رئيس جامعة القناة يُكلف مديرين جُدد للعمل بالإدارة العامة لخدمة المجتمع    القضية الفلسطينية على رأس مناقشات اجتماع مجلس أمناء الحوار الوطني    بالاسم ورقم الجلوس.. نتيجة الشهادة الإعدادية في كفر الشيخ    "الحوار الوطني" يطالب بالإفراج عن المحبوسين احتياطيا في أنشطة دعم فلسطين    رئيس الوزراء يشدد على ضرورة تعيين 30 ألف معلم فى المدارس كل عام لسد العجز    حفر 30 بئرًا جوفية وتنفيذ سدَّين لحصاد الأمطار.. تفاصيل لقاء وزير الري سفيرَ تنزانيا بالقاهرة    النواب يحيل 3 اتفاقيات للجان النوعية في بداية الجلسة العامة .. اعرف التفاصيل    وزير النقل يتفقد مواقع العمل بالمشروعات التنموية والخدمية بميناء الدخيلة    تنفيذ 5 دورات بمركز تدريب الشرقية خلال مايو الماضي    التموين: صرف دقيق المستودعات من المطاحن ب 2800 جنيه للطن    توريد 125 طن قمح لمطحن الطارق بجنوب سيناء    جيش الاحتلال يرتكب 4 مجازر في قطاع غزة خلال 24 ساعة    في زيارة أخوية.. أمير قطر يصل الإمارات    الخارجية الفلسطينية ترحب بدعوى تشيلي ضد إسرائيل أمام محكمة العدل    نادي المقاولون يواصل اختبارات الناشئين 2024    "على مسئوليتي الشخصية".. شوبير يكشف حقيقة منع الزمالك من البطولات الأفريقية    كرة يد - الاتحاد المصري يعلن إذاعة نهائي كأس مصر بين الزمالك وسبورتنج    فتح باب التقديم لرياض الأطفال في القاهرة للعام الجديد    ضبط 15 شيكارة دقيق مدعم قبل بيعها بالسوق السوداء بالإسماعيلية    حريق في شقة الفنانة سمية الألفي.. وإصابتها باختناق شديد    عيد الأضحى.. موعد أطول إجازة متصلة للموظفين في شهر يونيو 2024    قرار من المحكمة ضد إنجي حمادة وكروان مشاكل بسبب "فيديو المطبخ"    رئيس بعثة الحج الرسمية: بدء تفويج حجاج القرعة من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة    قيادات «المتحدة» ونجوم الفن ورجال الدولة في احتفالية العرض الخاص من سلسلة «أم الدنيا 2»    اليوم.. جمعية الفيلم تعرض فيلم بيت الروبي وتحتفل بمئوية الفنانة سامية جمال    شاهد، برومو تشويقي جديد لمسلسل الوصفة السحرية    نسرين طافش تكشف حقيقة طلبها "أسد" ببث مباشر على "تيك توك"    ما حكم من أحرم بالحج ثم مات بعد الوقوف بعرفة؟.. «المفتي» يجيب    توقيع الكشف الطبي على 1314 حالة خلال قافلة طبية بملوي في المنيا    تحرير 139 مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    طريقة عمل الفطير المشلتت الفلاحي، الوصفة الأصلية    213 قرار علاج على نفقة الدولة و27 زراعة نخاع.. جهود اللجنة الطبية والاستغاثات خلال مايو 2024    السكرتير المساعد لبني سويف يناقش إجراءات تعزيز منظومة الصرف بمنطقة كوم أبوراضي الصناعية    غرفة عمليات «طيبة التكنولوجية»: امتحانات نهاية العام دون شكاوى من الطلاب    أحمد حلمي يطالب بصناعة عمل فني يفضح الاحتلال الإسرائيلي: علينا تحمل مسئولية تقديم الحقيقة للعالم    وزيرا خارجية المغرب وكوريا يبحثان تعزيز علاقات التعاون الاقتصادية والتجارية    رسمياً.. منحة 500 جنيه بمناسبة عيد الأضحى لهذه الفئات (التفاصيل والموعد)    مجلس الزمالك يسابق الزمن لتجهيز مستحقات الفريق.. ومفاجأة بخصوص جوميز (خاص)    قرار جديد من محكمة النقض بشأن قضية «شهيدة الشرف»    وزيرة التخطيط ل"النواب": الأزمات المتتالية خلقت وضعًا معقدًا.. ولابد من «توازنات»    سيناتور أمريكي: نتنياهو «مجرم حرب» لا يجب دعوته للكونجرس    طبيب قلب يقدم نصائح للوقاية من المضاعفات الصحية الناتجة عن حرارة الصيف (فيديو)    عكس الاتجاه.. هل يصلح متحف الهولوكوست ما أفسدته دولة الاحتلال؟!    جواز ذبح الأضحية للمصريين المقيمين بالخارج: التفاصيل والأولويات    د. على جمعة عضو هيئة كبار العلماء يجيب عن أشهر أسئلة الحج: التخلف من العمرة للحج مخالفة لا تتفق معها العبادة.. ويحقق أذى المسلمين فى الحج    وسائل إعلام لبنانية: شهيدان مدنيان في غارة إسرائيلية على بلدة حولا    محافظ مطروح يبحث مع وفد جامعة الأزهر جهود إنشاء فرع بالمحافظة    ضبط 9 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالعملات الأجنبية خلال 24 ساعة    الشرقية تحتفل بذكرى دخول العائلة المقدسة ومباركتها لأرض مصر في منطقة آثار تل بسطا    الاتحاد السكندري يخشى مفاجآت كأس مصر أمام أبو قير للأسمدة    متحدث الزمالك: شيكابالا أسطورة الزملكاوية.. وهناك لاعب يهاجمه في البرامج أكثر مما يلعب    ل برج الجوزاء والعقرب والسرطان.. من أكثرهم تعاسة في الزواج 2024؟    تداول 15 ألف طن و736 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    دعاء دخول مكة المكرمة.. اللهم أَمِّني من عذابك يوم تبعث عبادك    عاجل بالأسماء.. شلبي يكشف رحيل 5 لاعبين من الأهلي    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 2 يونيو 2024    «خبرة كبيرة جدًا».. عمرو السولية: الأهلي يحتاج التعاقد مع هذا اللاعب    قصواء الخلالى ترد على تصريحات وزير التموين: "محدش بقى عنده بط ووز يأكله عيش"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من ساحات التواضع إلي فخاخ أدعياء التصوف:
تجربتي : البحث عن أمن اليقين!
نشر في أخبار الأدب يوم 24 - 04 - 2010

"البحث عن أمن اليقين"، يظل هدفاً لكل إنسان، في كل مكان وزمان عبر مراحل العمر. ولعل جيلنا الذي تشكل وعيه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قد تعرض لأعتي العواصف الأيديولوجية التي أفرزتها الحرب الكونية الثانية.. كان شاهدا علي اندحار النازية وعلو مبادئ الحرية والديمقراطية وصعود الأنظمة الشمولية، الشيوعية والقومية وبريق الوجودية وانبثاق التنظيمات الإسلامية السياسية بجميع تياراتها المعتدلة والتكفيرية وتلك التي اجتهدت لأسلمة الاستبداد!
وكانت بلادنا في سنوات الحكم الثنائي وما بعده، مشرعة الأبواب والنوافذ تتلقي وتتفاعل مع هذه الأعاصير بدرجات متفاوتة، لكنها كانت منفلتة إلي حد بعيد في نظامها العام الذي قنن الدعارة والخمارات و"الأنادي"... كنت تجد من يقسم بشرفه الماركسي ولا يحنث... ومن يكفرك إذا أقسمت بالنبي الكريم والصالحين من أمته!... وكان المجاهرون يتفاخرون علناً بقدراتهم، يعبون ويهرطقون بلا حدود، ويعزون أنفسهم في صخب الليالي وهم ينشدون لصلاح جاهين:
رقبة قزازة وقلبي فيها انحشر
شربت كاس واتنين وخامس عشر
صاحبت ناس م الخمرة ترجع وحوش
وصاحبت ناس م الخمرة ترجع بشر
وكان هناك من يرهف رهقا من فحولته ويدق علي صدره متمنيا، أمنية اللورد بايرون: "ليت النساء جميعا فم واحد، لقبلته واسترحت"!
كان من المشاهد المألوفة الصفوف المنتظمة أمام تلك البيوت في "زقاق أبو صليب" الذي سمي كناية أو نكاية ب"زقاق الديمقراطية" مثله في ذلك "حي الشهداء" في أم درمان وغيرها في جميع مدن السودان!
وعاش جيلنا وطأة الحكم العسكري الأول وصراعاته واعتقالاته للرموز الوطنية وإعدامه لكوكبة من الضباط وتصفية قيادات واعدة في جنوب السودان..
وكان انتصار ثورة أكتوبر 1964 عزاء وفخرا، لكنها سرعان ما ذابت مثل "حبة الفوّار" في مهدها ومهدت لانقلاب 25 مايو 1969م الذي نكل بخصومه من كل التيارات حتي أنصاره الذين حملوه علي الأكتاف، اختلف معهم في صراع دامٍ عام 1971م ونصبت المشانق وملئت السجون وتشرّد الآلاف. وتصاعدت المواجهات في شعبان 1393 ه ثم في يوليو 1976. وحاول النظام تغيير جلده بقوانين سبتمبر 1984، وحاول النظام جلده بقوانين سبتمبر 1984، وكان أشبه بمريض الجدري الذي تنحفر فيه الندوب إلي الأبد!
في هذا الخضم المتلاطم من الأحداث الجارفة نشأ جيلنا من الصحفيين في منتصف الستينات، كنا شهودا علي هذه الأحداث المتلاحقة... بدأت في جريدة "الأيام" برعاية أستاذنا الجليل بشير محمد سعيد ورفيقيه العزيزين محجوب عثمان ومحجوب محمد صالح... وبعد توقف الأيام عام 1963 انتقلت إلي "السودان الجديد" بقيادة أستاذنا الجليل فضل بشير.. وأتيح لي أثناء عملي في "السودان الجديد"، مراسلة وكالتي "تاس" و"أدن" لجمهورية ألمانيا الديمقراطية ثم أسست وكالة الأنباء الوطنية.. وكرمني زملاء المهنة بانتخابي أمينا عاما لنقابة الصحفيين لدورتين ونائبا للأمين العام لاتحاد الصحافة السودانية برئاسة الأستاذ بشير محمد سعيد والأستاذ محمد ميرغني أميناً عاماً، ومشاركاً في وفد اتحاد الصحفيين السودانيين لتأسيس اتحاد الصحفيين العرب بالقاهرة عام 1968م. ولا يتسع هذا المقام لسرد مطول عن تجربتي الصحفية والنقابية، ولكن باختصار هذه المهنة، التي تمثل السلطة الرابعة توأم للسياسة، الوجه الآخر لها، وتأتي معها في مقدمة البيان الأول لكل انقلاب ينص علي حظر الأحزاب والصحف معا. وكنا نسخر من أنفسنا بأن الصحف يفوت عليها نشر أهم أخبارها، قرار إيقافها في اليوم التالي الذي تحتجب فيه عن الصدور!
في تلك الحقبة السياسية والاجتماعية بإخفاقاتها المتلاحقة، ازدادت معاناة جيلنا.. كثيرون أسرفوا علي أنفسهم بحثا عن عزاء موهوم، بعضهم صرعتهم الخمر إدمانا وآخرون أخذوا حياتهم بأنفسهم جنونا أو انتحارا!
وفي منتصف السبعينيات، عندما سُد أفق العمل السياسي باشتداد قبضة نظام مايو 1969 1986م، نشط جيلنا من معارضي النظام في التعبير عن رؤاهم عبر المسرح.. وشهدت تلك المرحلة التي أسميناها "ربيع نميري" علي غرار "ربيع براغ" الذي تراخت فيه قبضة النظام الشيوعي في تشيكوسلفاكيا، ازدهارا غير مسبوق في المناشط المسرحية... وتعددت الفرق المسرحية الخاصة، واحتضن المسرح القومي بأم درمان، مسرحيات جريئة لها إسقاطات مباشرة علي النظام، مثل "نبتة حبيبتي"، "جوابات الشيخ فرح"، "نحن نفعل هذا أليس كذلك" و"بوابة حمد النيل"..
وأنشأنا مع أساتذة أجلاء فرقة "دفوف" لتوثيق التراث الشعبي، كمحاولة مضادة للفرقة القومية للفنون الشعبية التي كانت تجنح للإبهار عبر جماليات الرقص والفتيات الحسان... كانت مجموعتنا تضم الأساتذة، الطيب محمد الطيب (رحمه الله)، صديق محيسي، حسن جواري رحمه الله وأمين الرشيد.
وهيأت لنا فرقة "دفوف" المزيد من البحث والدراسة في مجال التراث والفنون الشعبية وحتي ذلك الوقت كنت أعتبر الصوفية ضمن هذا التراث، فاستهواني كتاب الطبقات للشيخ ود ضيف الله، وعكفت علي دراسته لاستلهام حكاياته في أعمال مسرحية... وتزامن ذلك مع إعداد الأستاذ الطيب محمد الطيب كتابه "حلال المشبوك" للشيخ فرح ود تكتوك وقدم لي مسودة الكتاب قبل طبعه لتحقيقه وقد ذكر ذلك في مقدمته.. وتضمن الكتاب الكثير من حكم الشيخ فرح ود تكتوك ومأثوراته واستقصيت بدوري قوله، "بعد الحال يبقي السفر بالبيوت والكلام بالخيوت (الخيوط)" فوجدت أن جراهام بل اخترع التلفون عام 1875م وقد عاش الشيخ فرح في زمن بادي أبو دقن (1643 1678م) أي قبل 200 عام من اختراع الهاتف.
وبصحبة الأستاذ الطيب محمد الطيب طفنا العديد من المناطق لتأصيل الطقوس الشعبية وتقديمها دراميا علي المسرح وتبلورت فكرة مسرحية "بوابة حمد النيل" من كتاب "الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان" تأليف الشيخ محمد النور بن ضيف الله، عن دخول الطريقة القادرية إلي السودان علي يد الشيخ تاج الدين البهاري، وتبادلت رسائل مع الشيخ الطيب علي المرين رحمه الله أحد أعمدة بيت الصادقاب العريق، كان جده الشيخ محمد عبد الصادق (الهميم) أول من أخذ الطريق في مشهد درامي (الثمن الذبح) استهللت به المسرحية، وتضمنت أيضا لوحة "يد البدري" للشيخ فرح ود تكتوك كما جاء في كتاب الطيب محمد الطيب الذي أشرنا إليه آنفا، ورافقتها أنشودة عذبة صاغها الأستاذ إسماعيل حسن: "يابا شيخي ود تكتوك" لحنها الموسيقار ناجي القدسي وأداها الفنان أبو عركي البخيت، كما تضمنت وفقا للسياق طقوس "دفن الجنازة" جسده الفنان الدكتور عثمان جمال الدين مع خلفية موسيقية للموسيقار ناجي القدسي تصاحب أنشودة للختمية تأليف السيد محمد سر الختم بن السيد محمد عثمان الميرغني تقول:
عليك اعتمادي كل لحظة
بدنياي في الرضا وفي كل شدة
وعند حتوفي ارتجيك لموتتي
لتحضرني تختم لي بالحسن ختمة
تقر بها عيني إذ الروح تؤخذ
وبسبب هذه القصيدة التي أسيء تأويلها في سياق المسرحية وحسبتها أجهزة الأمن إسقاطا لدفن نظام مايو، أوقفت عروض المسرحية رغم تدخل الأستاذ الدكتور إسماعيل الحاج موسي وزير الدولة للثقافة والإعلام.. وواجه مخرجها الريح عبد القادر مضايقات في عمله حالت دون استمراره في المسرح القومي وفضّل الهجرة إلي دولة الإمارات العربية المتحدة..
كانت صدمة إيقاف المسرحية "بوابة حمد النيل" التي عرضت ليوم واحد قاسية ومنذرة ومع ذلك واصلنا بحوثنا الميدانية في صحبة الأستاذ الطيب محمد الطيب وفي إطار فرقة "دفوف"...
أخبرنا الأستاذ الطيب أن أحد الدراويش في »أم ضبان« تنتابه حالة من الجذب في حلقة الذكر، فيدور ويدور ثم ينسحب أثناء دورانه من "الجبة" التي يرتديها.. وتوافقت تلك الأيام مع احتفالات المولد النبوي الشريف فتوجهنا إلي »أم ضبان« مع الأستاذ الطيب وبصحبتنا الأستاذ فيكتور ليبديف مدير وكالة تاس السوفييتية بالخرطوم وهو من المستشرقين ومهتم بالدراسات الشرقية ومن المعجبين بالطقوس الصوفية. وكان كثيرا ما يشهد حلقات الذكر في ساحة حمد النيل بأم درمان.
والتقينا في أم ضبان بالخليفة يوسف ود بدر في خلوته ورحب بنا، ودعا لنا بما فينا الأستاذ ليبديف، ثم توجهنا إلي ساحة الذكر وشاهدنا الأداء المذهل لأحد الدراويش بتحكمه في حركته مع إيقاعات الطبول ثم انسلاله من جبته المزركشة الألوان. وهمس الأستاذ
الطيب في أذني.. تعال ستر شيئا أكثر إثارة.. وتبعته دون استئذان من رفيقنا ليبديف الذي كان منهمكا في تصوير لوحة الدراويش...
تبعت الأستاذ الطيب إلي ساحة صغيرة خلف خلوة الخليفة يوسف مباشرة، وفي طرفها متجر صغير جلس أمامه رجل أبيض اللون، أبيض الشعر والثياب.. وعرفني الأستاذ الطيب بصوت خفيض بالرجل فهو من عائلة عريقة معروفة في أم درمان. وكان موظفا كبيرا ثم أحيل إلي التقاعد لكنه قرر التوجه إلي أم ضبان وافتتح هذا المتجر وكان مصمماً أن يكون موقعه ملاصقاً لخلوة الخليفة يوسف.. وأعلن الرجل منذ اليوم الأول أنه سيبيع بضائعه بنفس سعر الشراء بدون أرباح... وبالفعل نفذ وعوده.. ومن يومه الأول أعلن بوضوح أنه صاحب رسالة وقد اختار أم ضبان ليبلغ جميع المسلمين أنه هو المبعوث الحقيقي برسالة الإسلام وعليهم ألا يصدقوا غيره..! وعند وصولنا إلي المتجر كان الرجل يؤكد هذه المعاني أمام مجموعة من "الحيران" والزبائن جاءوا لشراء أغراضهم.. وكان المشهد مثيرا حقا كما قال الأستاذ الطيب، حيران تلاميذ المسيد المنقطعون في هذه البقعة المباركة لتعلم القرآن الكريم لا يردون عليه ولا يناقشونه.. بل ويكتمون ابتساماتهم بأيديهم ويهمهمون بالدعاء للرجل ليشفيه الله... صورة من التسامح هزتني بحق.. قوم لا يتشنجون لا يصرخون في وجوه خصومهم ولايكفرونهم ،و لا يهددونهم بالويل والثبور وعظائم الأمور..!!
وحثثت الخطي لأقترب أكثر من هؤلاء القوم... حدثتني زوجتي عنه، الشيخ البشير محمد نور.. كانت قد زارته في مسيده بشمبات، ودعتني لمرافقتها في زيارة قادمة.. وذهبت معها واستقبلني ببشر وود. كان نحيلاً أنيقاً في ثوبه الأبيض وطاقيته البيضاء التي تتوج رؤوس كل تلاميذه الملتفين حوله، بهرني منذ اللقاء الأول بتواضعه وكرمه، كان يفترش الأرض مع تلاميذه وأجلسني علي كرسي وثير بالقرب منه... قال لي مبتسماً.. "الصحفيون عادة لا يأتون إلينا" بادلته الابتسام وحدثته عن شغفي بالتراث وقلت له ان أجهزة الأمن أوقفت مسرحية »بوابة حمد النيل« وأساءت فهمها... أجابني بهدوء.. في هذه الأجهزة وغيرها هناك الصالحون والطالحون.. وأفاض في الحديث عن الشيخ ود ضيف الله وكتاب الطبقات.
وانتظمت زياراتي للشيخ البشير محمد نور... شغفت بتواضعه وكلماته العذبة الهامسة وتعبيراته الجزلة التي تصافح القلب مباشرة... وأصبحت منتظما في زياراته وفوجئت بالمزيد من المواقف المذهلة لتسامح هؤلاء القوم... ذات يوم سمعت صخباً وضوضاء من جهة خلاوي الضيافة المنبثة في ساحة المسجد....خرجت مجموعة من الحيران المتحمسين وأعينهم محمرة غضبا، وهم يمسكون بتلابيب أحد الزوار ويصرخون في وجهه ويقول له أحدهم بانفعال: "هذا المكان ليس سكنا لأمثالك كيف تجرؤ علي تدنيس هذا المسيد وتقرر الإقامة فيه" وعندما تبينت ملامح الرجل تعجبت فهو من المسرفين علي انفسهم ، بزيهم المميز وأصواتهم المتكسرة وعندما اقتربوا من مجلس الشيخ البشير همس حاج السر في أذنه بما يحدث، فتغيرت ملامحه وكانت المرة الأولي والأخيرة التي أسمع صوته عاليا زاجرا وقال: "إن هذا المكان هو الأصلح له... اتركوه فهو ضيفنا يقيم هنا كما يشاء ونسأل الله هدايته لنا جميعا"... واستقر الرجل في المسيد وتغير من حال إلي حال وسبحان مغير الأحوال!
والمشهد الثاني الذي جسد لي تسامح "القوم".. كان أيضا في مسجد الشيخ البشير حيث فوجئ المصلون برجل يقف بعد صلاة الجمعة مباشرة ويخلع جلبابه ويقف عاريا إلا من سرواله ليشكو حاله ويطلب مساعدة المصلين.. وتكرر المشهد لعدة أسابيع مما أثار استياء الكثيرين، وذات جمعة تصدت له مجموعة من مريدي الشيخ وطلبوا منه أن يخلع جلبابه خارج المسجد وليس بداخله، وهنا أيضا أوقفهم الشيخ البشير قائلا: "من يدري أن هذا الرجل يريد المساعدة المادية قد يكون هدفه والله أعلم، أن يذل نفسه وينتصر عليها علنا أمام هذا الحشد من الناس.. إن لله في خلقه شؤونا.
وازددت تعلقا بهذا المكان مسيد الشيخ البشير محمد نور حتي أذن الله وأخذت منه بيعة الطريق السماني علي نهج الشريف محمد الأمين الخاتم... ووجدته موردا عذبا لا شوائب تعكره في مظهر أو حال,، يرتكز أساس قاعدته علي الحديث الذي رواه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويعتبر هذا الحديث جامعا لكل أصول الدين، قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلي الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يري عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتي جلس إلي النبي صلي الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلي ركبتيه ووضع كفيه علي فخذيه وقال: "يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال فأخبرني عن الإيمان. قال:"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". قال: صدقت.. قال: "فأخبرني عن الإحسان. قال:"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل:. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن تري الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" ثم انطلق فلبث مليا، ثم قال لي: "يا عمر أتدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)". رواه مسلم.
هذا الحديث كما تعلمنا من مشايخنا هو أساس المنهج الصوفي ويكتمل العلم بالدين، بثلاثية الإسلام والإيمان والإحسان كما جاء في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"..
ويؤكد الشيخ ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم أن جميع العلوم والمعارف يرجع إلي هذا الحديث ويدخل تحته وأن جميع العلماء من فرق الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث وما دلّ عليه مجملا ومفصلا، ويضيف قائلا: يتكلم الفقهاء في العبادات التي هي جملة خصال الإسلام ويبقي كثير من علم الإسلام في الآداب والأخلاق وغير ذلك لا يتكلم عليه إلا القليل منهم والذين يتكلمون عن أصول الديانات يتكلمون عن الشهادتين وعن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر، والذين يتكلمون عن علم المعارف والمعاملات يتكلمون عن مقام الإحسان وعن الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضا كالخشية والمحبة والتوكل والرضا والصبر ونحو ذلك فانحصرت العلوم الشرعية التي تتكلم عنها فرق المسلمين في هذا الحديث وحده .
من هنا كان دور الشيخ المربي ليأخذ بيدك في طريق الإحسان، وهو مقام يتسع فيه الاجتهاد من شيخ لآخر ، لكنه محكوم بافعال واقوال وحال الرسول صلي الله عليه وسلم ولا تجاوز عن منهجه , شريعة وطريقة وحقيقة... وبدأنا معهم رحلة "البحث عن أمن اليقين". واليقين كما يقول القوم هو نهاية المعرفة، و"من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يعلم"
لقد هيأت لنا مجلة "القوم." الالتقاء بأهل الصدق، فهم "القوم الذين لا يشقي جليسهم".
ونعتقد أن القوم "يواجهون في هذه المرحلة ابتلاءات متعددة يتجسد معظمها في ظاهرة انتشار اصحاب المقامات الموهومة و المشعوذين والدجالين ، فقد تأسست شبكات للعلاقات العامة تروج لأساطير وخرافات وقدرات خارقة لمشعوذين داخل وخارج السودان . وأصبح "بزنس" أدعياء التصوف ، استثمارا مضمونا، نال من سمعة القوم وألحق بهم الأذي ... لقد آن الأوان لمواقف حاسمة تعود بالتصوف إلي أصوله وإضافاته السودانية التي تميزت بالتواضع والإبتعاد عن السلطان بل والزهد في "المشيخة" نفسها لا التكالب والتقاتل والإنقسام داخل الأسرة الواحدة كما يحدث للأسف هذه الأيام ... آن الأوان لتجديد وإصلاح الشوائب التي علقت بهذا المنهج المتكامل في السلوك ... كما ان الاوان لاعادة تحقيق وتدقيق كتاب الطبقات للشيخ ود ضيف الله لما حواه من روايات غير صحيحة نسأل الله الصحة والعافية لاستاذنا الدكتور يوسف فضل للقيام بهذه المهمة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.