استقرار أسعار الأسماك وارتفاع الجمبري في أسواق الإسكندرية اليوم    رئيس الوزراء: مستعدون لتقديم أي دعم مُمكن لزيادة صادرات الصناعات الغذائية    توريد 587 ألف طن قمح لشون وصوامع الشرقية    وزير التنمية المحلية: مشروعات الرصف والتطوير بالغربية تحقق رضا المواطن    إنفوجراف| تعرف على أنشطة مديريات الزراعة والطب البيطري خلال أسبوع    الرئاسة الفلسطينية: نحذر من استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية ضد شعبنا من رفح إلى جنين    بعد تحقق توقعاته عن زلازل إيطاليا.. العالم الهولندي يحذر العالم من أخطر 48 ساعة    حزب الله يستهدف جنودا إسرائيليين عند موقع الراهب بالأسلحة الصاروخية والقذائف المدفعية    تطورات بيان «كاف» عن نهائي الكونفدرالية.. إيقاف لاعب الزمالك وعضو المجلس | عاجل    شوبير يكشف موعد عودة علي معلول إلى الملاعب.. مفاجأة كبرى ل الأهلي    وكيل «تعليم مطروح» يشكل لجنة لمراجعة ترجمة امتحان العلوم للشهادة الإعدادية    تحرير 121 محضرا مخالفا خلال حملات تموينية وتفتيشية بمراكز المنيا    مدير «القومية للحج» يوضح تفاصيل تفويج حجاج الجمعيات الأهلية (فيديو)    إصابة مواطنين في حادث تصادم بين سيارتين بالفيوم    الإعدام لعامل والمؤبد والسجن لآخرين في قضية قتل سيدة وتقطيع جسدها في الإسكندرية    فيلم السرب يواصل صعوده في شباك التذاكر.. وإيراداته تتجاوز 31 مليون جنيه    الليلة.. أبطال وصناع فيلم "بنقدر ظروفك" يحتفلون بالعرض الخاص    أخصائي أمراض الجهاز الهضمي يوضح الفرق بين الإجهاد الحراري وضربات الشمس    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية رسلان غدا.. تضم 8 تخصصات    محافظ جنوب سيناء ومنسق المبادرة الوطنية للمشروعات الخضراء يتفقدان مبنى الرصد الأمني بشرم الشيخ    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    إستراليا ونيوزيلندا ترسلان طائرات إلى كاليدونيا الجديدة في ظل الاضطرابات    صباح الكورة.. 7 لاعبين مهددون بالرحيل عن الهلال وبنزيما يقرر الرحيل عن اتحاد جدة وميسي يفاجئ تركي آل الشيخ    كيف تستعد وزارة الصحة لأشهر فصل الصيف؟    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    أخبار الأهلي : قلق داخل الأهلي قبل نهائي دوري أبطال أفريقيا    لمواليد برج الحمل.. توقعات الأسبوع الأخير من مايو 2024 (تفاصيل)    رئيس الإذاعة: المولى عز وجل قدّر للرئيس السيسي أن يكون حارسا للقرآن وأهله    الموعد والقناة الناقلة لقمة اليد بين الأهلي والزمالك بدوري كرة اليد    أخبار الأهلي : هجوم ناري من شوبير على الرابطة بسبب الأهلي والزمالك.. وكارثة منتظرة    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    بالتزامن مع فصل الصيف.. توجيهات عاجلة من وزير الصحة    في يومه العالمي.. طبيب يكشف فوائد الشاي    استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    تاريخ المسرح والسينما ضمن ورش أهل مصر لأطفال المحافظات الحدودية بالإسكندرية    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    طلب تحريات حول انتحار فتاة سودانية صماء بعين شمس    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    الثلاثاء 21 مايو 2024.. نشرة أسعار الأسماك اليوم بسوق العبور للجملة    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    استشهاد رئيس قسم الجراحة بمستشفى جنين    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    حسم اللقب أم اللجوء للمواجهة الثالثة.. موعد قمة الأهلي والزمالك في نهائي دوري اليد    لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    حسام المندوه: الكونفدرالية جاءت للزمالك في وقت صعب.. وهذا ما سيحقق المزيد من الإنجازات    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    المقاومة الفلسطينية تستهدف قوات الاحتلال قرب مفترق بلدة طمون جنوب مدينة طوباس    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    عمرو أديب عن وفاة الرئيس الإيراني في حادث الطائرة: «إهمال وغباء» (فيديو)    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرغبة تسحقنا
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 11 - 2011

الرغبة تسحقنا، تدفعنا إلي الحديث عن أشياء لا نحبها بل تدفعنا إلي قتل من نحبّه أو نكرهه، بالإمكان أن نعشق أشخاصًا كثيرين في الوقت نفسه للنجاة من التفكير بالموت، ذلك لأنّ الموت محاكاة مزعومة للورقة البيضاء والرغبة، أو هو الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقاش. الورقة البيضاء كفن الكلمات في لحظة الإلهام، والرغبة اشتعال نار الخيال في أدغال الجسد النفسية.
في الانتقال من الجرود النائية إلي صخب الساحل، عشت كالبهائم لا أفكر بالمستقبل، بل عشت جدل الصحراء والبحر، الأشجار والمباني الصماء، لكني لم أنج من طيف الأشواق البعيدة الذي يأتي إليّ نابضًا بالأسي والخواء والوحشة، عشت الرغبة الجامحة كأني أبحث عن الفناء.
الرغبة دراما الجسد في لحظة لاوعي العقل، ولا شيء يدفعني إلي الكتابة سوي جسدي المثخن بالجروح والنزوات، بل لا شيء يدفعني إلي تدوين الذكريات الغابرة سوي عدم العالم وقحله. أعلم أن الكلمات لا تخرج إلا من الصمت، والأفكار ليست إلا تجسيدًا للغبار، فحين أتأمل في المرآة أنتبه إلي الشعرة الشائبة في رأسي أفكر بالزمن الذي احترق، الشعرة تسقط وتربك الصمت الذي أكتبه. أتأمل كيف بدأت الكتابة ولن أصل إلي نتيجة ولن أبتكر أغنية، ولن تعود الشعرة الشائبة إلي سوادها. كأن الكتابة مكتوبة، ولا مصالحة مع الملأ الأعلي، بل لا قدرة للكلمات للهروب من الكفن...

الأشواق والذكريات لا تعيد بيت الطين إلي الدار، والأشجار لا تغني للحطاب ولا تنشد الريح، ربما هي تعيش وهمًا أضافيًا مع الظل أو الغابة. الأشجّار ليست حلم الطبيعة ولا التراب ولا الغيوم العابرة ولا المطر، هكذا تقول الكلمات والقبور. لا أعرّف لماذا كانت صورة سارة تراودني ولا أقدر علي الهروب منها!؟ كأن الرغبة الجوفاء مفتاح الكتابة، أو أن الرغبة الأولي هي أغنيّة كل الأوغاد واللحظات البهيمية. هناك في المكتب في الحي الجديد الذي انتقلنا إليه، بدا لي خلال تأمل الورقة البيضاء، كما لو أني أزيل إبراً حادة مزروعة في معدتي، كانت توخز مخيلتي منذ أصبحت الكتابة هاجسي اليوميّ. اذ أحمل القلم أشعر بعطشٍ هائلٍ للتخريب ولارتكاب مجازر بالتخييلات. أشعر أن الزمن دوّار ويغدر. الزمن يقتل. والدوام هناك خلف طاولة المكتب فيه شيء من لحظات الترويض علي الموت، أصير مثل الوحل الذي لم أولد منه.
كنت تجاوزت الثلاثين من العمر حين صرت أشعرُ أن جسمي يتحلل ويأكله جرذ الساعة في يدي. أتحسس ألم الوتاب في كتفيّ ومحيط عيني اليسري، وقد أدمنت البنادول وبتّ أنظر بقرف إلي شاشة الحاسوب، بل أشعر بالضجر حين أكتب كلمة واحدة، ويستفيق العدم علي بعض شعري الشائب كما الغبار. الوتاب الذي أصابني يوم غادرت البلدة صار عادة يومية مع امتهان الكتابة!! توهمت أنني قادر علي التنفس والعيش في وهم إضافي هو الخيال والذاكرة، ولكني لاحظت أن الكتابة لن تكون أكثر من قمامة الذاكرة. سلكتُ طرقًا خلفية، لتكون الكتابة بعيدًا من الضجيج والمآرب، عرفت أنّ العبارات نوع من قصاص في الحياة، نوع من أفراحٍ مفسدة في باطن العقل، هكذا أشعر عندما أنام. شعرّت أن لا شيء أكثر قسوة من مغادرة الجرود النائية نحو المدينة الصاخبة، لا شيء أكثر حماقة من السير في الوديان السحيقة والجبال الوعرة، ثم المجيء والمشي علي الأرصفة الطويلة المحتلّة من عربات الخضر والسيارات الحديثة بين المباني الصماء العالية والواطئة، لا شيء أشدّ ثقلاً من الجلوس بين نُفّر من الموظفين والشعور بالعزلة بينهم، لا شيء أجمل من النجاة من النهد الثقيل، لا شيء أكثر عنفًا من فقدان الحنان والخواء، لا شيء أكثر روعة من فقدان الحنين. بل شعرت بأن لا شيء أشدّ ثقلاً من صدمة سواد عانة امرأة ونبيذية حلمتيّ ثديّيها.
في المدينة، أحسست للحظة أن القلق يستنزف مني ذكرياتي، ربما لأن الزمن نهر النسيان، أو لأن المرء يعمل كل شيء وهو يفكر بالموت، أو ربما لأنه يشتري اليأس وهو يفتش عن الآخر! ولأن الكتابة الحقيقية خفة لا تحتمل، مثل شجرة تسقط أوراقها، تروي الأشياء الجميلة التي لن تكون أبداً.
أجد نفسي محرجًا وقلقًا في أوقات الفراغ والخواء، أشعر أن انصياعي لدوام العمل في المكتب كانصياع خروف لسكين الجزار، أو انصياع فرانز كافكا لوالده عندما أمره بالسقوط في النهر. أصابعي المتعبة تعجز عن لمس الخيال من خلال الكلمات والحروف، خصوصًا حين تدفعني الكتابة إلي تذكر الشخص الذي كنته، بل أكاد أشعر بالصعقة لأني لا أقدر علي نسيان تفاصيل صغيرة من حياتي، مع أن ذاكرتي مثل لوح جليد كبير تتحطم مع تدوين أول حرف. تكبر الصعقة حين تكون صور القسوة أكثر وضوحًا في لحظات الفرح والابتهاج، فسراب الحلمة لا يغادر قبّة نهد الفتاة المستحمة، بل لا يغادر لحظة التلصص. حلمة النهد أوسع من العين أجمل من الحبر، والرغبة الجامحة ليست أكثر من جوع الخيال لطرائد الواقع المخفي، واليأس يدفع العقل إلي التحلل، والحب طريق إلي الإنتحار.
أعبّر عن أفكاري بالاستعارات والرموز، أكذب وأقول أني أكتب علي الورقة البيضاء، أكتب ربما لأني لم أعثر علي قصة متماسكة في حياتي، وهي بقع متناثرة حلّت علي ذلك المسار الذي ترسمه حياة سائر البشر والأشجار والمباني والحيوانات والسرعة والضجيج والتلفزيون...
منذ غادرت بيتي في شارع الحمرا، بدا كأن كل شيّء تغيّر في حياتي، كأني أخرج من جديد من بلدتي النائية، لم أنتبه إلي ضجيج المدينة إلا بعدما سكنت هناك خارجها لقد رميت معظم أرشيف الصحف في مستوعب النفايات وخسرت مئات الكتب لأني لم أقدر علي حملها. لم أعد ألتقي الأصدقاء كأني اخترت منفاي في بيتي، صارت المقاهي في مخيلتي أشبه بشبح من ماض غابر. منذ بدأت أقود سيارتي بدا كأني انفصلت تلقائيًا عن شارع الحمرا، وبات بيتي هو ملاذ الأول والأخير، في البلدات هناك سواطير إجتماعية تنخر الذات وفي المدينة لا تنجو الروح من الهلاك الفردي.
غادرت شارع الحمرا ولم أترك أثرًا، لم أعد أسمع صوت سارة، ولا أتصل بها لنشرب البيرة والنبيذ في الحانات الصغيرة. لم أفكر في احتمال أن ألتقيها. بسيارتي أمرّ في مناسبات قليلة في شارع الحمرا، أنظر بطرف عيني إلي المقاهي التي أمضيت زمنًا في كنفها، المقاهي التي غدت سرابًا في الذاكرة، أتأمل إن كنت سألمح فيها أشخاصًا أعرفهم يجلسون في أمكنتهم المعهودة، كل شخص أراه يعود إلي مخيلتي شريط ذكرياته، لا أدري لماذا يخيم السواد أو الكوميديا السوداء علي معظم تلك الذكريات؟! من سكاري الليل إلي نساء المواخير.
بدت لي أمكنة الحمرا مثل منطقة الرميلة، كأن كل شيء ذاهب إلي التحول والإزدراء. اللافتات الحزبية تزيد علي الجدران وعواميد الإنارة، ومنذ أحداث 7 آيار كأن الشبح الأمني ينام خلف الجدران، شبان يجلسون علي الأرصفة ومقاهي كثيرة كأنها مراكز حزبية.
لم يعد شارع الحمرا يجذبني بشيّء، وهو كان أصبح بلدتي الثانية في المدينة، يوم رأيت سارة بالصدفة علي الرصيف تمشي برفقة رياض الشاب المثلي وقد لونت شعرها كما لو أنها طاووس. هناك علي الرصيف لم أتحدث معها، نسيّتها أو أردت لنفسي أن أنساها، وأصبحت في الدرجة صفر من الرغبة. كأن سارة غدت بلا ملامح، أو أن انعدام الرغبة بالآخر تجعله بلا ملامح، ربّما أصبحت سارة تحب النساء بعدما ضجرت من الرجال، هكذا تقول خصلات شعرها الملونة. علي صفحتها في الفايسبوك صور من أجواء المثليين وعبارات في العشق، كل شيء يوحي بأن سارة استنفدت الرجال. جوهر سارة أني لم أحبّها، لكن لا يغيب عن وعيّ أنّ لحظة علاقتي بها "تأسطرت" بعد حدوثها، علي نحو ما نقول عن الحبّ الأول. وأسطورتها أني كلما أردت كتابة نص تجلس بين أوراقي كأنها تدعوني إلي كشف المستور.
ثمة لحظات شاء الشاب ذلك أم أبي... يجدر بالشاب أن يكون ضعيفًا أو شريرًا مع والده.
تنتهي حكايتي يوم غادرت بلدتي النائية نحو المجهول وما زلت علي الطريق نفسها... المهم ليس علي أحد أن يعرف سيرتي، ولا يجب أن يعرف، عليه أن يشعر بمتعة القراءة قبل أن ينغمس في هفواتي الشخصية.
تبدأ حكايتي يوم قتلت البلدة النائية ودخلت في إست سارة إلي الأبد، تمامًا كما يهتف جمهور الطغاة "إلي الأبد إلي الأبد". الرغبة أشد فتكًا من الاستبداد، كأن الرغبة ليست سوي صراع بين الشيطان والملاك.
الرغبة أبدية لكن كل شيء يتغيّر. لم يبق شيّء علي حاله في بلدتي، البيوت امتدت كالجرب إلي الجبال، وغابت كروم العنب والمنازل الطينية والترابية.
والغرفة التي كان يسكنها والدي في منطقة سقي الحدث، لم تعد موجودة. باع طوني حداد بيته وأرضه ورحل إلي جهة مجهولة. ودمر الشاري البيت والغرفة التي كانت الشاهد علي استسلام الجسد للإيحاء اليومي.
كنت أمرّ بسيارتي في منطقة سقي الحدث أتأمل بيت طوني حداد قليلاً، كان ما يزال كما هو، لكن حين أراه أشعر أنه مثل عجوز استنفذد عمره وبات علي حافة قبره، أو مثل رجل ينتظر حكم الاعدام به، كل شيء من حوله يشير أنه لن يبقي، الأشجار القليلة التي تحيط به، لم يعد هناك من يسقيها، والأعشاب نبتت في مرآب السيارات. في المرة الأخيرة رأيته وقد أصبح ركامًا من الذكريات، لم يعد بإمكاني مشاهدة ماغي أو أمّها، لم يكن بيت طوني إلا صورة براقة عن الشقاء العاري، وفي لحظة تحوّل أرضًا قاحلة، لم تنقذه الذكريات والكتابة من الموت.
بقي والدي لأشهر يتحدث عن بيت طوني حداد الذي سكن في طبقته الأرضية لسنوات قبل أن يغادره بعد تقدمه في السن. ظلّ والدي لأشهر يقول كان علينا أن نأكل "حلوان" بيع أرض طوني الحداد وبيته.
حين التقيت أبي في المرة الأخيرة، قال أنه لم يتعب، لا يزال اللحم علي صدره لكنه يصاب بالصداع وأردف أن جدي زاره في المنام وطلب منه أن يذهب إلي قطعة الأرض التي أورثه إياها في القريب من بيته، قطعة الأرض لم يبق من شجر لوزها وعنبها أي شيء، لقد نهشتها الجرافات التي تبحث عن الصخور كأن الرزق يذهب مع صاحبه. كأن المرء يصير يشعر في أيامه الأخيرة أن جسمه هو مرآة حياته، وما أن يلمح طيف الشيخوخة حتي يحس أنه يحمل السيف ويحارب طواحين هواء الموت، أو يحاول دفع صخرة سيزيف إلي الأعلي وهو يعرف أنها ستعود وتسحقه.
في التذكر محاولة للنسيان، لليأس من غبار الذاكرة العالق علي جدران الخيال والروح.
في الغرفة الصغيرة التي مات فيها جدي، هناك في البيت القديم، بقي أبي وحيدًا في سريره، خلفه جدران من الكتب اشتريتها وراكمتها علي رفوف معدنية، رغمًا عن أبي الذي كان يكره القراءة وغبار الورق. وخلال إقامتي الطويلة بعيدًا عن بلدتي أصبحت المكتبة مثل غابة لا تعيش فيها إلا "الوحوش الضارية" أو الصراصير والعناكب. كأن الكتب تموت حين تصبح علي رفوف المكتبات، أو هي أشبه بمستودع لأبطال روايات يختنقون بين الكلمات والصفحات، الأبطال يعيشون من القراءة وليس الرفوف.
في غرفة كتبي، رأيت جدي، كان يلتقط أنفاسه علي فراشه. رأيته في السابعة من عمري من الباب بالصدفة، صورة موته بقيت في ذاكرتي لم تمحها الأيام والسنون، رأيته لم أكن أعرف معني الموت، ولا أشعر به. كانت جدتي وأمي تنقلانه من علي فراشه إلي فراش أكثر نظافة، ليموت علي نظافة، رأيته من الباب يلتقط أنفاسه الأخيرة. رأيته ولم يعن لي الموت ولا حضرت جنازته، ولا زرت رخام قبره، كنت ذلك الولد الذي يعيش الحياة ولا يفكر بالهباء.
جدي الذي مات في الثالثة والتسعين من عمره، روت أمي أنه قبل موته بلحظات أيقظها من نومها قال اني متعب و"الروح ما عم تطلع". كان يعرف أنه يموت، وكان الموت أمامه كلحظة عابرة.
أمضي جدي أيامه الأخيرة يتنقل في زوايا البيت يذهب إلي كرم العنب حاملاً إبريق الشّاي، ويمضي ساعات بين العمل والصلاة، يعود أحيانًا حاملاً بعض أكواز التين وعناقيد العنب، يجلس تحت شجرة التوت أو قبالة الشمس، لديه هواية في حياكة قبعات الصوف، لكنه لم يحب قراءة الحكايات، لا يحب الأحاديث والاختلاط أمضي سنواته الأخيرة في حياكة القبعات التي ترك منها بعد موته نحو ثمانين قبعة وزعتها شقيقتي علي المشاركين في العزاء.
مات جدي وبقيت صورته بالأبيض والأسود علي جدار الغرفة.
والدي بعد عودته من بيروت، راح ينام في غرفة جدي كأنه يمشي علي الطريق نفسه، منذ أن بدأ ينام في تلك الغرفة صار يصلي كثيرًا، ويذهب في الصباح والمساء إلي المسجد، بعدما أمضي أربعين عامًا في بيروت. والدي بعد عودته الي البلدة راح ينام في غرفة أبيه، يشاهد منامات كثيرة، وهو إذ يفيق يروي تلك المنامات وكأنه هارب من كابوس، أو كأنه يصارع الموت. يذهب إلي المسجد ويعود ثم يذهب إلي المسجد ويعود، وحين يأتي بخبر عن الموتي الجدد تنقلب أحواله رأساً علي عقب، كأن الموت يضع المسدس في رأسه ويستعد للضغط علي الزناد، الموت ذبابة الزمن تطن في كل لحظة. باكرًا تعرف أبي إلي الموت، منذ توقف عن العمل صار يفكر بالموت في كل لحظة، يغلب علي يومياته تشاؤم قاتم، وكلما نادي المؤذن علي جنازة احدهم حارت الدمعة في عينيه.
"أموت" يقول أبي في كل مرّة يكون منزعجًا، أو مفكرًا بحياة الأخرين.
تجيبه والدتي: "الجبانة واسعة"، وهي التي تآلفت أكثر مع الحياة المرض والتعب، تروي أن جدّها الأكبر كان يهرب من الموت، عندما يعلم أن أحدهم وافته المنيّة في بلدته لا يفكر في المشاركة في جنازته. يضع يده علي خاصرته، تترقرق الدمعه في عينه، يستقل سيارة أجرة ويئم هارباً إلي بيروت أو مناطق بعيدة.
"الموت حق" تقول أمي، وتروي أن جارتها أم اسماعيل حدادة في أيامها الأخيرة، كانت لا تغمض عينيها خوفًا من الموت، فهي عندما تجاوزت السبعين من العمر أجرت عملية جراحة قلب مفتوح وبدأت تتألم كثيرًا، عاشت خمسة عشر يومًا بعد العملية نائمة في سريرها، وهي لا تتجرأ أن تغمض عينيها. ماتت أم اسماعيل ولم تغمض عينيها، بقيت مفتوحة علي الحياة.
ثم تروي والدتي أسطورة تقول أن الله عندما أوقف الموت في مرحلة من المراحل، بدأ الناس يدعون ربّهم إلي إعادته لأنه حق. كانت أمي تروي "أسطورة" لا تعرف تفاصيلها ولم أقدر علي نبشها من الكتب التراثية، لكن وجدّت جوهرها في رواية "الموت في إجازة" لجوزيه ساراماغو، وفيها يطرح الروائي البرتغالي التساؤل المثير "ماذا لو توقف الموت عن العمل؟... ماذا لو استمرت الحياة دونما انقطاع؟" ففي تحيط بها اليابسة ويقطنها عشرة ملايين شخص يأخذ الموت إجازتة في أول دقيقة من العام الجديد. تستمر الحياة كما هي. يمرض بعضهم، يتزوج البعض وينجب. بينما يُصاب البعض الآخر في حوادث سير أو إطلاق رصاص ولكن... لا أحد يموت.
يبتهج الناس في بادئ الأمر فهاهم يعيشون حلم البشرية الآزلي في الخلود دونما خوف من الزوال أو الاختفاء الفجائي للأحبة. لكن الفرح لا يطول. تكتشف الكنائس ان خوف الناس من الموت قد زال وأدي الي تناقص اعداد المترددين، يخاطب الكاردينال رئيس وزراء بلده قائلاً "أن الحياة دون موت... مثل الحياة دون خبز. وأن الحياة دون موت تلغي قوانين لعبة الحياة... فما الذي يحول بين الناس وارتكاب الموبقات بعد أن ضمنوا الخلود؟". تزدحم المستشفيات بالعجزة والمرضي الذين يتأرجحون علي حافة الموت، تتفاقم ازمات السكن والبطالة، تنهار شركات التأمين وشركات المقابرالخاصة. وتدريجيًا تعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها لارتفاع كلفة المستشفيات وإيواء المرضي. تكتشف عائلات كبار السن المحتضرين أن العناية بهم ستدوم للأبد. وبما أن الدول المجاورة لم يتوقف فيها الموت فسرعان ما تدرك تلك العائلات أن الخلاص يكمن في تهريب العجزة الي الدول المجاورة... ليصير التهريب إلي الموت تجارة رائجة تغضّ الدولة البصر عنها. وفي النهاية يواجه رئيس الوزراء الملك بالحقيقة المرة. "أن لم يعد الموت... فلا مستقبل لنا".
في كل مرة كنت ألتقي أبي، أتذكر ذلك المنام الذي رأيته قبل أن أغادر البلدة، مع أني في الواقع عندما أستيقظ من نومي أمحي المنامات كما لو أني أخاف من مضمونها وتفسيرها. كنت أهرب من مقابلته لأني أحبه، ربما لأني أنظر إلي وجهي من خلال وجهه، أري ظلي من خلال ظلّه، أحاول أن أقتله ولا أجده، وأمقت كل فكرة تدعو إلي قتل الأب.
كان أبي يتخيل الموت من خلال صورة جدي وأيامه الأخيرة، يزوره كل يوم في المنام ويتحدث معه. وفي إحدي المرات مشي في الليل مسرنماً يريد مقابلته في الشارع وجدي يهرب منه، قال "أبو حسن" يناديني، وطلب مني أن أتبعه ولكن لم استطع اللحاق به، لقد سبقني.
قبل أن تكتمل الكتابة الآن مات والدي بالأزمة القلبية.
طوال حياته كان ميتًا بالذبحة الإجتماعية.
مات والدي، رأيته قبل موته بساعات كان يخبرني عن موت الأخرين، سمعته قبل موته بقليل، كان بوجعه ينادي "يا حليم"، وحليم هو شقيق كريم مطر الذي مات بأزمة قلبية في سقي الحدث بعدما بلغ الثمانين. كان ينادي حليم ربما لأن لا شيء بقي في ذاكرته إلا ذلك الإسم من زمن غابر في سقي الحدث. رأيته ميتًا في الغرفة التي مات فيها جدي، وصار الموت في مخيلتي أشدّ وقعًا من الكتابة، إذ يتحدث معي في كل يوم، أو كأني أحاربه بالسيف ويهزمني. لم أكن أفكر بالموت قبل موت أبي، أو لم أكن أشعر بالموت قبل موته، رأيته في الغرفة التي مات فيها جدي، لم يكن يتنفس كأنه اطمأن إلي الهواء، لم يكن يتنفس كان يحدق في الهواء، وكنت أنظر إلي وجهه أحسب أنه سيتنفس الآن. بل صرت أجري محاكمة لنفسي عن علاقتي به، كأن الإثم ينمو في الغياب.
مات والدي بالذبحة القلبية، ربما لهذه الأسباب توقفت عن الكتابة الآن!!
فصل من رواية تصدر قريبا بالعنوان نفسه
لبنان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.