رئيس مجلس الشيوخ: «مستقبل وطن» يسير على خطى القيادة السياسية في دعم وتمكين الشباب    حجازي يبحث مع وزير التربية والتعليم العالى اللبنانى تبادل الخبرات بين البلدين    نائب رئيس جامعة بنها يتفقد امتحانات مركز الإختبارات الالكترونية    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق سوق العمل    وزير السياحة: حققنا 4.6 مليون سائح خلال الربع الأول من العام الجاري    وزير باكستاني: إسلام آباد وأنقرة تسعيان لزيادة التجارة بينهما إلى 5 مليارات دولار    ليفربول يعلن رسميًا تعيين آرني سلوت لخلافة يورجن كلوب    حسين لبيب: جماهير الزمالك ليس لها مثيل في العالم    وكيل صحة مطروح يتابع حالة مصابي حادث انقلاب تروسيكل    مصرع شاب وإصابة 2 في حادث تصادم أعلى محور دار السلام بسوهاج    "الملاك ذو الأخلاق الرفيعة".. أسرة سمير صبري تطالب بالحصول على مقتنياته    خارجية أمريكا: المحكمة الجنائية الدولية ليس لديها سلطة قضائية على إسرائيل    علامات ضربة الشمس.. تعرف عليها لتجنبها في هذا الأيام الحارة    انقسام كبير داخل برشلونة بسبب تشافي    السرب المصري الظافر    «تقدر في 10 أيام».. «حياة كريمة» تقدم نصائح لطلاب الثانوية العامة    محافظ دمياط تستقبل نائب مدير برنامج الأغذية العالمى بمصر لبحث التعاون    ميسي على رأس قائمة الأرجنتين المؤقتة لبطولة كوبا أمريكا 2024    تراجع المؤشر الرئيسي للبورصة بختام تعاملات جلسة الإثنين    «سوميتومو» تستهدف صادرات سنوية بقيمة 500 مليون يورو من مصر    تحرير 174 محضرًا للمحال المخالفة لقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    أول تعليق من التنظيم والإدارة بشأن عدم توفير الدرجات الوظيفية والاعتماد ل3 آلاف إمام    وزير الرى يلتقى أمين عام المنظمة العالمية للأرصاد الجوية    أزمة بين إسبانيا والأرجنتين بعد تصريحات لميلي ضد سانشيز    الأوبرا تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    "اليوم السابع" تحصد 7 جوائز فى مسابقة الصحافة المصرية بنقابة الصحفيين    "القاهرة الإخبارية" تعرض لقطات لتجمع إيرانيين حدادا على وفاة إبراهيم رئيسي    حجز شقق الإسكان المتميز.. ننشر أسماء الفائزين في قرعة وحدات العبور الجديدة    يعالج فقر الدم وارتفاع الكوليسترول.. طعام يقي من السرطان وأمراض القلب    إجراء 19 عملية زراعة قوقعة للأطفال بسوهاج    هيئة الدواء تشارك باجتماع منظمة الصحة العالمية حول استخدام المضادات الحيوية    إلهام شاهين تحيي ذكرى سمير غانم: «أجمل فنان اشتغلت معه»    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. الإفتاء توضح    بدأ العد التنازلي.. موعد غرة شهر ذي الحجة وعيد الأضحى 2024    انطلاق فعاليات ندوة "طالب جامعي – ذو قوام مثالي" بجامعة طنطا    المالديف تدعو دول العالم للانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل    تراجع ناتج قطاع التشييد في إيطاليا خلال مارس الماضي    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    العثور على طفل حديث الولادة بالعاشر من رمضان    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    ليفربول ومانشستر يونايتد أبرزهم.. صراع إنجليزي للتعاقد مع مرموش    إيتمار بن غفير يهدد نتنياهو: إما أن تختار طريقي أو طريق جانتس وجالانت    الرئيس الجزائري: فقدت بوفاة الرئيس الإيراني أخا وشريكا    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    برنامج "لوريال - اليونسكو" يفتح باب التقدم للمرأة المصرية في مجال العلوم لعام 2024    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    براتب خيالي.. جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    10 ملايين في 24 ساعة.. ضربة أمنية لتجار العملة الصعبة    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    خلاف في المؤتمر الصحفي بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية بسبب أحمد مجدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين طه حسين ونصر
وريث »معذبو الأرض«
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 07 - 2011

ما الذي جمع بين طه حسين ونصر حامد أبو زيد، ولماذا هزم الطرفان، ولماذا بدت هزيمة الثاني أكثر سهولة ويسراً؟
الجواب شبه الشائع بين أطراف مختلفة يقول: هُزم هذان المثقفان النقديان لأنهما تعرضَا إلي مقدس لا يجوز التعرض له، الأمر الذي يختصر معركة الطرفين إلي منازلة بين الكفر والإيمان، والأول مهزوم لا محالة. والجواب سخيف، فالمشروع الأول، كما الثاني، مرتبط بشيء محدد، يتجاوز الدين وقضاياه كثيراً، يدعي الحداثة الاجتماعية، التي تقوم علي عنصرين: النشاط العقلي، الذي يدعو المجتمع إلي توليد ذاته حراً، بدون مساعدة من أطراف خارجية، إلا بقدر. ويتمثل الثاني بالاعتراف بالحقوق العامة لكل الأفراد، التحزب السياسي والفكري منها، وحق الإنسان الحر أن يفكر بقضاياه، بما في ذلك الشأن الديني، بشكل عقلاني.
ولكن ما الذي قال به هذا وذاك، وهل غايته تغيير مقدس موروث، أم تغيير النظر إلي المقدس الموروث؟ جاء طه حسين بمقولات ثلاث أساسية: إعمال العقل والاعتراف بأن من حق الإنسان العقلاني أن يتصرف بعقله حراً، بمعزل عن الرقابة الدينية والقومية وغيرهما من أشكال الرقابات. وهو موضوع كتابه: "في الشعر الجاهلي"، الذي اتخذ من الشعر ذريعة للدفاع عن حرية الفكر والتعريف بمبادئ الفلسفة الديكارتية. أما المقولة الثانية فعنوانها: أنسنة التاريخ العربي الاسلامي، والنظر إليه كمحصلة لأفعال إنسانية، أنجزها بشر ينتجهم التاريخ ولا ينتجون التاريخ، صالحين كانوا أم اعتراهم الفساد، لأسباب تتجاوزهم، وهو ما شرحه شرحاً كافياً في كتابه "الفتنة الكبري:، حيث مستجدات الحياة تعترض طريق "المبشرين بالجنة". عالجت المقولة الثالثة تأسيس الديمقراطية علي إصلاح مدرسي شامل، يعطي "عقولاً ممتازة" لا تعبث بها السلطة ولا "رجال الدين" الذي تستعملهم السياسة، وينتهون إلي الإساءة إلي الدين والسياسة معاً. وبقدر ما كان حسين يحذر من "النخبة السياسية" التي ترتاح إلي جمهور جاهل، كان يحذر من "السواد"، أي هؤلاء "العوام" الذين يحوّلهم "المشايخ" إلي جماعات عمياء.
في زمن آخر وسياق آخر، جاء نصر حامد أبو زيد بمقولاته المحدّثة عن "نقد الخطاب الديني"، و"قراءة النص" والتمييز بين"الكفر والفكر" ، محاولاً استئناف نزوعات عقلانية في زمن نخره الفساد، علي الصعيدين السياسي والفكري معاً. وعلي الرغم من أن نصر لم يكن ينطلق من "برنامج فكري"، حال طه حسين، فقد كان ما جاء به بياناً حداثياً، بشكل آخر، ليس الدين فيه إلا بوابة ضيّقة لأمور أكثر أهمية وأشد خطراً . لم تكن فكرة: النص والسياق، التي تري النص الديني والظروف التي ساورته إلا استئنافاً، بشكل آخر، لما قال به حسين في "الفتنة الكبري". فإذا كان في تدفق الثروات، في زمن الخليفتين عمر وعثمان، ما يسمح بقراءة مآل "المبشرين بالجنة"، الذين كان لهم حظهم من الثروات المتدفقة، فإن في تحوّلات "المجتمع الإسلامي" المفترض، في القرن العشرين ما يسمح بقراءة جديدة لأفكار الدين الإسلامي الأولي. أدخل طه - نصر مفهومي القراءة والتأويل، حيث جديد المعرفة، كما إعمال العقل، يتيح قراءة لم يعرفهم الأقدمون، ولم يكن بإمكانهم معرفتها. والمحصلة، في الحالين، نبذ الإطلاقية والاعتراف بالنسبية، الذي هو مبدأ حاسم من مبادئ الحداثة، والتحرر من الإيمانية المغلقة، التي تحتفي بالثبات، وتعيّنه عنصراً من عناصر العقيدة والإيمان. لم يشأ طه حسين، كما نصر حامد أبو زيد، أن ينصاع إلي "عادات الفكر"، ذلك أن قران الفكر بالعادة يستبقي العادة ويترك الفكر خارجاً. مارس الطرفان التحرر في حقل المعرفة، وأعطي تمردهما علي قراءة "الماضي المقدس"، بمعايير ماضوية، شكل الفضيحة. لكنها تلك الفضيحة التي تأتي من عطاري الفكر، أو فقهاء السلاطين، قبل أن تأتي من "السواد"، أي تلك الجماعات الغافلة التي تسير وراء "مشايخ" يسيرون نحو مصالحهم العارية، التي تنتهك "مبادئ الشريعة".
وإذا كان طه حسين قد ناور، وأحسن المناورة، ولم يخرج من بعض مناوراته ظافراً، فقد آثر نصر البراءة والاستقامة التي ترفض الأقنعة. ولهذا ساوي بين "الإسلام المعتدل". الذي يلبي حاجات الشيطان والرحمن معاً، "الإسلام المتطرف"، الذي يعزل "الله" عن مقامه ويأخذ مكانه، مساوياً بين الكفر والفكر، إذ الكفر استعمال العقل ، وإذا الفكر هو تعطيل الفكر باسم المقدس وبما قاله به "أبو هريرة" منذ قرون. وواقع الأمر أن تعرّض نصر إلي السلطة الحاكمة، التي كانت تغطي "عوراتها اللامتناهية" بإسلام معتدل، كما الفساد والمعمّم الذي حط علي الجامعة، وأصاب "المثقفين السلطويين"، إضافة إلي "الإسلام النفطي" القوي البنيان، هو الذي ألقي نصر في قفص الاتهام، قبل أن ينقله إلي عراء موحش، تتصادي فيه أصوات المنفي والتكفير والأحكام الظالمة.
إنها بطولة الفكر النقدي في زمن لا يسمح بالبطولة ولا بالنقد معاً. فهناك السلطة الفاسدة، التي ترقّع فسادها بتحالف مع "أدعياء الشرع والفضيلة"، والثقافة النفطية، التي تعيّن السوق مرجعاً للفكر، وقد وطّد أركانه ب "الأصالة"، وهناك هؤلاء "العلمانيون"، الذين لا تنقصهم الطرافة، وهم يفاضلون بين "الدولة المستبدة" و"البديل الديني"، مؤثرين الأولي علي الثاني، متجاهلين دور السلطة في إنتاج وإعادة إنتاج "العماء الديني المطمئن"، ذلك أنه عماء يحرسه المقدس، يلتفت كثيراً إلي "الكفر في الفن والأدب"، ولا يقول عن التبعية الشاملة للغرب شيئاً. ولكن من هزم طه حسين ونصر حامد أبو زيد، وإن كانت هزيمة الأول أكثر طراوة وأقل مأساوية؟ اصطدم طه حسين، أولاً، بالأزهر والجماعات الدينية المتفرقة، ثم عاد واصطدم بحكومة مستبدة أقصته عن الجامعة، منتظراً إقصاء هامساً في زمن عبد الناصر، لأنه كان يؤمن إيماناً حاسماً بالديمقراطية وحقوق الإنسان. كان مشروع طه حسين التحديثي، الذي فصّل في عناصره، في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر""، بحاجة إلي دولة وطنية ديمقراطية، "أنعمت" عليه "الثورة" بشطر منها: الوطنية، وأقصت عنه كلياً الشطر الثاني: الديمقراطية". ولهذا بدا النقد في الحقبة الناصرية "كفراً"، إلي أن جاءت الحقبة الساداتية وجعلت من "الفكر" كفراً.
ورث نصر حامد أبو زيد هزيمة طه حسين، وذلك في سياق جديد عيّن الهزيمة قاعدة، واعتبر مقاومة الهزيمة خيانة صريحة. فقد حطمت حقبة مبارك التي مضت ولم تمضِ ، الجامعة المصرية، كما جاء في كتاب الراحل رؤوف عباس: "مشيناها خطي"، ووزعت علي الشعب المصري مليونيْن من "المخبرين"، كما جاء في أكثر من شهادة، وأنتجت، معتمدة التجهيل والتواطؤ والصفقات السياسية،" إسلاماً معمّماً"، يشبه الدين وما هو بالدين، لأنه "فولكلور ديني" تبثه القنوات الفضائية بقدر ما تبث "الأغاني الهابطة". ولذلك لم يستطع نصر أن "يحاذي" الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي، ولم يكن يهجس بمحاذاته ، لأنَّ نصر أراد أن يكون تلميذاً نجيباً لمحمد عبده وطه حسين والمعرفة الحديثة، القائلة بالتأويل والوعي التاريخي ونظريات السيميولوجيا والايديولوجيا.
ما الذي يستطيع فعله مفكر متمرد ، مثل نصر حامد أبو زيد، في سياق حُطّمت الجامعات فيه ومُنع الرأي النزيه وتحالف فيه بعض "أصحاب القلم" مع السلطة، وأصبح حضور "الدعاة" في قنواته الفضائية يضارع الإعلان والدعاية وكرة القدم؟ ليست البطولة إلا ثبات الفرد المفكّر، أو المفكر الفرد، علي رأيه في مجتمع تكتسحه "الجماعات"، وتتحول السلطة فيه إلي جماعة بين جماعات أخري. والجماعة لا تحتاج إلي الفكر ولا تنتجه ، فهي تسير بقوة العادة، التي تضفي علي العادات الموروثة قداسة عالية. والجماعة لا تقبل بالسياسة، لأن السياسة حوار واختلاف ، ولا تقبل بالنسبي والمحتمل، ذلك أن جوهر الجماعة تعصّب أعمي، يفصح عنه ويستثمره "مرشد" وحيد. أما مشروع نصر التجديدي ، ولكل جديد عقابه، فكان يحتاج إلي الاعتراف بالعقل والسياسة والفكر الفاعل والنقد، وإلي الاعتراف بالحقوق العامة للبشر، التي تميز بين العام والخاص، وبين الإيمان الفردي وإيمان الجماعات الذي هو تعصب بلفظية دينية.
كان طه حسين بحاجة إلي دولة وطنية ديمقراطية تأخذ مشروعه، أو ينقذها مشروعه، وكان يتطلع إلي "مصر الخالدة" التي سوف يأتي بها الاستقلال الوطني، الذي سيحمل معه دولة حديثة يتكامل فيها العلم والديمقراطية، ذلك "أن استقلالاً لا تحديث فيه هو أسوأ من الاستعمار"، كما قال ، بشكل ما، في مقدمة كتابه" مستقبل الثقافة في مصر". ولعل ضعف الدولة، أو هشاشة بنيانها، الذي سبق الحقبة الناصرية، هو الذي سمح لطه حسين أن ينشر أفكاره، مع صعوبات قابلة للتجاوز ، مدة ثلاثين عاماً. وعلي خلاف ذلك ، وعلي مبعدة منه، وقف نصر أمام "سلطة" بدّدت الاستقلال الوطني وأخفقت في التحديث الاجتماعي، بل لم تهجس به ، متخلية عن وطنية عبد الناصر ومحتفظة بجهازه الأمني. "إن استقلالاً وطنياً لا تحديث فيه لهو أسوأ من الاستعمار". لم يلتق نصر ب "مصر تظللها المعرفة"، كما حلم طه حسين ، بل ب مصر مبارك" التي يعمل الموظف بها 28 ساعة في العام، وفقاً لمعطيات عالم اجتماعي ، ويتشوّق فيها أكثر من نصف الشباب إلي الهجرة. إن كان مشروع طه حسين، في زمن السيطرة الإنجليزية علي مصر ، بحاجة إلي دولة وطنية ديمقراطية متحررة من الاستعمار، فإن مشروع نصر حامد أبو زيد ، في حقبة مبارك ، كان بحاجة إلي حركة شعبية وطنية ديمقراطية، تعيد تأسيس الدولة علي أسس جديدة، وتخلق مواطناً مصرياً، يميّز بين الحاجات والعقائد ، ولا يري في الدين وطناً ، لأن الوطن وحده هو الذي يسمح بحقوق المواطنة. ولهذا بدا قول نصر نافلاً لا ضرورة له، لا تقبل به السلطة الفاسدة ولا ترضي عنه الجماعات المسيطرة. دخل قوله إلي فضاء الرهان، بعد أن ذهب صاحبه إلي المنفي ودخل، في اللحظة عينها، إلي مجال "اللامتوقع، الذي جاء به الشباب المصري ، هذا العام، والذي يحتاج إلي "لا متوقع"، بصيغة الجمع ، كي يأتي بمصر جديدة ، تظللها المعرفة".
ما الذي أعطاه نصر حامد أبو زيد في تجربته التي احتقبت البطولة والمأساة؟ الجواب ماثل في أمرين أساسيين: التوحيد بين العالم المختص والمثقف النقدي، فلم يشأ أن يكون "العالم المختص"، الذي قال به الراحل محمد عابد الجابري في طور حياته، حين رأي أن في إضافة "الايديولوجيا"، إلي العلم سفاهة لا تُحتمل، ولم يشأ أيضاً أن يكون "المثقف الايديولوجي" الذي يختصر تفاصيل الحياة إلي صيغ متفائلة جاهزة. ولهذا كان عالماً في مجاله ، يعرف قضايا الدين من داخل النص وخارجه مذكراً، ولو بقدر، بالشيخ خليل عبد الكريم الذي منعت عنه معرفته العميقة بقضايا الدين، أو لقبه بشكل أدق، أذي المشايخ وأدعياء الدين. وكان في ملامح نصر أشياء من العالم الجغرافي المصري جمال حمدان، الذي كتب عن شخصية مصر، أو "عبقرية المكان"، واعتزل في بيته إلي أن قضي في صدفة عاثرة. عالمان ومنفيان، رغم اختلاف المنفي، وعالمان وبطولتان تحتفي بهما الحقيقة وأنصار العلم والعقل الرشيد، ولا تحتاجان إلي "سوق" القنوات الفضائية المشغولة بالتجارة والتضليل . جمع نصر بين العلم وربط العلم بالشأن العام، الذي يبيّن أن "المصارف الإسلامية" تطبق قواعد المال مستثمرة نفط الإسلام وهالة المقدس.
اختار نصر اختصاصا معرفياً، وساءل علاقاته رفضاً وقبولاً، مبرهناً أن العقل الفاعل يعيد ترتيب الحقل المعرفي الذي انتسب إليه. لكنه ، وبسبب نزاهته المعرفية، أصبح مثقفاً نقدياً، لا بمعني إجادة الكتابة والتلفظ بمصطلحات مختصة ، بل بمعني آخر أكثر عمقاً وأبعد نفاذاً: مواجهة الباطل بالحق ، والمألوف بغير المألوف، ومواجهة البداهة بالنقد والجديد ، ومواجهة السلطة التلفيقية التي تصالح في ممارساتها بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف ، محولة الطرفين معاً إلي أيديولوجيا تبريرية، تعطي شرعية لسلطة فاسدة تابعة فاقدة للشرعية.
عيّنت هذه المواجهات المتعددة نصر حامد أبو زيد مثقفاً حديثاً، ذلك أن معني المثقف تعريفاً، يأتي من مواجهته للسلطات الموروثة المختلفة، ومن جمعه بين الثقافة والشأن العام، بعيداً عن "حسبان المختصين"، الذين واصلوا "كتابة محايدة"، إبّان الهجوم الإسرائيلي علي غزة، وواصلوا "الكتابة الأكاديمية"، حين كانت الطائرات الأمريكية تقصف بغداد، وواصلوا "البحث النظري" حين كانت مصر تقف علي حافة الهاوية، وتابعوا انشغالاتهم "العلمية" حين كان "معذبو الأرض"، ولا يزالون ، يفتشون عن رغيف وقبضة من هواء نقي.
جاء نصر من "معذبو الأرض"، وعاش معهم وقرأ الأسباب التي تنتج عذابهم وتباركه، ناصراً العلم والمعذبين، ومنتسباً إلي نسق من المثقفين الثوار المصريين المتمردين، ليس أولهم عبد الله النديم، وليس آخرهم: جمال حمدان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.