دقيقة هي عبارة نيتشه: "الإنسان، هذا الحيوان المريض"، يستحضرها ديوان عارف حمزة الجديد(الكناري الميت منذ يومين). قلائل من يرتادون هذه العوالم التي يقف حمزة عليها، شاهداً يروي فظائع ما تخيله ورآه، علي الأقل في راهن الشعر السوري. مؤلم هو الخزي الذي يجلّل العبارات ويتوّجها، ومحزن هو الضعف الذي لم يخجل الشاعر، وجارح هو الحرمان الذي يلقيه عارياً أمام عيوننا. فهذه هي سيرتنا المحتملة نتخيلها في حرارة هذا السرد الذي يتوزع صفحات الديوان مكتوباً بلهاث المجلودين، بصبر الذي يتلقي صفير السياط فيستغيث مستنجداً بأمه، ولكأن هذه الاستغاثة هي نسيج القصيدة السري. هذا حقاً ديوانٌ سيرة متخيلة. فيه سرد ينساب سهلاً وعادياً مثل جدول أسود يضم القصائد كلها. نحسب أنفسنا في الجحيم ثم نتفاجأ مثلاً بأننا داخل الغرفة21 في مستشفي عسكري. المقاطع المعتني ببنائها تُوائم الكوابيس، جارحة كرقة المرضي وصفائهم في نقاهتهم. لن تهذب اللغة النقمة والجنونَ وفداحة المرض، وهي باقترابها أو خوضها بقاعاً نائية لن تبرأ إلا مؤقتاً. يرتقي الفن هنا إلي "مرتبة المرض" إذا استعرنا عبارة سيوران، مثل السل القديم الذي يتسوله الابن في بلد غريب حباً بالعائلة. سوف نقرأ هنا شعراً يتنفس ويزحف في أمكنة يهجرها معظمنا، حيث الإهانات التي تشرع الموت أمامنا في كل لحظة، فنتناسي ونغض أبصارنا ولا نلتفت، لأن المكتوب هنا هو ما نرغب دائماً في فراقه لنا، والفراق، بتعبير ايميلي دكنسون، هو كلُّ ما نعرفه عن الجنة وكلُّ ما نحتاجه من الجحيم. أخيراً نقرأ من يكتب بلسان الموتي والقتلي عن عبث الحروب التي لم تشرّف أحداً. المتكلم هو الضحية أو الجثة، ودورها الوحيد الدائم هو أن تموت أو تُقتل، والمهان يعتذر لمن أهانه أو ينتحر أمامه. يمكن قراءة القصائد المؤرخة كاليوميات بسهولة وبساطة غير متوقعتين، تلطّفها العاطفة الصريحة، وليتها، في أمنية فات أوانها، كانت أخفَّ أو أقلَّ في بعض المواضع! كأن نسمع القلب المقدَّد و المطر الذي يبكي في شارع غريب وعصفوراً بريئاً معذباً ولا سيما الذكريات. الواقع أن غزارة عارف حمزة لافتة في دواوين تتلاحق وتتكامل، فهذا هو ديوانه الخامس، لا يتقاطع فيه مع بسام حجار، كما قيل عدة مرات، إلا في كناري العنوان، لأن الأسلوبين متباينان تماماً، وحسبُنا إشارة سريعة إلي اقتضاب بسام حجار وخفوت نبرته. أما عارف فيلتزم دوماً بحدّ من الانضباط، مستخدماً تقنيات مختلفة في الكتابة تحتذي تقطيع الروائيين وكتاب المسرح، مسترسلاً وناشداً خواتيم تفاجئنا، فيستغرقه البوح الحميم وحرارة الانفعالات وانسياب المشاعر المتخففة من البلاغة ما أمكن. لا وعورة في لغته السريالية أحياناً، فالإلحاح الذي انكتبت به القصائد تجعل الشعر محاصراً بأعباء نفسه وبلغته السلسة الطيعة وتحبسه أحياناً داخل ما تبقي من رومانسيته المضمرة؛ وفي أحيان قليلة قد لا يتدارك إلا بمشقة السقوطَ في التأويل والشرح وفيض الرثاء، وقد لا يفلح دائماً في إخفاء الصنعة، ولربما تغيرت انطباعاتنا عنه في قراءات متأنية تالية. قصائد عارف حمزة التفاتات داخل مشهد واسع إلي العذاب الإنساني في أشد حالاته وحدة ومرارة واختناقاً. الكتابة هنا شكلٌ من العطف الذي يلقيه الألم علي قسوة الوجود كله، وسط المتروكين والمهملين والمنسيين والمخذولين والمنتظرين كعشاق مفلسين. والكلمات إذا استعرنا عبارة الشاعر "تماثيل من الدموع". هناك في ثنايا الكتاب جالسون "ليراقبوا الحياة وهي تلاحق الناس بالسياط"، حناجرهم خرساء ونظراتهم مكسورة وحياتهم الرخيصة سُحقت أمامهم. يذهب الشاعر إلي السجناء تحت الأرض حيث الصراصير مسجونة مثلهم تتقاسم الزنزانة معهم، وهم ملفوفون بخشونة البطانيات العسكرية القذرة، ويكتب علي لسان المعذبين بالكهرباء رسائل إلي زوجاتهم وحبيباتهم يحدثهن عن فسحة التنفس وطنين الأذنين وبنفسجات القبور. لقد تخيل الجنود المجانين الذين لا يحبون الحروب في أيلول وتشرين الأول، مقيمين -بصفاتهم لا بأفعالهم- بين الفضلات وبقايا الآخرين ونفايات الأحقاد والضغائن. كلامهم غمغمات، هم المقاتلون المذعورون من غرف التحقيق وقوائم احتياط حرب غامضة. الشاعر هو كلُّ من كتب عنهم، هو المذبوح بموس الحلاق ودمه يبتلع الصور وقفص الكناري الميت والمرآة؛ هو الظبي الذي يطارده أربعة صيادين؛ هو الشقيق المريض والعين التي لا تري؛ هو عين المتكلم ويده التي تتفسّخ نيابة عنه (ويا لغرابة هذا المقطع: "كانت سنوات كافية/ كي تنهي الشبكية عادتها السرية/ في قذف مياهها البيضاء")؛ هو من لا تزال تعذبه الخطوات في الممرات. وعندما نقرؤه نصبح نحن أيضاً كلَّ من كتب عنهم ومن أجلهم. القصيدة في هذا الديوان تنتشر في حيز واسع نشم فيه التفسخ والتحلل والقيح، نشم فيه عطن الحياة نفسها وتعفن أجسادنا، إنها قصيدة وداع مفتوح، قصيدة بقايا أو رفات اللغة التالفة ورفات الكلام حيث الرنين المسموع لعظام الكائنات؛ وهي أيضاً احتجاجُ اليُتم وحقُّ الغضب وغناء الرحمة وغياب الغفران. لقد نجا الشاعر من الأمل، ويئس من الكلمات، فأقفل راجعاً ليودّع أو يتذكر ويري نحيب الأخوات والأرامل وأصحاب العاهات. كلا...هذه ليست قصائد، إنها جراح العار الكبير الذي نسميه حياتنا.