البورصة المصرية تخسر 50 مليار جنيه في ختام تعاملات الأربعاء    بعد الموافقة عليه.. أهداف هامة لقانون "التأمين الموحد"    محافظ أسوان يوجه بتركيب ماكينة صراف آلي لأهالي قرية العباسية بكوم إمبو    ملك البحرين ورئيس الإمارات يدعوان لتغليب الحلول الدبلوماسية وتسوية النزاعات بالحوار    الجيش الإسرائيلي يعلن ضرب 40 هدفا لحزب الله في جنوب لبنان    أحمد خيري يغادر بعثة يد الأهلي للإصابة    "نشعر بخيبة أمل" هاري ماجواير يتحدث عن فوز مانشستر على كوفنتري سيتي    السجن عامين لمتهمة بقتل نجلها أثناء تأديبه في الإسكندرية    أوبرا دمنهور تحتفل بعيد تحرير سيناء الأحد (تفاصيل)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    حقيقة حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات" في الإسلام    برلماني: توجيهات الرئيس السيسي بتطوير منظومة النقل خطوة مهمة    الترويج للاستثمار في مجالات التحول الأخضر والربط الكهربائي لتحويل مصر لمركز إقليمي للطاقة    محافظ الغربية يتابع استعدادات المركز التكنولوجي بطنطا لتطبيق قانون التصالح    نقيب «أسنان القاهرة» : تقديم خدمات نوعية لأعضاء النقابة تيسيرا لهم    في ذكرى تحرير سيناء.. المؤتمر: أرض الفيروز بقعة مقدسة لمصر    الخارجية الأمريكية تحذر باكستان من احتمال التعرض لعقوبات بسبب تعاملاتها مع إيران    مسئول صيني: نأمل بأن تؤدي زيارة بلينكن لبكين إلى تعزيز الحوار    أسوشيتيد برس: احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين تستهدف وقف العلاقات المالية للكليات الأمريكية مع إسرائيل    قبطان سفينة عملاقة يبلغ عن إنفجار بالقرب من موقعه في جنوب جيبوتي    الصين تكشف عن مهام المركبة الفضائية «شنتشو-18»    مايا مرسي تشارك فى ندوة "الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادى للمرأة"    خبراء استراتيجيون: الدولة وضعت خططا استراتيجية لتنطلق بسيناء من التطهير إلى التعمير    آلاء صابر: مواجهة فرق أنجولا صعبة.. وهدفنا التأهل للنهائي    عاجل.. برشلونة يقاضي ريال مدريد بسبب هدف لامين يامال    أيمن الشريعى: لم أحدد مبلغ بيع "اوفا".. وفريق أنبى بطل دورى 2003    جِمال الوادي الجديد تحصد مراكز متقدمة بمهرجان سباق الهجن بشمال سيناء.. صور    رئيس جامعة الزقازيق يُهنئ السيسي بمناسبة الذكرى ال42 لأعياد تحرير سيناء    المديريات تمنع مرور معلم المادة على اللجان أثناء فترة امتحان صفوف النقل    بدء محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس    العدل تبدأ الجلسة الرابعة ل"اختراعات الذكاء الاصطناعى وملكية الاختراع"    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    بعد أن وزّع دعوات فرحه.. وفاة شاب قبل زفافه بأيام في قنا    ضبط 4 أشخاص بسوهاج لقيامهم بالحفر والتنقيب غير المشروع عن الآثار    برلمانية: ذكرى تحرير سيناء الغالية تحمل أسمى معاني الوفاء والعزة والفخر    11 يومًا مدفوعة الأجر.. مفاجأة سارة للموظفين والطلاب بشأن الإجازات في مايو    نوال الكويتية تتعرض لوعكة صحية مفاجئة وتنقل إلى المستشفى    أفلام موسم عيد الفطر تحقق 19 مليون جنيه خلال أسبوعها الثاني في دور العرض    توقعات علم الفلك اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024    تعرف علي موعد عرض مسلسل نقطة سوداء    مع بدء الاستعداد لتقديم تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على أهميته وفقا للقانون    الكشف على1017 مواطنا في 10 عيادات تخصصية بالإسماعيلية    فوز الدكتور محمد حساني بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    قد تكون قاتلة- نصائح للوقاية من ضربة الشمس في الموجة الحارة    للوقاية من الإصابة ب "تشمع الكبد"- اتبع هذه النصائح    "تحليله مثل الأوروبيين".. أحمد حسام ميدو يشيد بأيمن يونس    للقضاء على كثافة الفصول.. طلب برلماني بزيادة مخصصات "الأبنية التعليمية" في الموازنة الجديدة    عند الطقس الحار.. اعرف ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    إبادة جماعية.. جنوب إفريقيا تدعو إلى تحقيق عاجل في المقابر الجماعية بغزة    « إيرماس » تنفذ خطة لتطوير ورشة صيانة الجرارات بتكلفة 300 مليون جنيه    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    اسكواش - فرج: اسألوا كريم درويش عن سر التأهل ل 10 نهائيات.. ومواجهة الشوربجي كابوس    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    «خيال الظل» يواجه تغيرات «الهوية»    رئيس هيئة الرعاية الصحية: خطة للارتقاء بمهارات الكوادر من العناصر البشرية    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد 37 عاما.. الجائزة تعود إلي السويد
توماس ترانسترومر.. نوبل 2011
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 10 - 2011

هنا ثلاثة حوارات مع صاحب نوبل نشرت في أوقات متباعدة تمثل في مجملها بانوراما لرؤية الشاعر حول الكتابة والفن والحياة
في حوار أمريكي مع ترانسترومر:
أجد صعوبة في قراءة أعمالي المبكرة
عام 1987 قام ترانسترومر، والذي كانت ترجمت أعماله للإنجليزية، بجولة في الولايات المتحدة حيث القي عدة محاضرات وقراءات شعرية في جامعات متعددة، وعقب ندوته في جامعة بتلر، أجرت الكاتبة والناقدة ليندا هوفرث معه هذا الحوار حول ترجماته وتاثيرها عليه فضلا عن مفهومه للجمهور ومقارنته بين الجمهور الأمريكي والسويدي.
أشرت الليلة الماضية أن ترجماتك غيّرت من طبيعة لغتك السويدية، وأن سويديتك لم تعد مثلما كانت وقت البدايات، هل هذا صحيح؟
حسنا، المرأة التي قامت بتقديمي هي التي اقتبست هذه العبارة من كلامي.
ولكنك توافق علي هذا الرأي؟
من الصعب أن أعرف علي وجه الدقة لأن الأمر يحدث علي مستوي اللاوعي. أظن أنه حتي أكثر الكتاب انعزالا لديه قراء يشغلون ذهنه. إنه نوع من الجمهور غير المرئي والذي ربما لا يكون واعيا به لكنه يقبع هناك، في مكان ما بعيد من ذهنه، كثيرا ما أفكر أن هذا الجمهور يتكون من الأصدقاء، والأشخاص الذين يفهمونك بعمق، لكني أظن كذلك أنه إذا أتيحت لك هذه التجربة الرائعة أن تلتقي بثقافات أخري وأن تتم قراءتك بالخارج، فإن هذا الجمهور يتحول لجزء من الجمهور الخاص الذي يؤثر فيك. إنه لأمر محزن أن كثيرا من شعرائنا السويديين غير قابلين للترجمة نظرا لتركيب الكتابة الخاص جدا بالثقافة واللغة السويدية، بينما آخرون يمكن ترجمتهم بسهولة، مثلما هو الحال في كل اللغات.
لنتحدث قليلا عن مسألة الجمهور هذه، حسبما رأيت يبدو جمهور الشعر ضيقاً، والمكان مغلقاً علي أصحابه وواعيا بذاته بشكل حاد. كأن الشاعر يكتب لشعراء آخرين وطلاب أقسام الكتابة الإبداعية فحسب. أتساءل ما إذا كان الوضع كذلك في السويد؟
الفارق الرئيسي هو أن الشعر هنا نشاط مرتبط بالجامعات بينما في السويد مرتبط بالمكتبات، المكتبات هي التي تقوم بترتيب اللقاءات والندوات الشعرية وهو ما يجعل عرضة لملاقاة جمهور من كافة الأعمار والثقافات.
إذن، فجمهور الشعر لديكم أكثر اتساعا وتنوعا؟
نعم، أنتم هنا تقرأون الشعر في غرف الفصل المغلقة، تدعمون بعضكم البعض. تعبرون عن نفسكم بالقراءة والتعليق وما إلي ذلك، لكن الجمهور في مكان مدينة مثل أوبسالا حيث أعيش بالسويد قادم من أماكن مختلفة، لا يجمع بينهم سوي حب الشعر وقراءته.
الجمهور لديكم إذن ليس قاصراً علي طلاب ومعلمي الكتابة فحسب؟
بعضهم، بالطبع لدينا ندوات للقراءة في الجامعات لكنها ليست ضمن البرامج التعليمية الرسمية كما هو الحال في أمريكا. ماذا يوجد من فروق غير ذلك؟ نعم، أريد أن أعلق أيضا علي طبيعة الجمهور السويدي الذي يتحفظ في التعبير عن انفعالاته. يجلسون بشكل تقليدي ولا تظهر أي انطباعات علي ملامحهم، بلا تنهد أو ضحك أو صياح، وهم يتصورون أن هذا سلوك مهذب ألا تظهر انفعالاتك إزاء الشعر. أحيانا ما يكون هذا محبطاً، فأنت لا تعرف ما إذا كانوا يشعرون بالملل أم الحماسة، بينما هنا - في الولايات المتحدة - تظهر المشاعر بشكل أكثر وضوحا، مع الأخذ في الاعتبار أن كل منطقة في أمريكا مختلفة عن الأخري ولا يصح التعميم.
من أكثر الأشياء التي تجذبني في كتابتك هو وعيك العالمي، لكن كثيرا ما يراودني الشعور بكراهيتك للعالم، في قصيدتك "اسكتش لأكتوبر" كان تشبيهك لثمرات الفطر مؤثرا للغاية حيث تقول "كأصابع ممدة طلبا للمساعدة، لشخص ينتحب وحده في الظلمة الحالكة" شعرت بحاجة ماسة للسلام، فضلا عن أن اشعارك ليست سياسية، لكنها ذات طابع إنساني، هل يمكنك التعليق..؟
إنك تقولين اشياء رائعة جدا ولا أريدك أن تتوقفي (يضحك) نعم، لقد نشأت في زمن الحرب العالمية الثانية والتي كانت بمثابة تجربة مؤثرة للغاية. رغم أن السويد كانت علي الحياد إلا أنها كانت محاطة بالاحتلال الألماني، النرويج والدانمرك كانتا تحت الاحتلال. كانت السويد مستقلة، نعم، لكنها معزولة، وانقسم الناس في السويد، البعض مع الحلفاء والبعض مع الألمان وقامت مشادات لا يمكن تصورها، كان كل ذلك مؤثرا في حياتي كطفل صغير، وكنت وقتها أعيش مع أمي المُنفصلة عن والدي، كنت أحلم بهزيمة هتلر وكنت طفلا مختلفا، هوايته إلقاء المحاضرات وقراءة الجرائد طوال الوقت، أقرب لبروفيسور صغير (يضحك) ومنذ وقتها سيطر علي حلم ان أصير مستكشفا، ربما يفسر هذا شيئا حول كتابتي
حسنا، نشرت كتابك الأول في الحادية والعشرين من العمر، هل مررت بتغيرات كثيرة خلال هذه الفترة الطويلة من الكتابة؟
أرجو ذلك (يضحك) لكن بعض النقاد يقولون أنني لم أتطور مطلقا أو أن تطوري كان بطيئا، يستحضرون نصوصا مبكرة لي ويجدون تشابها بينها وبين أعمالي الأخيرة، لكن بالنسبة لي، هناك تغير كبير بالطبع.
هذا يجعلني أسأل عن التعديلات، هل أجريت تعديلات علي نصوص قديمة لك تم نشرها؟
لا إطلاقا، طالما نشر في كتاب لا أقوم بتعديله.
كثيرا ما يخطر لي أن شعراء عظام - ييتس مثلا - علي فراش الموت يعيد كتابة أعماله الكاملة؟
هذه فكرة بغيضة. الأشعار القديمة علامات وظيفتها هي أن تتجاوزها، حتي أنني أجد صعوبة في قراءة أعمالي المبكرة.
هذا بالنسبة للتعديلات، فماذا عن الإحراق، كما فعل بورخس مع كتبه الأولي؟
حسنا، الإحراق يبدو فكرة جذابة (يضحك) لكنها ستستغرق الكثير من الوقت.
شعر ترانسترومر كان مفاجأة لي. كنت بدأت الملل من جادات الشعر الكبري. بدا لي أن شعر ترانسترومر بدون أن يستفز الذاكرة وبدون أن يدخل في تجريب مقصود أو بدون أي تنكر للشعر لا يبني علي مثال شعري قائم. لا يتعمد شعر ترانسترومر أي صدمة ولا أي إبهار أو أي تفنن صارخ. وبدون أي نزوع تدميري أو هجومي أو انقلابي علي الشعر يجد طريقه الجانبي والفرعي. طريقه وحده الذي يضعه ليس ضد أحد ولا في منافسة مع أحد. ليس في الوسع ترسم هذا الطريق. إنه جديد لكن الجدة ليست مطلبه الأول. بل ربما يهمه أكثر أن يكون جديدا قديماً. أو يكون جديداً بدون ماركة الجدة ولا إعلاناتها. إنه مختلف وجديد لأنه اختار مدخلاً ليس مجهولا بقدر ما هو مهمل. مدخلاً غير إمبراطوري ولا مكرس. لقد بدأ من مكان آخر، وبدون أن يقصد وجد إمكاناً آخر للشعر، بل أتاح للشعر أن يبدأ في مكان آخر، لا بد أن مفهوما أكثر توسعا أو أكثر إزاحة للشعر هو الذي سمح بذلك.
قد يكون صعباً أن نقول من أين يبدأ هذا الطريق، لنقل إنه ليس معبدا ولا ملكيا، لذلك نفترض أن هذا الشاعر لا يبدأ من مكان ممهد أو مصقول، نفترض أنه يبدأ من مكان لا يزال فيه قدر من الوعورة والوحشية، وأنه يمهد وسعه لكن أجزاء برية وفطرية تبقي مع ذلك، فهذا الشعر ليس دائما منقي أو مصفي، إنه علي طريقة بعض القطع الخام، ما يهم هو شيء كالموسيقي الحديثة، إيجاد موسيقي في كل صوت وفي ما لا إيقاع له، أو الفن الحديث الذي يجد الجمال في المهمل والمتروك وفي كل مادة وكل شكل، يبدو ترانسترومر وكأنه يبحث في طريقه عن جمال كهذا، أي في ما يلقي علي الطريق أو يهمل أو يعتبر عاديا أو مستهلكا أو مهجورا أو غير مصقول وبريا. كل ذلك لا يتعمد ترانسترومر أن يصطفيه لشعره لكنه يجده ويلتقطه ويتأمله. عليك أن تكون شاعرا أولا، أن تملك هذه القدرة علي تكليم الأشياء أو علي مساءلتها وليس علي العالم أن يكون شعرا. إذا كان الرسام الصيني لا يجد فاصلاً بين الخارج والداخل فهذا تقريبا ترانسترومر، لذا يبدو شعره كلوحة صينية تضع عالما في مربع، عالما بكامله والرسام لا يظهر، انه الريشة التي أحيت ذلك كله. حين يرسم ترانسترومر طريقاً ساحلية او مضيقاً بين جزيرتين فإن الشعر هنا هو الريشة التي ترسم، والتي قرأت اللحظة الهاربة وربما الإشكالية لجذع مقطوع او لسنة نوم علي مقعد خلفي، او لتوقف باخرة. او لمرأي غابة، اللحظة الإشكالية والهاربة التي تصادف شاعراً هو في قرارة نفسه ايضا حطاب وقائد سفينة وسائق سيارة.
شعر ترانسترومر يجعل الشعر تقاطعا، انه قابليه، انه جاذبيه او بؤرة استقطاب لنصوص عدة، انه ايضا اعادة تأهيل للبداهة والحكمة والمعرفة العلمية والذكريات والاخبار والسرديات والسياسة والتأمل... الخ. لنقل ان ذلك لا يعني استبدال الشعر لأي من هذه، ولا يعني انه معرفة كلية وكاملة، يعني انه نقطة جذب لشوارد كلام ونصوص من كل مكان والشاعر هو في صناعة لحظة شعرية، مس شعري من كل ذلك، مس شعري فما يجمع ترانسترومر برينيه شار الفرنسي هذا المس. انه الشرارة التي تنبجس فجأة من ملامسة محتدمة ومتدرجة للعالم، الشرارة التي تبدو خلاصة كبيرة من خلاصات العالم، اشارة كبيرة من اشاراته والآن إلي الحوار.
شعرك مليء بالمخلوقات والنباتات والمعالم، إنه شعر بيئة، نوع من كتاب طبيعيات شعري. هكذا أري علاقتك بالطبيعة فأنت من الشعراء الحداثيين النادرين الذين هم شعراء طبيعة.
السويد بشكل عام دولة حضارية والدين الكلاسيكي أي الكنيسة لا يلعب دوراً كبيراً في حياة المواطنين. لذا يتوجه السويديون، بدلاً من الدين، إلي الطبيعة في بعض الأحيان... إلا انهم لا يتوجهون إلي الطبيعة فقط لأجل الدين. أنا نشأت مع والدتي ولم يكن والدي موجوداً... وأجدادي لجهة والدتي كانوا بحارة، البحارة يسكنون الجزر عادة. وأذكر جزيرة "رونماره" التي كنت أزورها وأقضي صيفياتي فيها وأنا بعد صغير.
تلك الصيفيات تركت أثراً كبيراً في نفسي... فالطبيعة هناك كانت لا تزال عذراء. اعتاد البحارة الانطلاق من اليابسة إلي الجزر، علماً بأن الأخيرة كانت قريبة من الأرض التي كانوا يسكنونها. وبالعودة إلي الصيفيات التي قضيتها في "رونماره"، فهي لم تثر عندي حب اكتشاف الطبيعة لجهة الشعر والمشاعر. أنا كنت أرغب في أن أصبح باحثاً بيئياً... باحثاً علمياً في الطبيعة والحشرات والنبات إلخ... هوايتي الأولي كانت التقاط الحشرات... الفراشات وغيرها. وعندما بدأت أجول في الجزيرة وألتقط الفراشات، ولدت لدي هواية اكتشاف الجزيرة جغرافياً أو معرفة حدودها. ورحت أدرس كتب الجغرافيا... فأنا أردت أن أعرف أين تقع افريقيا والقارات الأخري، وكذلك تلك الجزيرة الصغيرة. بدأت أرسم الخرائط عن طريق الخيال، إذا صحّ القول. فصرت أقول لنفسي: هذه الجزيرة التي أعيش فيها والتي تبلغ مساحتها خمسة كيلومترات مضروبة بخمسة كيلومترات هي افريقيا... كانت هذه الطريقة أسلوبي في دراسة الجغرافيا العالمية. وبدأت حينها أقتنع بأن عليّ أن أصبح باحثاً علمياً وعالمياً حول الطبيعة والجغرافيا. هكذا كان لقائي الأول مع الطبيعة... عبر جمع الحشرات واكتشاف الجزيرة. بعدها بدأ يظهر اهتمامي بالموسيقي.
تتكلّم كثيراً عن الموسيقي في شعرك...
عندما كنت أتابع دراستي الثانوية في استوكهلم، كنت في صفّ يهتمّ غالبية طلابه بالأدب. ومنذ ذلك الحين بدأت أقرأ شعر السورياليين الفرنسيين. في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري بدأت أقرأ الشعر وأكتبه.
عندما رحت أكتب الشعر قرّرت الاستمرار في ذلك حتي أصبح في ما بعد شاعراً، علي أن تبقي الموسيقي هواية. فأنا كنت أشعر بأن العلاقة تكون أسهل وتعطي فرحاً أكبر عندما يكون المرء هاوياً للموسيقي أكثر منه موسيقياً محترفاً.
أي من الشعراء السورياليين كنت تقرأ في تلك الفترة؟ علي الرغم من أن ترجمة تلك الأشعار، في ذلك الوقت، لم تكن دقيقة جداً، إلا انها كانت بالنسبة جيدة لأنها تركت أثراً في نفسي. أيضاً، قرأت لغير السورياليين الفرنسيين، قرأت "إليوت" وشعر أميركا اللاتينية.
كنت في الثالثة والعشرين من عمري عندما أصدرت كتاب شعري الأول وقد أسميته "17 قصيدة". وبعد هذا الإصدار، اتخذت قراراً بتحرير الشعر من كونه مصدر رزق لي... لكثرة المحبة التي أكنها له. ورحت أبحث عن شيء أتعلّمه لأكسب عيشي ولتبقي كتابة الشعر لمجرّد الشعر. توجّهت إلي علم النفس حيث استمررت لغاية عام 1990 حين منيت بانتكاستي الصحية.
بالنسبة لي، أري أن الطبيعة عندك عظيمة بقدر ما هي مسكونة... وغير عذراء، أي ملأي بالسيارات والأضواء والحياة اليومية... شعرك ليس فيه أوهام. إنه شعر لا يعلّق أملاً علي أي وهم. شعر لا يؤكد شيئاً ولا يحوي يقينيات. هناك حذر من قول أي شيء نهائي.. من أين يأتي هذا الأمل؟ لا يوجد إيمان لكن الأمل موجود...
صحيح. من يقرأ شعري لا يجد فيه ديناً ولا إيماناً. فانا نشأت في بيئة لم يكن للدين فيها دور مؤثّر. لكن القاعدة الأساسية للإيمان غير المرئي عملياً موجودة عندي... مثلاً الأمل... لا يوجد إيمان لا في السياسة ولا في الدين ولا في العلم ولا في التاريخ. لا إيمان... في أعماقي، هناك دائماً اعتقاد قوي بأن جميع الأمور تنتهي بطريقة خيرّة وبسعادة. لذا آتي بالأمل لي ولأشعاري. لا يأس عندي... هكذا أعيش حياتي. اكتسبت الأمان الداخلي خلال الفترة التي عشتها مع جدّي لوالدتي الذي كان بحاراً. فهو كان يقود السفن بين الجزر الصغيرة وفي المضيقات الضيقة... وكان هذا أمر محفوفاً بالمخاطر. أكسبتني هذه التجربة شيئاً غير مرئي خلق عندي نوعاً من الأمان الذي طبع أشعاري التي كانت تنمو ببطء. كنت أكتشف فيها الأمل وأترجمه كلاماً.
كيف هي علاقتك كشاعر بالفلسفة؟
لم أهتمّ أبداً بالفلسفة... ومنذ البداية والشباب الأول لم أحفل بها. لطالما كانت الفلسفة بعيدة عني. لم أشعر بأن لي أية علاقة بها. وكان الاهتمام الأكبر الذي انكببت عليه هو تاريخ الأدب وتاريخ الأديان وعلم النفس. حتي في أشعاري، أنا لا أفلسف الأمور.
كتبت شعراً وكتبت نثراً كذلك. متي الشعر ومتي النثر؟
ساعة يأتي الوحي يظهر إذا ما كانت الكتابة شعراً أم نثراً. عندها أتبين إذا كان من الأفضل أن تأتي هذه الكتابة نثراً أو نظماً.
في أشعارك، تتكلّم دائماً عن أشياء غير مقروءة... رسائل غير مقروءة... طبيعة غير مقروءة... وكأن الشعر ليس لتوضيح الأشياء ولا لقراءتها بل لإنشاء سرّ في مقابلها... سرّ آخر مقابلها...
عندما تقرأ آخر ما كتبته "اللغز الكبير" تحصل علي جواب يفيد بأن أشعاري ليست أجوبة علي قضاياً معيّنة... هي ألغاز مقابل أسئلة. هناك دائماً العالم المجهول.
أودّ أن أبدي مجرّد ملاحظة... فعلي الرغم من تكريس حياتك للشعر إلا ان انتاجك غير كبير...
يتساءل الجميع لماذا انتاجي محدود. وكثيرون هم الذين يعتقدون بأن هذا الكتاب هو كل ما أنتجته... لكن هذا غير صحيح. فهناك مسودات أكثر بعشرات المرات مما هو منشور... لكنني لم أصدرها لأنني أشعر بأنها غير مكتملة. هي مسوّدات. وإذا لم تكتمل القصيدة فمن غير الممكن أن أنشرها. وهذا أمر يعود إلي التحرّر من كون الشعر مصدر لقمة عيشي...
مقاطع من حوار مطول أجراه معه الشاعر اللبناني عباس بيضون عام 1995ونشر في جريدة السفير
ترافيك ( المرور)
تخوض الشاحنة خلال الضباب،
ويجول ظل كبير ليرقة يعسوب في عَكَر قعر البحيرة
تلتقي المصابيح الكشّافة في غابة قاطرة،
لا يري المرء وجه الآخر.
نهر الضوء يتلاشي خلال إبر الصنوبر.
نأتي مركبات ِ ظلال من كل الجهات،
في الغروب، نهيم ُ وراء بعضنا ،
بجنب بعضنا،
ننساب إلي الأمام،
في جرس إنذار هامد.
خارجا،
في السهل الذي يحضن الصناعات ،
وتنخفض المباني بمقدار ملليمترين كل عام---
تبتلعهن الأرض بهدوء.
أيد غير معرَّفة الهوية،
تترك آثارها علي الناتج الأكثر بريقا،
ما نحلم به هنا.
والبذرة تسعي إلي الحياة في الإسفلت،
بيد أن أولا شجرات الكستناء ، كئيبات ، كأنهن يستعددن لتتفتق أزهارها عن قفازات حديد،
بدلا من اسطوانات بيضاء،
وخلفهن غرفة موظفي الشركة أنبوب نيون معطل، يغمز ومضات ِ.
هنا ، ثمة باب سري. فافتحْ!
وانظر ْ في البريسكوب المقلوب إلي الأسفل،
باتجاه الفوهات،
نحو الماسورات العميقة،حيث الطحالب تنمو مثل لحي الموتي،
وتنسل المدن في ثيابها المفصلة من البلغم،
بأنفاس سباحة واهنة ،
في مسيرها للاختناق.
ولا أحد يدري كيف سيسير الأمر،
سوي أن السلسلة تنقطع ،
وتلتحم باستمرار.
ترجمة حميد كشكولي عن موقع الحوار المتمدن
صورة شخصية مع تعليق
هنا صورة شخصية لرجل عرفته.
يجلس الي منضدة فوقها صحيفة مفتوحة.
العينان خلف النظارتين تنظران الي تحت .
البدلة مغسولة بوميض اوراق الغابة.
وجه شاحب ونصف كامل.
يعطي انطباعاً دائماً بالثقة. لذلك
يريد المرء الاقتراب منه اكثر وحتي لو
صادف حادثة.
يحصل والده علي النقود مثل الندي.
ولكن مع ذلك لا أحد يشعر بالآطمئنان
بشكل كامل، هناك في البيت
شعور دائم بأفكار غريبة
تدخل عنوة في الليل.
الصحيفة، الفراشة الكبيرة الوسخة،
الكرسي، المنضدة والوجه يستريحون.
الحياة توقفت في الكرستالات الكبيرة
لكن اترك ذلك فقط يتوقف الي اخره!
هذا الذي انا يستريح فيه.
يوجد. هو لايعرف هذا
ولذلك يعيش ويوجد.
ماذا انا؟ بعض الاحيان قبل وقت طويل
اتيت بعض ثواني قريب جدا
ماذا انا، ماذا انا، ماذا انا.
ولكن في اللحظة التي رأيت بها الانا
اختفي الانا وظهر ثقب
وخلاله سقطت مثل أليس
من يوميات كتاب أفريقي
في سوق (كونغولي) لبيع اللوحات التجارية
تتحرك الهيئات نحيفة مثل حشرات، تحُرم
الناس طاقتهم.
هذا ممر صعب بين اسلوبين في طرق العيش.
من يتقدم اكثر امامه مسافات طويلة.
شاب وجد شخصاً اجنبياً تائهاً بين الاكواخ.
لايعرف فيما اذا كان يريد ان يتخذه صديقا ام هدفا للابتزاز.
اقلقه التردد. فافترقا في ارتباك.
الاوربيون يقتربون من عرباتهم، كما لو كانت امهاتهم.
الزيزام حادة مثل امواس حلاقة.
العربة في طريقها الي البيت.
حالا سوف يحلّ الظلام المريح الذي يخفي
قذارة الثياب...نوم.
الذي يتقدم اكثر امامه مسافات طويلة.
ربما ينفع ذلك كسليقة طائر مسافر
علي مصافحة الايدي.
ربما ينفع ذلك بتحرير الحقائق من آسر الكتب.
ضروري جدا ان نستمر بالذهاب الي ابعد.
الطالب يقرأ في الليل، يقرأ ويقرأ حتي يكون حرا
وبعد الامتحان يتحول الي درجة من سلم ليطئه رجل آخر.
ممر صعب.
الذي وصل ابعد امامه طريق طويل ليقطعه.
قمم
بتنهد بدأت المصاعد برقة الخزف
ترتفع في بناية عالية.
هذا يوم ساخن علي الاسفلت.
اضاءات المرور اغمضت جفونها.
البلاد ترتقي نحو السماء.
قمة بعد قمة، ليس من ظلّ حقيقي.
نحن نطير لمطاردتك
خلال الصيف في مشهد سينمائي.
وفي المساء استلقي مثل سفينة
مطفأة الاضواء، بمسافة معتدلة عن الواقع،
بينما افراد طاقمها يهيمون عشقا في الحدائق
هناك علي اليابسة.
صيغ الشتاء
I
نمت في فراشي
واستيقظت في قعر قارب.
الساعة الرابعة صباحا
سيقان الوجود النظيفة
تُعاشر بعضها البعض ببرودة.
نمت مع السنونوات
واستيقظت مع الصقور.
II

في مسار الضوء
يلمع ثلج الطريق مثل دهن حيواني.
هذه ليست افريقيا
هذه ليست اوربا
انها لامكان اكثر من "هنا".
وذلك الذي هو "انا"
انه كلمة فقط
في فم ديسمبر المظلم.
III

لواحق مباني التدابير
تعرض في الظلام
تنير مثل شاشات التلفزيونات.
اداة دوزان موسيقية خبيئة
ترسل نغماتها في برودة شديدة.
واقف تحت نجوم السماء
واشعر بزحف العالم
الي داخل وخارج معطفي
كمستعمرة للنمل.
IV

ثلاثة اوراق سنديان سود خارجة من الثلج.
خشنة جدا، لكنها كاصابع رشيقة،
خارجة من زجاجاتها الضخمة
آخضرارها سوف يزبد في الربيع.
V

الباص يزحف خلال مساء الشتاء.
مضيء مثل سفينة في غابة من الصنوبر
حيث الطريق ضيق وعميق كقناة للموت.
قليل من المسافرين: بعضهم شيوخ والبعض الاخر شبابا.
اذا توقف الباص وانطفأت الاضواء
سيكون العالم عرضة للدمار.
طيور الصباح
ايقظتُ السيارة
نافذتها مغطاة بالطلّع.
وضعت النظارات الشمسية علي عيني.
اغنية الطير تظلم.
اثناء هذا يشتري رجل صحيفة
في محطة القطار
بالقرب من عربة بضائع كبيرة
تحولت بشكل كامل الي اللون الاحمر بسبب الصدأ
وتلمع في الشمس.
لايوجد فراغ في اي مكان هنا.
باستقامة خلال دفء الربيع يوجد ممر بارد
حيث احد ما يأتي مسرعا
ويتحدث عن احد افتري عليه
حتي هناك فوق في الادارة.
خلال باب خلفي في المنظر
يأتي طائر العقعق
ابيض واسود. طائر.
وطائر اسود يحرك نفسه في كل اتجاه
حتي يصير كل شيء مثل كتابة بالفحم،
باستثناء تلك الملابس البيض علي حبل الغسيل:
جوقة منشدين.
لايوجد فراغ في اي مكان هنا.
رائع حين احس بان شِعري ينمو
بينما اتقلص انا.
ينمو، يأخذ مكاني.
يزحزحني.
يقذفني الي خارج العشّ.
الآن الشعر جاهز.
اوكلاهوما
I

توقف القطار في عمق الجنوب. كان الثلج يهطل في نيويورك.
يستطيع هنا المرء ان يذهب بقميص طويل الاردان كل الليل.
لكن لااحدا في الخارج.السيارات فقط
تطير كصحون الشاي في القرب باضويتها.
II

"نحن ارض معركةٍ فخورةٍ
بكثرة قتلاها..."
صوت تفوه بذلك اثناء افاقتي.
الرجل خلف المنضدة قال:
"انا احاول ان لا ابيع ذلك،
انا احاول ان لا ابيع ذلك،
اريد فقط ان تشاهدوه."
هو أرانا فؤوس الهنود.
الصبي قال:
"انا اعرف ان عندي حكم مسبق عن ذلك،
لااريد ان احتفظ به سيدي.
ماهي مشاعركم اتجاهنا؟"
III

هذا الفندق هو قشرة غريبة.
مع سيارة مؤجرة
خادم كبير ابيض يقف خارج الباب
تقريباً بدون ذكري وبدون مهنة
اخيراً استطيع ان اغرق الي نقطة الاعتدال.
سهول الصيف
لقد شاهد المرء الكثير في حياته.
استنزفه الواقع بالكامل،
ولكن الصيف اخير هنا:
مطار كبير قائد المرور يُنزل الي الارض
حمولة بعد حمولة
بشر مجمدين
من الفضاء.
العشب والورود هنا نهبط.
العشب له قائد اخضر.
انا اسجل نفسي.
وابل فوق المدينة الساحلية
المطر يدق فوق سقف السيارة.
الرعد يدمدم. المرور بطيء الايقاع.
المصابيح تضاء في نصف نهار ليوم صيفي.
الدخان يتراكم علي المداخن.
يربض كل شيء حيّ، يغمض عينيه.
حركة الي الداخل، احساس بان الحياة اكثر قوة.
صارت السيارة عمياء تقريبا.هو يقف،
يشعل نارا خاصة ويدخن، حينئذ ينهمر المطر علي
زجاج السيارة.
هنا في احد طرق الغابة، طريقا متعرج ومنعزل
قرب بحيرة من النرجس
وجبل طويل يختفي في المطر.
هناك فوق توجد مجموعة من الصخور
من العصر الحديدي، كان وقتها هذا المكان
ارض لمعارك الاصل، الكونغو الباردة
والخطر قد ساق الكل، الماشيه والناس
الي هممة ملاذ وسط الاسوار خلف
اجمة واحجار في اعلي التلال.
منحدر مظلم، احد ما يحرك نفسه
بضخامة بشعة نحو الاعلي وترس يغطي ظهره
فكر بهذا بينما السيارة واقفة.
بدأ ضوء النهار، ادارّ زجاج نافذة السيارة.
طائر يتكلم مع نفسه مثل الة الفلويت
في صمت مطر شديد شفافية.
سطح البحيرة متوتر، الرعد يهمس
اسفل خلال زهور النرجس، الي رواسب القعر.
نوافذ الغابة تفتح نفسها ببطء.
لكن الرعد يخرج مباشرة من السكون!
ارتطام يصم الاذان. وبعد ذلك الفراغ
حيث هبطت اخر القطرات.
في الصمت يسمع جواب قادم
من بعيد. نوع من اصوات الاطفال الخشنة.
يصعد خوار من الجبل.
صرخة انين من نغمات متصاعدة.
ترومبيت طويل ذو صوت مبحوح من العصر الحديدي.
ربما من داخل نفسه.
رسام في الشمال
اسمي ادوارد اكريك، اتحرك كرجل حر بين الناس.
انا شاطر بالمزاح، قرات الصحف، سافرت وتنقلت.
قدت الاوركستري.
قاعة الكونسرت بمصابيحها المهتزة من الانتصار مثل عبّارة القطار
في لحظة البدء.
سحبت نفسي الي هنا لكي اتناطح مع الصمت.
غرفة عملي صغيرة.
البيانو ضيق هناك في الداخل مثل طائر سنونو
تحت طاجن الفخار.
المنحدرات الحادة والجميلة علي الاغلب صامتة.
لايوجد اي ممر
لكن توجد فجوة تفتح غالبا
وضوء رائع يسيل مباشرة من السحر.
اخفض!
وضربة المطرقة في الجبل جاءت
جاءت
جاءت
أتي الي غرفتنا ليل ربيعي
مرتديا ضربة القلب.
في السنة التي اموت فيها ،سوف ارسل اربع
اغاني دينية لكي اتتبع الإله.
ولكن يبدأ هذا هنا.
اغنية عن ذلك القريب.
ذلك القريب.
ارض المعركة التي في داخلنا
حيث قتلنا بن
نقاتل لأجل ان نجعله يحيي.
في الحرية
متاهة الخريف المتأخر.
توجد عند مدخل الغابة زجاجة فارغة، مرمية علي الارض.
ألدخول الي. الغابة صامتة، محلات مهجورة هنا هذه السنة.
تسمع فقط بعض ضربات من الصوت: كما لو ان احد ما نقل الاغصان
بعناية بواسطة ملقط
او باب يئن بشكل ضعيف في داخل جذع سميك لشجرة.
استنشق الصقيع نباتات الفطر التي تجعدت.
تشبه الاغراض او قطع الملابس التي تركها المختفون ورائهم.
الان حلَّ الغروب.هذا يتعلق بأستعجال الخروج
والنظر مرة ثانية الي الجهات التي يروم المرء الذهاب اليها:
آلات الحراثة الصدئة في الارض المزروعة
والبيت في الجانب الاخر من البحيرة، مربع ذو لون احمر، قوي مثل نرد ماجي4
2
رسالة قادمة من امريكا ساقتني خارجا
في ليل مضيء من حزيران ، في جادات فارغة، في طرف ما من المدينة
بين مناطق مشيدة حديثا بدون ذكريات، باردة مثل رسم هندسي.
الرسالة في الجيب. سير هائج كنوع من الشفاعة.
ذلك الذي عندنا هو علي الاغلب جهاد بين الجذور، الارقام
والايام.
الذين يذهبون في قضية الموت لايخافون من ضوء النهار.
يسيطرون في الشقق الزجاجية. يخشخشون في غاز الشمس.
يميلون الي الامام فوق الصحون الوسخة ويحركون رؤوسهم.
علي مسافة بعيدة يحدث ان اقف امام واجهة احدي البنايات الجديدة.
نوافذ عديدة تتجمع وتتحول الي نافذة واحدة.
تقبض علي ضوء سماء الليل حيث تسير تيجان الاشجار.
بحيرة عاكسة بدون امواج، كل ذلك محرض علي العصيان في ليلة صيف.
العنف يبدو غير واقعي
لحظة قصيرة.
الشمس حارقة.تطير الطائرة علي ارتفاع منخفض
تترك ظلها علي الارض، علي شكل صليب كبير
يمر بسرعة فوق احد ما يجلس في الحقل وينقب.
يأتيه الظل .
وفي احد اجزاء الثانية يكون هو في وسط الصليب.
لقد رأيت هذا الصليب معلقاً علي اقواس الكنيسة الباردة.
بعض الاحيان يشبه صورة لشيء يتحرك بسرعة فجائية
في عدسة العين.
موسيقي بطيئة
البناية موصدة . تدخل الشمس من زجاج النوافذ
وتدفيء السطح العلوي لمنضدة الكتابة
القوية بشكل كاف لتحمل ثقل اقدار الناس.
نحن اليوم في الخارج، فوق الانحدار الواسع الطويل.
يرتدي بعضهم ملابس غامقة. يستطيع المرء الوقوف في الشمس
ويغمض عينه، سوف يشعر بنفسه كيف يزفر الهواء الي الامام.
نادرا ما أجيء قريبا الي الماء. ولكن انا الآن هنا،
بين ظهور صخور كبيرة مليئة بالسلام.
الصخور التي انبثقت ببطء من الامواج.
ترجمة نجم محسن، عن موقع دروب
أسرارٌ علي الطريق
أصابَ ضوءُ النهارِ وجهَ أحدِ النائمين
حظي بحلمٍ أكثرَ حيويةً
غيرَ أنهُ لمْ يستفق.
أصابت العتمةُ وجهَ أحدِهم
كانَ يسيرُ وسطَ الآخرين
تحتَ أشعةِ شمسٍ قويةٍ متعجّلة.
اكفهرّت بغتةً لمطرٍ مدرارٍ همي
وقفتُ في غرفةٍ اتسعت لكل اللحظات -
متحفِ فراشاتٍ.
والشمسُ كسابق عهدها قويةٌ
ريشتها المتلهفةُ تصبغُ العالم.

السماءُ النصفُ مُكتملةَ
يُوقفُ الصمتُ عَدوَهْ
يُوقفُ الهم عَدوَهْ
توقِفُ الحدأةُ هروبَها
يتدفقُ الضوءُ المتحمّسُ,
حتي الأشباحُ ترتشفُ جرعةً.
تُقبلُ رسومنا مع النهارِ,
الحيواناتُ الحمراءُ لمراسمِنا من العصرِ الجليدي.
تتلفتُ الأشياءُ كلها
نمضي بالمئاتِ تحت الشمسِ
كل امرئٍ بابٌ نصفُ مفتوحٍ
يفضي إلي غرفةٍ للجميع.
تحتنا الأرضُ اللامتناهية.
يضيءُ الماءُ بين الأشجار.
البحيرةُ نافذةٌ تُطلّ علي العالمِ.
جولة نغم
عبرَ قريةٍ أقودُ سيارتي ليلاً, تُقبلُ
لأضوائها البيوتُ - مستيقظةً, تودُ الشربَ.
بيوتٌ, إسطبلاتٌ, لافتاتٌ, عرباتٌ سائبةٌ بيدَ أنها الآن
ترتديَ الحياة. ينام الناس:
ينامُ بعضُهم بطمأنينةٍ, لآخرين منهم وجوهٌ بتقاطيعٍ متوترةٍ
كمن يخضعُ لتدريبٍ أبديٍّ قاسٍ.
لا يجرؤون علي تركِ شيءٍ وإن كان نومهم ثقيلاًٌ.
يخلدون للراحة كحواجزَ تهبط حينما يولّي اللغزُ مدبراً.
خارجَ القريةِ يمضي الطريقُ طويلاً عبر أشجارِ الغابة.
والأشجارُ الأشجارُ تخطو صامتةً بحللٍ متناغمةٍ.
بلون مسرحي تجده في الأرواح المتقدة.
كم تبدو أوراقُها جليةً ترافقني إلي عقرِ داري.
مستلقياً لأنامَ, أشاهدُ صوراً
وأشكالاً مجهولةً ترسمُ نفسها خلف الأجفانِ
علي حائطِ الدجي. في الشرخ بين الحلم واليقظةِ
تسعي رسالةٌ كُبري عبثاً إلي التغلغل بينهم.
بعد موتِ احدهم
حدثت صدمةٌ
خلّفت وراءَها ذَنَبَاً شاحباً, براقاً وطويلاً لنيزكٍ.
يستضيفنا. جاعلاً صورَ التلفازِ مغبشةً.
يستقر كقطراتٍ باردةٍ في الأقنية الهوائية.
مازالَ بمقدورِ المرءِ التزلج بزحافاتٍ,
تحتَ شمس الشتاء, بين الأحراجِ حيث ماتزال أوراقُ العامِ المنصرمِ معلقةً.
تشبه أوراقاً ممزقةً من دليل هواتفَ قديمٍ -
التهمَ البردُ أسماءَ المشتركين فيهِ.
جميلٌ أن نشعرَ بأنَ القلبَ مازالَ ينبضُ.
لكننا غالباً ما نشعرُ بأنَّ الظلَ أكثرُ واقعيةً من الجسدِ.
يبدو الساموراي غيرُ ذي أهميةٍ,
إلي جانبِ مئزرهِ المُعدِ من حراشفَ التنينِ السوداءِ.
ترجمة كاميران حرسان عن موقع ألف
1
إذا كانت الصورة «فَجْرَ الكلام»، كما يقول باشلار، فإننا نجد هذا الفجر في شعر توماس ترانسترومر. ولئن كان التعبير الحي يرتبط بالقدرة علي إبداع الصور، فإننا نجد كذلك في هذا الشعر مثالاً فريداً عن هذا التعبير.
2
المجازُ، مقترناً بالإيجاز،
والحداثة، موصولةً بالكلاسيكية،
والغريب، نابعاً من الأليف:
تلك هي ثنائياتٌ في شعر توماس ترانسترومر، أعدّها مفاتيح أساسية للدخول الي عالمه الشعري، وللإحاطة به. فقلّما اجتمع الإيجاز والمجاز عند شاعر كما يجتمعان عنده. وقلّما نري هذا الاقتران العضوي بين التأصّل في العراقة الكلاسيكية، والانفتاح الأصيل علي لغة الحداثة، رؤية وكتابة، كما نري في شعره. وفي هذا كله، يبدو الأليف غريباً كأنه يُخلَق، للمرة الأولي. ويبدو الغريب أليفاً، كما لو أنه يولَد أمام أعيننا، وبين أحضاننا.
3
الطبيعة، - الجذر، الشجر، العشب، البحر، الغيم، المطر، الثلج، الحجر، الطير... إلخ،
أشياء الحياة اليومية، من أبسطها الي أكثرها تعقيداً، الأشياء التي أدي العلم والتقنية الي ابتكارها واستخدامها هذه كلها، هي مادة الشاعر إضافة الي عوالم الأنا الداخلية، عوالم الشعور والمخيلة، القلق والبحث والتساؤل.
يختبر هذا كله، يُعيد النظر فيه، ويمنحه شكلاً آخر ومعني آخر. بحسب زمني تمتزج فيه الأزمنة، ويمتزج فيه الواقع بالمخيلة. وبحسب تارخي، أفقي وعمودي. وبنبرة تبدو كأنها إيقاع اللحظات التي نعيشها يومياً.
4
يتبطّن الحس الشعري عند ترانسترومر حساً علمياً. فيما نقرؤه، نكتشف أن العلم في شعره نوع من الجمالية اللامرئية، تُواكب خفية جمالية الشعر المرئية. وفيما نقرؤه في حركيته المجازية، نتبين كيف أن الواقع يبدو كأنه ليس هو الذي «يخلق» الشعر، بل إن الشعر هو الذي «يخلق» الواقع. ويتجلي لنا كيف أن الواقع لا يبدو إلا متحركاً، كأنما هو حالات متتابعة، كما لو أنه يتكون في رؤية متحولة خيالية مجازية. ويخيَّل إلينا أن اللغة المجاز، أو اللغة الصورة هي، في آن، بيت الواقع، وبيت الإنسان، وبيت العالم. وأن اللغة نفسها «تواقة للتغير»، وفقاً لتعبير ميرلو بونتي. وأن المجاز ليس مجرد خرق للعادة، وإنما هو كذلك خرقٌ للنظام القائم، نظام العلاقات بين اللغة والأشياء.
يمكن القول، في هذا المنظور، إن شعر ترانسترومر قراءة «علمية» لشعرية العالم، أو «لروحه» وقراءة شعرية لعلمية العالم، أو «لمادته». وهي قراءة تتم علي الحد الذي يفصل ويجمع في آن: الأشياء التي يتعذّر التعبير عنها من جهة، ولا يمكن الصمت عنها، من جهة ثانية، كما يعبِّر، أي بين القول المستحيل والصمت المستحيل.
في هذا كله، لا يفارقنا الشعور بأن الشعر والعلم غير قادرين علي «إدخال» الشيء في الكلمة. فلا يدخل في الكلمة غير الظاهر، والعرضي العابر. أما «الجوهر» فيظل عصياً وغامضاً. ومن هنا أهمية الحساسية «الصوفية» الخفية في شعره. من هنا كذلك، نفهم السر الذي تقوم عليه جملته الشعرية: الكثافة والشفافة في آن.
5
للقصيدة عند توماس ترانسترومر حضور واقعي يُلمَس فيه نبض الأشياء بتفاصيلها، ومجازي يتحول فيه الواقع الي مُخيلة. كل قصيدة لوحة: ظاهرها مُركب مضيء من جزيئات الحياة اليومية، وباطنها إشعاعات، وإشارات وتخيلات.
إنه حضور يضع القارئ مباشرة في أحضان الكون. الكون مُصغر واقعي في جسد القصيدة، أو هو نَفَسٌ مبثوث فيها. إنه حضور يجعل القارئ حاضراً هو كذلك، داخل ذاته، وفي الكون.
وليس هذا مجرد حضور فكري. إنه كذلك وقبله، حضور جمالي، تُفصح عنه العلاقات المفاجئة التي يقيمها بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمة والواقع، والتي تبث في القصيدة الحيوية والاشعاع. هكذا نشعر أن المسافة التي تفصل الذاتية عن الشيء، أو التي تصل بينهما، هي نفسها المسافة التي يتعانق فيها الأنا والآخر، بطريقة تتحول فيها هذه المسافة نفسها الي معانقة تغيب فيها الحدود والمسافات.
6
يبدو الواقع الكوني في شعر ترانسترومر مرتبطاً بحياته اليومية، حاضراً في تجربته الكتابية والجمالية، ومع ان القضايا التي يلامسها أو يثيرها في شعره غير تجريدية، بل واقعية فإنها منفصلة، جذرياً، عن ابتذالية الالتزام السياسي الايديولوجي. إنها مأخوذة بواقعية الإنسان في كينونته. والبشر في هذه القضايا هم بشر الحياة اليومية. لا يتزينون بالسياسة، ولا يزينونها. لا يرفعون بيارق النضال، ولا يهزجون لأساطيره. إنهم بشر البيوت والشوارع. بشر العمل، والتأمل، والعزلة. بشر الوجود بآلامه كلها، وعذاباته كلها، وأفراحه كلها. ونسغ التساؤل والحيرة والقلق متدفق في شعره. ذلك ان النظر الي واقع العالم، وواقع البشر لا يمكن، إذا كان عميقاً وحقيقياً إلا أن يجري فيه هذا النسغ المأساوي أو التراجيدي.
وإذ عرف توماس ترانسترومر كيف يصون شعره من الابتذال السياسي الايديولودي، فلأنه كان يدرك ان الشعر يفقد أعمق ما فيه عندما تُصبح الغاية منه إيصاله أو نقله الي الجمهور. فعندما يختلط أو يتوحد الشعر بالحدثي العابر، أو عندما يتحول المُبتذل الي وسيلة لتسليط الضوء علي الشعر ومنحه الشهرة، فإن الشعر هو نفسه يُصبح مبتذلاً. الشعر نفسه هو الضوء. وهو في ذاته الاضاءة. وهو، إذاً، يحتاج بالأحري، الي الظل، ويحتاج، خصوصاً، الي الإقامة في الليل، ليل الحاسة، والمادة، واللامرئي. ولا يعني هذا، في أية حال، انفصاله عن الحياة، وانسلاخه من قدرته علي التأثير في التاريخ. وإنما يعني، علي العكس، انفصاله عن السائد، فكراً وعملاً. خصوصاً أن العمل، اليوم، يُمليه ويحركه فكر زائف يتمثل في الإعلام والدعاوة، وأن التاريخ السائد مجرد أحداث عابرة، بفعل وسائل الإعلام ذاتها.
7
يحاول ترانسترومر أن يقول في شعره وضعه الإنساني، وأن يقدّم هذا الشعر بوصفه فناً يُفصح عن هذا الوضع. ولئن كانت جذوره الشعرية منغرسة في أرض الشعر، في أصولة الكلاسيكية والغنائية والرمزية، فإنه في الوقت نفسه ينخرط في حركية الحداثة، واقفاً علي عتبة المستقبل. وهو في ذلك لا يُصنّف، ولا يؤسَر في مدرسة. إنه، في آن، واحدٌ ومتعدد. وفي هذا ما يُتيح لنا أن نري في شعره كيف أن المرئي واللامرئي تركيبٌ واحدٌ تنبعث منه ذات الشاعر، كأنها عطرٌ يفوح من وردة العالم.
نص المقدمة التي كتبها أدونيس لأعمال توماس ترانسترومر الشعرية الكاملة في ترجمتها العربية قاسم حمّادي.
في كل عام، مع اقتراب إعلان جائزة نوبل، يحبس مريدو الشاعر السويدي توماس ترانسترومر أنفاسهم، متمنين فوزه، فوز رجلهم ليس متوقعا لأسباب كثيرة، فمن عام 1974 لم يفز سويدي أو سكندنافي بالجائزة، وهناك أيضا الحقيقة التي تقول أن اختيار الفائز يعتمد علي الموقف السياسي بنفس قدر الاعتبارات الأدبية. ترانسترومر ليس شاعرا غير سياسي، ولكنه لا يعاني من قمع الدولة كألكسندر سولجنستين وجوزيف برودسكي، ولا يوجد ما يدل علي أنه يتحدث عن شعبه كشيموس هيني وديريك والكوت، ولا يواجه بشدة الولايات المتحدة كهارولد بنتر.
ومع ذلك فترانسترومر ليس مغمورا. من 1975 عندما ضمه روبرت بلاي مع جونار إيكيلوف وهاري مارتينسون ضمن كتاب (أيها الأصدقاء، لقد شربتم بعضا من الظلام)، هذه العنوان الذي اتخذ من قصيدة ترانسترومر (رثاء)، كانت سمعته تزيد باستمرار. اليوم هو معروف علي أنه واحد من أفضل الشعراء الأحياء، وهذا يعتمد كثيرا علي ترجمات أعماله إلي 50 لغة.
أكثر ما يميز شعر ترانسترومر هو موهبته الكبيرة في صنع الاستعارات. كان هذا واضحاً في كتابه الأول (1954) ومن السطور الأولي من قصيدته الأولي "افتتاحية":
الاستيقاظ هو قفزة بارشوت من الأحلام.
حر من الاضطرابات الخانقة، المسافر
يغرق تجاه المساحة الخضراء من الصباح
حتي هذه الجمل من "شوارع شنجهاي" (1989)
"أنا محاط بعلامات لا أستطيع تفسيرها، أنا جاهل تماما
ولكني دفعت ما يجب عليّ أن أدفعه ولديّ فواتير لكل شيء
لقد كدّست العديد من الفواتير غير المفهومة
أنا شجرة كبيرة بأوراق ذابلة معلقة ولا تستطيع السقوط علي الأرض.
وزفرة ريح من عند البحر تجعل الفواتير تصدر حفيفا"
وحتي أول جزء من قصيدة "الثلج يسقط" (2004)
"الجنازات تأتي باستمرار
الكثير والكثير منها
كإشارات المرور
ونحن نقترب من المدينة"
كل استعارة تكون مذهلة وتلقي ضوءاً جديداً علي خبراتنا الشائعة. وفي نفس الوقت، كل واحدة منها تبدو وكأنها انبثقت بشكل طبيعي من موضوعها، جزئيا فسبب ذلك أن الشاعر لا يطنطن كثيرا لما يفعله، وجزئياً لأن مرحه الخفيف يقودنا لتخفيف دفاعاتنا. ترانسترومر ليس شاعرا كوميديا ولكنه يستطيع أن يكون مرحا بشكل كبير، حتي ولو كان داخل نقطة جادة. في قصيدته "ضواحي العمل" يقول: "قمر الترف يحيط الكوكب، يتعامل مع كتلته ووزنه". هذا يجعل القارئ يبتسم وإن كانت ابتسامة خفيفة.
واحدة من اهتمامات ترانسترومر الأساسية هي صعوبة بل واستحالة التواصل. هذا ليس هما مفاجئا بالنسبة لشاعر، خاصة في العصر الحديث، ولكن ترانسترومر قلق بشكل أكثر بالموضوع وأقل غطرسة في التعامل معه من بعض الآخرين. وعلي خلاف العديد من الشعراء الذين يشاركونه تحفظاته عن اللغة، فهو نادرا ما يؤطر هذه الصعوبات عن طريق جعل الحوار اليومي مشوشا وإشكاليا. إن جئنا عند بناء الجملة، فيمكنه أن يكون واضحا كبيلي كولينز:
"أكثرهم إرهاقا هذا الذي يأتي بالكلمات، الكلمات لا اللغة
أنا آخذ طريقي نحو الجزيرة المغطاة بالثلج
المتشرد بلا لغة
الصفحات غير المكتوبة مفتوحة علي الجانبين
وصلتُ لأثر غزالة علي الثلج.
لغة ولكن بلا كلمات."
(من مارس 1979)
هناك أيضاً جانب سياسي لاهتمامه بالحقيقة والكلمات، ترانسترومر يعود كثيرا إلي فكرة أن اللغة رخصت وتشوهت، في بعض الأحيان يكون هدفه اللغة الشعاراتية والإعلانية في الغرب: "السرعة قوة/ السرعة قوة! العب اللعبة، العرض يجب أن يستمر". (الجاليري)، أو النتائج السلبية للسيطرة الأمريكية، حينما يسير في واشنطن دي سي ويلاحظ "المباني البيضاء في شكل الأفران حيث أحلام الفقراء تتحول إلي رماد". (ما بالداخل لا نهائي). وعادة ما اهتم كذلك بموقف هؤلاء الذين يعيشون خلف الستار الحديدي، خاصة دول البلطيق (التي أصبحت جمهوريات سوفيتية) إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا. في أطول وربما أعظم أشعاره "البلطيق: 1974 كتب يقول:
"أماكن حيث المواطنون تحت السيطرة
حيث أفكارهم مصنوعة مع مخارج الطوارئ
حيث الحوار بين الأصدقاء يصبح امتحانا لمعني الصداقة"
هذا السياق هو جزء مما جعل كتابات ترانسترومر عن صعوبات التعبير مستمرة من ساعتها. الشاعر في المجتمع الحر يكون حرا من العديد من القيود التي تفرضها الديكتاتورية علي التعبير، ولكن مع الحرية العظيمة تأتي المسئولية. "كل جملة وكل تعبير هو نهاية وبداية/ كل قصيدة هي كلمة علي شاهد قبر". هذا ما كتبه إليوت في "الرباعيات الأربع" والتي يعتبرها إليوت ذات تأثير كبير علي "البلطيق". الكتابة هي مسألة حياة أو موت، هي فعل يعرّف الفرد فورا ويوضح ويؤثر علي علاقته بالآخرين، وعلي البني السياسية وعلي العالم غير الإنساني.
البلطيق إلي حد ما أفضل ما يمكن أن يبدأ به القارئ الجديد لترانسترومر، إنها تتطور ببطء أكثر من قطعه القصيرة، واستعاراته قوية مثلها مثل أي مكان آخر، تكشف نفسها تدريجيا. وكما يدل العنوان، فالقصيدة تجري في بحر البلطيق، علي جزيرة جوتلاند، وأرخبيل استوكهولم، حيث كان الشاعر ينعزل خلال حياته في منزل أسرته الصيفي. البلطيق هي بيئة ترانسترومر الأصيلة حيث الجمع بين البحر والجزر، بين المياه الحلوة والمالحة، وبين الديمقراطيات والديكتاتوريات، علي الأقل أثناء الحرب الباردة.
القصيدة تضم أيضا تأملا عميقا في طبيعة الشخصية الإنسانية، فتظهر قصة مؤلف موسيقي في بلد غير معروفة، نفترض أنها خلف الستار الحديدي، المؤلف يتم الاحتفاء به من قبل السلطات، ثم يتم نقده، ثم بعد إعادة تأهيله رسما يصاب بالسكتة:
نزيف دماغي: شلل في الجانب الأيمن مع فقد القدرة علي النطق، يستطيع
فقط فهم جمل قصيرة، يقول كلمات خاطئة.
بعيدا عن متناول الرثاء واللعنات.
ولكن تبقي الموسيقي، يظل يؤلف بأسلوبه
لبقية الأيام يتحول إلي إحساس جسدي
يكتب الموسيقي لنصوص لم يعد يفهمها
بنفس الطريقة
نحن نعبر عن شيء خلال حيواتنا
في الكورس المترنم بكلمات ممتلئة بالأخطاء"
الهوية الفردية مقدسة عند ترانسترومر، وهو يثور علي أي شيء سواء كانت الدولة أو الجماهير أو الكنيسة يهددها أو يقولبها. الناقد ستافان بيرجسون أشار إلي أنه رغم وجود بعض الملامح الباطنية في أعمال الشاعر إلا أنها لتصل لتنويعة الذوبان التام في الكلي. أتساءل إن كانت خبرته العملية قد أسهمت في تبجيله للذات الصغري (كمضاد للذات في الميتافيزيقا الغربية). فهو قضي حياته العملية كعالم نفس، غالبا ما يرشد الشباب المضطربين، وهو يعرف أفضل من كثيرين قيمة أو هشاشة الذات الوظيفية.
ترانسترومر هو شاعر هادئ، وفي 1989 أصبح أهدأ بشكل أدبي للغاية، حيث بدا أن تنبؤه غير المقصود في قصيدة البلطيق قد تحقق، فهناك سكتة شلت جانبه الأيمن، وحرمته من القدرة علي الكلام، هو ما زال يعزف علي البيانو، وإن كان بيد واحدة، وما زال يجري الحوارات ويستقبل الضيوف، وإن كانت زوجته مونيكا هي التي تفسر كلماته غير الواضحة، توازيا مع أزمته الصحية اتجه الشاعر إلي قصائد أقصر، هذه العملية التي نفترض أنها وصلت لقمتها في عمله (اللغز العظيم)، الذي يتكون كله من قصائد علي شكل الهايكو. رغم أن هذه القصائد ربما تكون النتيجة المنطقية لتطور ترانسترومر ورغم أنها امتدحت بشكل كبير في السويد، حيث يتم توقير الشاعر، إلا أنها ليست عمله الأفضل، ولكن يظل هذا المجلد يحتوي علي أعمال قيمة مثل (الثلج الذي يسقط) التي اقتبست منها سابقا، وهي كاملة كالتالي:
"الجنازات تأتي باستمرار
الكثير والكثير منها.
كإشارات المرور
ونحن نقترب من المدينة
الآلاف من الناس يحملقون
في أرض الظلال الطويلة
الجسر يبني نفسه ببطء
وينتصب في الفضاء
عن موقع contemporary poetry review


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.