1 أينما وليت، فثمة وجه للحزن، ودعوة للغضب. أينما وليت، ثمة وجه للوطن. 2 صباح السبت، الثالث من أغسطس عام 1991، وبينما العربة التي تقلنا تغادر (البيضا) بالجبل الاخضر، وتندفع عبر غابات الصنوبر وحقول التفاح علي ارتفاع ألف متر من سطح البحر، وعلي مدي مائتي كيلو من بنغازي التي نتجه إليها، امتدت يد السائق تعبث بزر المذياع حتي تمهل المؤشر عند محطة تذيع مجموعة من الاخبار الخفيفة التي تتخللها فقرات سريعة من الموسيقي الراقصة. كنا نتحدث، ونمرح، وانتبهنا قليلا علي صوت المذيعة وهي تقول إن أولي هذه المجموعات اسمها (أرخص ليالي) وقد صدرت عام1945. لقد انتبهنا قليلا إذن لم يتوجس أحدنا شرا، فصاحبنا حاضر دائما، والصوت النسائي لم تتغير نبرته المرحة وهو ينتقل عبرالموسيقي من خبر إلي أخر ومع اللحن المميز للبرنامج، كدنا نواصل الحديث، والمرح، عندما مال السائق، الاقرب إلي المذياع، والذي تابع الكلام من أوله، ملتفتا إلينا بجانب وجهه وهويتابع الطريق: » هذا الكاتب يوسف إدريس، توفاه الله« اختلط صوته الاجش، بالصوت الملون الناعم الذي قال: » إذاعة الشرق الاوسط، من القاهرة« 3 في الغربة يسألونك، فلا تدري ماتقول تكتشف فجأة أن يوسف هذا لايلائمه الرثاء، وأن كل حديث عن عمله الفني الذي منحنا إياه، حديث معاد. تلك حقيقة أكبر سطوعا من أن تكون بحاجة إلي برهان، منذ ارتفع صوته الجهير، الاصيل، معبرا عن كل من لاصوت لهم في هذا الوطن. لقد فتح أفقا وكان مثالا عبقريا علي سرد الحكايا التي أفصحت عن دلالاتها الجارحة بتلقائية مذهلة. ذلك هو ميراثنا الثمين الباقي، ولن يضيع. ولكن إدريس لم يكن ذلك الحكاء العظيم، فقط لقد كان حالة ثقافية كاملة، قوامها الكبرياء، والمناكفة كان رمزا لزمن بكل أحلامه، وخيبات آماله، بكل انجازاته، وكل خطاياه وفي كل الاحوال، كان نوبة الصحيان التي لا تهدأ تدعوك لليقظة، في الصباح، وفي انتصاف الليالي. 4 مثل هذه الحكابا، التي تشابه ظواهر الطبيعة، وتقلبات الفصول وعندما تنفض لانرثيها، بل نرثي أنفسنا 5 هاهي الثمار الغالية تخبو، وتتساقط، قسمات جميلة تغيب عن وجه الوطن، كان يوسف بينها هو طابع الحسن علي خد هذا الوجه النحيل، العليل، الخالد.