في مجموعته الأحدث "اعتقال الغابة في زجاجة"، يقدم القاص المغربي "أنيس الرافعي" تجربة يسمها الولع بالتجريب. وعبر قسمين رئيسيين، "الشركة المغربية لنقل الأموات"، و"اعتقال الغابة في زجاجة"، يتحقق قدر وافر من الانزياح عن المستقر، عبر أكثر من آلية.. بغية تقديم تصورات خاصة عن الخطاب القصصي كنص مفتوح، عابر لأعراف النوع المستقرة، وقادر علي إعادة استقراء المسميات، وعلي اشتباك فعال مع خطابات أخري. هكذا يقف عدد من نصوص المجموعة علي مسافة متساوية من الخطابات الأدبية أو الجمالية كالشعر والفن التشكيلي والسينما والمسرح بل والطقس الشعبي، تبقيه في الكثير من الأحيان عند تخوم النوع قابلا لإعادة تجنيس نفسه. القسم الأول" الشركة المغربية لنقل الأموات"، وهو في الحقيقة نص واحد مجزأ إلي أحد عشر نصا أصغر، يقدم نفسه ك"طقس قصصي في أربع عادات وسبع محلات"، وهو توصيف غير مطروق، لكن مقاربته تبقي شرطا لقراءة النصوص. لعلنا بداءة بحاجة إلي استقراء "القص" ك"طقس". إننا هنا أمام منطق "العرض"، حيث الالتحام المسرحي "المباشر" بين البطل ومتلقيه، الذين يلقون بالقرابين، نصا بعد الآخر، لإنقاذ الضحية، التي يمثلها هنا السارد. يريد القاص هنا أن يتخفف من أسر الكتابة، ليصير عرضا، باعتماد خطاب موجه مباشرة للمتلقي، يتبناه السارد (علي غرار الحكواتي)، مستعيدا "الليلة الكناوية"، ذلك الطقس الشعبي المحلي بمدينة الصويرة، الذي يصير مرجعا ثقافيا. غير أن المسألة لن تقف عند هذا الحد، فالسارد يتماهي بالمؤلف، حتي أنه يؤكد مبكرا:" ذاك الذي يعرف أن هذا حدث مساء.. ذاك الذي بات يعرف أن ذلك سيحدث صباحا: اسمه أنيس الرافعي، تأكدوا من ذلك". ذلك الساتر من الإيهام الذي يزاح بخفة، يقابله في الحقيقة إسدال ساتر آخر حول الموت كتعريف، فيؤكد السارد علي لسان "محمد خير الدين": " قلت لنفسي، إنني سأموت هذا المساء، فوجدتني أقف وسط حقل من الضوء، ثم رأيت عند قدمي ما يشبه الجثة، كانت ولا ريب، جثتي".. ثم يجتزئ من "عبد الستار ناصر":" أستطيع اختيار ساعة موتي متي أشاء"، ويعود ليؤكد علي لسان "سيلفيا بلاث": " الموت/ مثل أي فن آخر/ وأنا أمارسه بأقصي حدود الجودة". الموت اختيار، الموت فن، الموت تجربة داخل الحياة. هكذا سيتحرك السارد/ المؤلف، داخل طقوس موته تحديدا، وكأنه في عرض مسرحي/ وثني، قبالة جماعته. يكاد يكون السارد واحدا عبر النصوص الأحد عشر، يروي من موقع الشخص الميت، بضمير الأنا، في مفارقة مقصودة. هو في الغالب شبح، أو آخذ في التحول إلي شبح. النصوص فانتازية بكل تأكيد، وإن حضر فيها أحيانا العالم التمثيلي الذي يمكن التعرف عليه خارج النصوص، ويوهم بإمكانية قراءة وفق قانون المحاكاة، فإن ذلك ما يلبث أن يكشف عن خدعة وفخ ( نفس منطق الحكاء في إغواء مستمعيه بأن ما يقول يمكن أن يبدو حقيقيا أو قابلا للتصديق). العالم ينطلق من منصة الواقع ليحلق في متاهات أحلام اليقظة، مقدما رؤية للعالم الآخر. إنه طقس يشبه "استحضار الأرواح" في الثقافة الشعبية. ميت يتجسد أمام أحياء، ليس ذلك فحسب، بل إنه يحكي لهم. بدوره، يكمل القسم الثاني دائرة التجريب، لكن بقدر أكبر من التجريد واستبعاد شبه كامل للتشخيص أو تجسيد الشخوص وكذلك الحدث القصصي. يطرح النص الكبير، المجزأ أيضا لثلاثة عشر نصاً، تصورا لقراءة النصوص في ظل عدد من المرجعيات. هو، كسابقه، يتأسس علي توصيف جمالي مركب، يحمل اقتراحا بانزياح نوعي، عندما يقرر أنها "قصص صوتية ومراجع بصرية للتفاعل النصي". في هذا القسم لن نعثر علي حكاية، ليس أكثر من أصداء لحكايات تقف علي استحياء في نقطة بعيدة، وقد فقدت جوهرها: السرد، ليكتفي السارد بطاقتها الإيحائية. يتخذ "أنيس الرافعي" من التناص آلية رئيسية لتحقيق نص منفلت نوعيا، عبر الاتكاء علي مرجعيات ثلاثة، أو إحالات، تفتح القراءة الأدبية علي فضاءات أخري: هناك أولا المرجع البصري، يجاوره البعد الصوتي، ويلتئم معهما التفاعل الأدبي مع نصوص أخري. وبداءة، فالمرجع البصري ،السينمائي تحديدا، حاضر بقوة حتي أنه يكاد يكون ، حسب الكاتب، المرجع الأساس والإحالة الرئيسية لدي قراء النصوص. فلكل نص في المجموعة مرجع بصري حاضر بالتوازي، ولن تكتمل قراءة "مثالية" لقصة من دون الاطلاع علي الفيلم الذي تجادله ..كأنما لا يقرأ النص إلا في علاقته بنبعه البصري. ثم، هناك البعد الصوتي، في توجيه أولي لآلية التلقي المفترضة. للصوت مساحة مهيمنة هنا، لذا تدأب النصوص الثلاث عشرة لهذا القسم في تفجير الإمكانات الصوتية لأقصي حد، عبر آليات متنوعة: تحضر جماليات الإصاتة، التكرارات المقصودة لدوال بعينها أو عبارات كاملة، التوازيات والتعارضات، التدوير، حتي أن نصوصا بأكملها قائمة علي التلاعبات اللفظية. هنا يبرز سؤال: هل نحن أمام نصوص شفهية بشكل ما؟ هل وجودها كنص مكتوب، وبالتالي كمقروء، يحد من مغامراتها؟.. أعتقدان الإجابة نعم في بعض النصوص، مثل النص الاول" ضفادع علي العشب: أصابع علي البيانو/ أصابع علي البيانو: زخات علي النافذة/ زخات علي النافذة: نقرات الطبل" ويمضي النص وفق هذه البنية قبل أن يتم التئام العبارات كلها في مقطع واحد علي لسان الراوي. وهناك، ثالثا، الإحالات الأدبية، عبر اقتفاء مقتبسات من نصوص أخري، وبثها في طيات الكتاب.. ليس كمعطيات من الخارج، بل كنصوص باتت تنتمي للحمة المتخيل السردي بحيث لا يمكن قراءته من دونها أو العكس. والمحصلة أن النصوص تبدو تجربة خالصة في التناص، المتكيء علي الشفرات الثقافية. وهي وفق هذا المنطق لا تشير خارجها ولا تنفتح علي النص المجتمعي أو الشرط الخارجي إلا بشحوب. هي نصوص مغلقة علي شروطها الخاصة، وتفترض الإلمام بقوانينها الداخلية بغية مقاربتها..في لغة تحيل بدورها إلي نفسها، لاتشف عما خلفها من معان جاهزة أو حاضرة، ولا يقع عالمها خارجها. الدوال هنا ملتفتة لكثافتها، بغية تشكيل لغوي موح، يتحول عبره العالم إلي تشكيلات متشظية تخلو من "الحكاية" المتماسكة. لن نعثر علي حكاية متماسكة، أو علي حدث بعينه يجري تطويره او الاشتغال عليه..فثمة تقويض عنيف لصيرورة الحكي ، يقابله تجريب شديد في التقاط التفاصيل، التي تبدو كمحكيات متناهية الصغر تم اقتلاعها من محكيات أكبر لإعادة تجريبها وفق تصور شعري. الكتاب: اعتقال الغابة في زجاجة المؤلف: أنيس الرافعي الناشر: دار العين