شعر ترانسترومر كان مفاجأة لي. كنت بدأت الملل من جادات الشعر الكبري. بدا لي أن شعر ترانسترومر بدون أن يستفز الذاكرة وبدون أن يدخل في تجريب مقصود أو بدون أي تنكر للشعر لا يبني علي مثال شعري قائم. لا يتعمد شعر ترانسترومر أي صدمة ولا أي إبهار أو أي تفنن صارخ. وبدون أي نزوع تدميري أو هجومي أو انقلابي علي الشعر يجد طريقه الجانبي والفرعي. طريقه وحده الذي يضعه ليس ضد أحد ولا في منافسة مع أحد. ليس في الوسع ترسم هذا الطريق. إنه جديد لكن الجدة ليست مطلبه الأول. بل ربما يهمه أكثر أن يكون جديدا قديماً. أو يكون جديداً بدون ماركة الجدة ولا إعلاناتها. إنه مختلف وجديد لأنه اختار مدخلاً ليس مجهولا بقدر ما هو مهمل. مدخلاً غير إمبراطوري ولا مكرس. لقد بدأ من مكان آخر، وبدون أن يقصد وجد إمكاناً آخر للشعر، بل أتاح للشعر أن يبدأ في مكان آخر، لا بد أن مفهوما أكثر توسعا أو أكثر إزاحة للشعر هو الذي سمح بذلك. قد يكون صعباً أن نقول من أين يبدأ هذا الطريق، لنقل إنه ليس معبدا ولا ملكيا، لذلك نفترض أن هذا الشاعر لا يبدأ من مكان ممهد أو مصقول، نفترض أنه يبدأ من مكان لا يزال فيه قدر من الوعورة والوحشية، وأنه يمهد وسعه لكن أجزاء برية وفطرية تبقي مع ذلك، فهذا الشعر ليس دائما منقي أو مصفي، إنه علي طريقة بعض القطع الخام، ما يهم هو شيء كالموسيقي الحديثة، إيجاد موسيقي في كل صوت وفي ما لا إيقاع له، أو الفن الحديث الذي يجد الجمال في المهمل والمتروك وفي كل مادة وكل شكل، يبدو ترانسترومر وكأنه يبحث في طريقه عن جمال كهذا، أي في ما يلقي علي الطريق أو يهمل أو يعتبر عاديا أو مستهلكا أو مهجورا أو غير مصقول وبريا. كل ذلك لا يتعمد ترانسترومر أن يصطفيه لشعره لكنه يجده ويلتقطه ويتأمله. عليك أن تكون شاعرا أولا، أن تملك هذه القدرة علي تكليم الأشياء أو علي مساءلتها وليس علي العالم أن يكون شعرا. إذا كان الرسام الصيني لا يجد فاصلاً بين الخارج والداخل فهذا تقريبا ترانسترومر، لذا يبدو شعره كلوحة صينية تضع عالما في مربع، عالما بكامله والرسام لا يظهر، انه الريشة التي أحيت ذلك كله. حين يرسم ترانسترومر طريقاً ساحلية او مضيقاً بين جزيرتين فإن الشعر هنا هو الريشة التي ترسم، والتي قرأت اللحظة الهاربة وربما الإشكالية لجذع مقطوع او لسنة نوم علي مقعد خلفي، او لتوقف باخرة. او لمرأي غابة، اللحظة الإشكالية والهاربة التي تصادف شاعراً هو في قرارة نفسه ايضا حطاب وقائد سفينة وسائق سيارة. شعر ترانسترومر يجعل الشعر تقاطعا، انه قابليه، انه جاذبيه او بؤرة استقطاب لنصوص عدة، انه ايضا اعادة تأهيل للبداهة والحكمة والمعرفة العلمية والذكريات والاخبار والسرديات والسياسة والتأمل... الخ. لنقل ان ذلك لا يعني استبدال الشعر لأي من هذه، ولا يعني انه معرفة كلية وكاملة، يعني انه نقطة جذب لشوارد كلام ونصوص من كل مكان والشاعر هو في صناعة لحظة شعرية، مس شعري من كل ذلك، مس شعري فما يجمع ترانسترومر برينيه شار الفرنسي هذا المس. انه الشرارة التي تنبجس فجأة من ملامسة محتدمة ومتدرجة للعالم، الشرارة التي تبدو خلاصة كبيرة من خلاصات العالم، اشارة كبيرة من اشاراته والآن إلي الحوار. شعرك مليء بالمخلوقات والنباتات والمعالم، إنه شعر بيئة، نوع من كتاب طبيعيات شعري. هكذا أري علاقتك بالطبيعة فأنت من الشعراء الحداثيين النادرين الذين هم شعراء طبيعة. السويد بشكل عام دولة حضارية والدين الكلاسيكي أي الكنيسة لا يلعب دوراً كبيراً في حياة المواطنين. لذا يتوجه السويديون، بدلاً من الدين، إلي الطبيعة في بعض الأحيان... إلا انهم لا يتوجهون إلي الطبيعة فقط لأجل الدين. أنا نشأت مع والدتي ولم يكن والدي موجوداً... وأجدادي لجهة والدتي كانوا بحارة، البحارة يسكنون الجزر عادة. وأذكر جزيرة "رونماره" التي كنت أزورها وأقضي صيفياتي فيها وأنا بعد صغير. تلك الصيفيات تركت أثراً كبيراً في نفسي... فالطبيعة هناك كانت لا تزال عذراء. اعتاد البحارة الانطلاق من اليابسة إلي الجزر، علماً بأن الأخيرة كانت قريبة من الأرض التي كانوا يسكنونها. وبالعودة إلي الصيفيات التي قضيتها في "رونماره"، فهي لم تثر عندي حب اكتشاف الطبيعة لجهة الشعر والمشاعر. أنا كنت أرغب في أن أصبح باحثاً بيئياً... باحثاً علمياً في الطبيعة والحشرات والنبات إلخ... هوايتي الأولي كانت التقاط الحشرات... الفراشات وغيرها. وعندما بدأت أجول في الجزيرة وألتقط الفراشات، ولدت لدي هواية اكتشاف الجزيرة جغرافياً أو معرفة حدودها. ورحت أدرس كتب الجغرافيا... فأنا أردت أن أعرف أين تقع افريقيا والقارات الأخري، وكذلك تلك الجزيرة الصغيرة. بدأت أرسم الخرائط عن طريق الخيال، إذا صحّ القول. فصرت أقول لنفسي: هذه الجزيرة التي أعيش فيها والتي تبلغ مساحتها خمسة كيلومترات مضروبة بخمسة كيلومترات هي افريقيا... كانت هذه الطريقة أسلوبي في دراسة الجغرافيا العالمية. وبدأت حينها أقتنع بأن عليّ أن أصبح باحثاً علمياً وعالمياً حول الطبيعة والجغرافيا. هكذا كان لقائي الأول مع الطبيعة... عبر جمع الحشرات واكتشاف الجزيرة. بعدها بدأ يظهر اهتمامي بالموسيقي. تتكلّم كثيراً عن الموسيقي في شعرك... عندما كنت أتابع دراستي الثانوية في استوكهلم، كنت في صفّ يهتمّ غالبية طلابه بالأدب. ومنذ ذلك الحين بدأت أقرأ شعر السورياليين الفرنسيين. في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري بدأت أقرأ الشعر وأكتبه. عندما رحت أكتب الشعر قرّرت الاستمرار في ذلك حتي أصبح في ما بعد شاعراً، علي أن تبقي الموسيقي هواية. فأنا كنت أشعر بأن العلاقة تكون أسهل وتعطي فرحاً أكبر عندما يكون المرء هاوياً للموسيقي أكثر منه موسيقياً محترفاً. أي من الشعراء السورياليين كنت تقرأ في تلك الفترة؟ علي الرغم من أن ترجمة تلك الأشعار، في ذلك الوقت، لم تكن دقيقة جداً، إلا انها كانت بالنسبة جيدة لأنها تركت أثراً في نفسي. أيضاً، قرأت لغير السورياليين الفرنسيين، قرأت "إليوت" وشعر أميركا اللاتينية. كنت في الثالثة والعشرين من عمري عندما أصدرت كتاب شعري الأول وقد أسميته "17 قصيدة". وبعد هذا الإصدار، اتخذت قراراً بتحرير الشعر من كونه مصدر رزق لي... لكثرة المحبة التي أكنها له. ورحت أبحث عن شيء أتعلّمه لأكسب عيشي ولتبقي كتابة الشعر لمجرّد الشعر. توجّهت إلي علم النفس حيث استمررت لغاية عام 1990 حين منيت بانتكاستي الصحية. بالنسبة لي، أري أن الطبيعة عندك عظيمة بقدر ما هي مسكونة... وغير عذراء، أي ملأي بالسيارات والأضواء والحياة اليومية... شعرك ليس فيه أوهام. إنه شعر لا يعلّق أملاً علي أي وهم. شعر لا يؤكد شيئاً ولا يحوي يقينيات. هناك حذر من قول أي شيء نهائي.. من أين يأتي هذا الأمل؟ لا يوجد إيمان لكن الأمل موجود... صحيح. من يقرأ شعري لا يجد فيه ديناً ولا إيماناً. فانا نشأت في بيئة لم يكن للدين فيها دور مؤثّر. لكن القاعدة الأساسية للإيمان غير المرئي عملياً موجودة عندي... مثلاً الأمل... لا يوجد إيمان لا في السياسة ولا في الدين ولا في العلم ولا في التاريخ. لا إيمان... في أعماقي، هناك دائماً اعتقاد قوي بأن جميع الأمور تنتهي بطريقة خيرّة وبسعادة. لذا آتي بالأمل لي ولأشعاري. لا يأس عندي... هكذا أعيش حياتي. اكتسبت الأمان الداخلي خلال الفترة التي عشتها مع جدّي لوالدتي الذي كان بحاراً. فهو كان يقود السفن بين الجزر الصغيرة وفي المضيقات الضيقة... وكان هذا أمر محفوفاً بالمخاطر. أكسبتني هذه التجربة شيئاً غير مرئي خلق عندي نوعاً من الأمان الذي طبع أشعاري التي كانت تنمو ببطء. كنت أكتشف فيها الأمل وأترجمه كلاماً. كيف هي علاقتك كشاعر بالفلسفة؟ لم أهتمّ أبداً بالفلسفة... ومنذ البداية والشباب الأول لم أحفل بها. لطالما كانت الفلسفة بعيدة عني. لم أشعر بأن لي أية علاقة بها. وكان الاهتمام الأكبر الذي انكببت عليه هو تاريخ الأدب وتاريخ الأديان وعلم النفس. حتي في أشعاري، أنا لا أفلسف الأمور. كتبت شعراً وكتبت نثراً كذلك. متي الشعر ومتي النثر؟ ساعة يأتي الوحي يظهر إذا ما كانت الكتابة شعراً أم نثراً. عندها أتبين إذا كان من الأفضل أن تأتي هذه الكتابة نثراً أو نظماً. في أشعارك، تتكلّم دائماً عن أشياء غير مقروءة... رسائل غير مقروءة... طبيعة غير مقروءة... وكأن الشعر ليس لتوضيح الأشياء ولا لقراءتها بل لإنشاء سرّ في مقابلها... سرّ آخر مقابلها... عندما تقرأ آخر ما كتبته "اللغز الكبير" تحصل علي جواب يفيد بأن أشعاري ليست أجوبة علي قضاياً معيّنة... هي ألغاز مقابل أسئلة. هناك دائماً العالم المجهول. أودّ أن أبدي مجرّد ملاحظة... فعلي الرغم من تكريس حياتك للشعر إلا ان انتاجك غير كبير... يتساءل الجميع لماذا انتاجي محدود. وكثيرون هم الذين يعتقدون بأن هذا الكتاب هو كل ما أنتجته... لكن هذا غير صحيح. فهناك مسودات أكثر بعشرات المرات مما هو منشور... لكنني لم أصدرها لأنني أشعر بأنها غير مكتملة. هي مسوّدات. وإذا لم تكتمل القصيدة فمن غير الممكن أن أنشرها. وهذا أمر يعود إلي التحرّر من كون الشعر مصدر لقمة عيشي... مقاطع من حوار مطول أجراه معه الشاعر اللبناني عباس بيضون عام 1995ونشر في جريدة السفير