ذلك.