بدأ وجدي الكومي بكتابة القصة القصيرة منذ عام 2000، وبداية من 2008 انتقل إلي الرواية (أو ربما تنويعة في الكتابة؟) فصدر له "شديد البرودة ليلا"، ثم صدرت روايته الثانية "الموت يشربها سادة" عام 2010 عن دار العين. في "شديد البرودة" يتناول الكاتب ما حدث في حفر الباطن في بداية التسعينات وهو أحد الموضوعات المسكوت عنها في الكتابة المصرية، فقلما ما تناوله أحد ربما لما يثيره من ألم أو عدم فهم أو عجز عن الاستيعاب أو حتي بسبب عدم إمكانية تصنيف ما حدث علي المستوي النفسي، قنابل عنقودية وكر وفر وهجمات جوية وأسري ومن ثم احتفال بالتحرير! تبدو الشخصية الرئيسة في الرواية مرتبكة بشدة، شخصية مقهورة علي المستوي الإنساني لا يمكنها أن تصرح بمكنون ذاتها فتقع فريسة للازدواج النفسي في المنطقة الفاصلة بين الظاهر والباطن، بين الوعي المنطوق واللاوعي المكتوم، بين الغريزة الشهوانية الحيوانية والفطرة الاجتماعية الرافضة للانحدار الإنساني: هي المنطقة التي يتشكل فيها الجنون. ومن باب المفارقة، يبدو هذا الجنون هو قمة العقل. فهذا "المحارب" (والصفة مشكوك فيها لشدة غرابة السياق) يتحول إلي قواد يتاجر بالمعني الحرفي في النساء، يصدرهن ويستوردهن، يمارس عليهن الابتزاز ويخضع تماما لنزوات ورغبات غازي التي تتسم بالحيوانية القبيحة. يتحول كل هذا القهر والخضوع إلي شكل مغاير في الشهوة، فيكون القتل اللاإرادي هو النتيجة الحتمية. السرد مختنق ومكتوم تماما كالمشاعر المخنوقة، وهو السرد الذي يبطن أكثر مما يفصح. يأتي الإفصاح الكامل عن كل ما كتب بين السطور في العمل التالي، "الموت يشربها سادة". وكأن الكاتب أراد أن يشتغل علي الرؤية بشكل أكثر عمقا وأشد وضوحا ليكمل صورة الإنسان المغترب عن ذاته وعن السياق والذي لا يجد ملجأ من كل ذلك إلا إنهاء الحياة. وإذا كانت الشخصيات في العمل الأول قد تشكل وعيها المغترب أو الحيواني في سياق حرب وقتل وتدمير، فإن الشخصيات في "الموت يشربها سادة" يتشكل وعيها في المنطقة الفاصلة بين الحياة والموت، في سيارة الإسعاف. علي يد عبده اغتيالات ونعيم تعود حيوات وتنتهي أخري، فتتحول تلك السيارة إلي مساحة تساوي بين الجميع لتنكسر حدة الفروق الطبقية علي المستوي الاقتصادي- التي تزداد حدتها في الإعلانات التجارية التي يوردها الكاتب في نسيج السرد- وعلي مستوي علاقات القوي. لا تمثل سيارة الاسعاف هنا مجرد مكان مغادرة الحياة أو الحفاظ عليها، لكنها أيضا تمثل وجهي العملة في آن- الموت/الحياة- حين يلتقي نعيم بالنساء في نفس المكان. تتركز أحداث السرد في مربع وسط المدينة بكل مؤسساته النقابية والترفيهية، ويتخذ المسعف وزميله مقهي البن البرازيلي مركزا لهما، حتي يتحول طقس احتساء القهوة إلي احتفال جنائزي صغير يتكرر علي مدار اليوم عدة مرات. ولذلك عندما تتم إزالة المقهي ليحل مكانه محل ملابس تبدو النهاية وقد اقتربت، وتكتمل فلسفة نعيم فيما يتعلق بالموت. يحول نعيم الفلسفة الشعبية القائلة بأن الموت راحة إلي فعل مؤكد حين يقوم بإرسال الجرحي والمصابين إلي النعيم الأبدي. في واقعة تلو الأخري يؤكد نعيم لنفسه صحة ما يقوم به، بل إن إرادته تدفعه دفعا لإنهاء حيوات يراها منتهية لا تمثل سيارة الاسعاف هنا مجرد مكان مغادرة الحياة أو الحفاظ عليها، لكنها أيضا تمثل وجهي العملة في آن- الموت/الحياة- بالفعل، بما في ذلك حياته نفسه التي يسعي رئيسه إلي إنهائها علي المستوي العملي (وينجح في النهاية) بكافة الأشكال. علي خلفية الأحداث داخل سيارة الإسعاف، بكل ما تحمله من شعور المصاب والمسعف علي السواء بالعجز تندلع أحداث العنف الوحشي في وسط المدينة، حيث تقوم الشرطة بقمع الحركات الاحتجاجية، وهو المشهد السردي الذي أصبح معتادا في وسط مدينة القاهرة، مما يجعل القارئ يتخيل تفاصيله التي فد يكون شارك في أي منها قبل ذلك بالتأكيد. وهي مشاهد لا تحمل في طياتها إلا الشهوة الحيوانية للقمع والتعذيب، نفس الشهوة التي بدأ الكاتب في نسجها في "شديد البرودة ليلا"، وكأنه يحاول سبر أغوار طبيعة هذه الشهوة في كل تجلياتها. إذا كانت شخصية "شديد البرودة" قد وصلت إلي أقصي مدي في الانصياع للقهر بوصفها ضحية ثم تحولت- لا إراديا- إلي جلاد ينتقم من كل صاحب انتهاك إنساني، فإن نعيم في "الموت يشربها سادة" يسعي جاهدا للوصول إلي نهاية المطاف في قراره بإنهاء الحيوات المعذبة. وهو إذا كان قد رأف بحال الغريب فقد كان عليه أن يرأف بحال والدته التي ترقد في غيبوبة كاملة. هكذا يقتنع نعيم ويقنع الكاتب قرائه أن إنهاء الحياة "رأفة" و "رحمة". والحال أن الكثير من الحالات لا تكون هذه الرأفة إلا شكل من أشكال القتل إذ يقوم المسعف بحرمان الحياة من فرصها المتوقعة والمحتملة. لكنه المسعف الذي يحتاج إلي من يسعفه ليخرج من شبكة القهر التي تكبله تماما، السلطة بكل أشكالها، رجال الأمن الذين يبثون الرعب بشكل مفارق، الفقر، الاحتياج، الفراغ العاطفي، الثروات المكدسة بشكل فج، وصولا إلي فنجان القهوة الذي يحرم منه. يصل نعيم إلي ذروة المواجهة عندما يبلغه رئيسه بقرار فصله من العمل فكان أن انتابته "رغبة مباغتة في التدمير"، "أن أقود عربة الإسعاف لآخر مرة وأحطم ...أسكب...أفجر". ثم يتوجه إلي والدته الراقدة في العناية المركزة "منذ الأزل"، لتعاوده الرغبة الدفينة في أن يرأف بها وينهي حياتها، وهنا يحدث الالتباس ما بين الرغبة الكامنة في إراحة الأم وما بين توهم نعيم أنها تطلب منه ذلك. وهو الالتباس الذي يلازمه علي مدار قيامه بإنهاء حياة الآخرين. إلا أن هذه الذروة التي تعمل عمل العاصفة تجعله ينهار أمام جسد أمه المسجي في العناية المركزة والمحاط بأجهزة وخراطيم تجعله يتراجع تماما بالرغم من توهمه سماع صوتها تطلب منه الراحة، فيقول: "لا يا أماه..لا يا انتصار..ابقي معي أرجوك". بمجرد أن تتغلب إرادة نعيم علي اللاوعي الرافض لكل ما حوله من انتهاك تختفي الأصوات المتوهمة من عقله تماما. فقد ظل علي مدار السرد يرفض الإنسانية المنتهكة، ولم يستطع أن يتكيف مع إنسانيته المغتربة، مما دفعه إلي القتل إكراما لهذه الإنسانية وحماية لها من الانتهاك، فقد عقله في "شديد البرودة" وكاد أن يفقد ذاته في "الموت يشربها سادة". وكأن الأم كانت هي المنقذ الأول له من قسوة ذاته ومن حدة الاغتراب، أعادته للواقع فاختفت الأصوات من عقله. كان صوت جايل في "شديد البرودة" تنويعة علي أصوات العقل، ولكنها الأصوات التي دفعته إلي القتل والجنون. كأنما نعيم يسترد إنسانيته المنتهكة، يستردها ليتعين عليه أن يعيشها مغتربا، ويزيد الوعي من حدة الاغتراب. إنها اللعبة اللانهائية بين الموت والحياة، بين الوعي واللاوعي، اللعبة التي يعيد وجدي الكومي نسجها سردا ليكشف عن قدرة الإنسان علي ممارسة القبح والتعايش معه، قدرة الإنسان علي الموات المساوية لقدرته علي احتمال الحياة.