سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالتزامن مع إجازة البنوك وبداية موسم الحج    مصرع أكثر من 29 شخصا وفقد 60 آخرين في فيضانات البرازيل (فيديو)    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    الخضري: البنك الأهلي لم يتعرض للظلم أمام الزمالك.. وإمام عاشور صنع الفارق مع الأهلي    جمال علام: "مفيش أي مشاكل بين حسام حسن وأي لاعب في المنتخب"    "منافسات أوروبية ودوري مصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    كاتبة: تعامل المصريين مع الوباء خالف الواقع.. ورواية "أولاد الناس" تنبأت به    اليونسكو تمنح الصحفيين الفلسطينيين في غزة جائزة حرية الصحافة لعام 2024    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    هل يجوز الظهور بدون حجاب أمام زوج الأخت كونه من المحارم؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    أيمن سلامة ل«الشاهد»: القصف في يونيو 1967 دمر واجهات المستشفى القبطي    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    مصطفى شوبير يتلقى عرضًا مغريًا من الدوري السعودي.. محمد عبدالمنصف يكشف التفاصيل    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    محمد هاني الناظر: «شُفت أبويا في المنام وقال لي أنا في مكان كويس»    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    رسميًّا.. موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    ملف رياضة مصراوي.. هدف زيزو.. هزيمة الأهلي.. ومقاضاة مرتضى منصور    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    الغانم : البيان المصري الكويتي المشترك وضع أسسا للتعاون المستقبلي بين البلدين    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    خالد منتصر منتقدًا حسام موافي بسبب مشهد تقبيل الأيادي: الوسط الطبي في حالة صدمة    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجنون الريحاني.. فتنته

يُمثل كتاب (مع الرُّوَّاد) حلقة مهمة من مجموعة كتب ألَّفها نعمان عاشور عن الأعلام، وتلك الكتب هي: فتيان الحرية، صور من البطولة والأبطال، بطولات مصرية.
ويكاد هذا الكتاب يكون جزءا متممًا لكتابه (المسرح حياتي)؛ إذ إن (مع الرواد) يحمل صورا ومشاهد وأحداثا كثيرة من حياة نعمان عاشور، هذه الصور والمشاهد والأحداث يرسمها عاشور بقلم يشد قارئه من أول كلمة في الكتاب إلي آخر كلمة فيه. يحكي المؤلف عن مشاهد كثيرة من حياته مع خمسة عشر رائدا من رواد حياتنا الأدبية والفكرية والفنية، لكنه قبل أن يبدأ هذه المشاهد يتحدث عن (عصر الندوات الأدبية) ويذكرها ندوة ندوة، وأشهر الذين كانوا يحضرونها. وفائدة هذه الندوات أنها "كونت المنابت الحقيقية للبذور التي انبعث منها الصرح الثقافي لحياتنا الأدبية والفنية والفكرية علي بداية منتصف القرن العشرين". ويخص بالحديث ندوة "قهوة عبد الله" بميدان الجيزة التي أصبحت "المزار الدائم الذي يتردد عليه وكأنها السينما". وقد "كونت هذه الندوة جزءا كبيرًا من تاريخ حياتنا الثقافية المعاصرة".
ويتحدث نعمان عاشور عن (تلاحم الأجيال الأدبية)، ويري أن الفجوة بين الأجيال تقع مسئوليتها علي الجيل المقبل وليس علي الجيل المرتحل. ويري أن تصبح (الصلة الإنتاجية) هي الأساس، أي أن ما يصدر عن الجيل المرتحل من أعمال أدبية وفنية يجب علي الجيل المقبل استيعاب هذا الإنتاج وهضمه وتفهُّمه ثم استكماله بإنتاج جديد. وبمعنًي آخر: التزوُّد بإنتاج الجيل المرتحل كحصيلة أساسية لما يمكن أن يصدر عن الجيل المقبل من إنتاج.
يبدأ الحديث عن الرواد بالدكتور طه حسين، ويحكي عاشور قصة لقائه به، بعد أن نشر مقالا بعنوان: "اللغة العامية من تاني"، فيفاجأ باتصال الدكتور طه حسين به في جريدة الجمهورية، ويقول له: إنه لا يستطيع أن يغفر له هذا العنوان السخيف وهذا التطاول علي اللغة الفصحي إلي هذا الحد. وفي المساء يقابل عاشور الدكتور طه حسين الذي يقول له: أظنك تحسب أنني لا أعرفك، أنت أصلا لستَ من تلاميذي. فيردُّ نعمان مسرعًا: كلنا تلاميذك يا دكتور، فيقول طه حسين: لا.. لا.. تلاميذي لا يكتبون باللغة العامية أبدا.
ويتذكر نعمان عاشور حين أراد أن يحول من كلية الحقوق إلي كلية الآداب، وكان طه حسين عميد الكلية آنذاك، فيسأله: ماذا قرأت من كتب الأدب؟ فيجيبه بأنه قرأ الأيام، فاستبعدها طه حسين، وهو يردد: والكتب الأخري؟ فقال: مسرحيات شوقي والديوان للعقاد والمازني وأهل الكهف لتوفيق الحكيم، وكل روايات المنفلوطي وجورج زيدان، فهز طه حسين رأسه باسما وهو يقول لمن حوله: يُقبل تحويله فورا.
وينتقل نعمان عاشور إلي المازني، وهو - في رأيه - شخصية مستقلة عن العقاد، يتميز بطاقة إبداعية خلاقة، صاحب أسلوب روائي أكثر منه شاعرا أو كاتب مقال، لكن ظروف حياته وامتهانه للكتابة كحرفة ألزمته أن يهدر سطر، فتجد نفسك في حاجة إلي أن تعيد ما قرأته من جديد لأنك لم تشبع منه بعد..
وحين يقابله ذات يوم يقول له: يا أستاذي، إنما يسعدني أن أقول في يوم من الأيام: إنني جالستُ المازني وتحادثتُ إليه وعرفتُه. فيقول المازني: لا، لن تعرفني، أنا نفسي لا أكاد أعرف نفسي، وأنا أفضِّل لو ظلتْ معرفتك بي قاصرة علي ما أكتبه.
أما الرائد الثالث فهو الشاعر إبراهيم ناجي، يقول عنه نعمان عاشور: "فتنتني الأطلال وفتحتْ مغاليق حسي وتذوقي علي شاعرية ناجي فانفرد بين كافة معاصريه بإعجابي". ويري عاشور أن ناجي من ذلك النوع الذي تستطيع أن تكون صديقا عزيزا له من أول دقيقة. وكان ناجي كلما رأي امرأة وقع في حبها؛ فالحب عنده - كما كان يقول كامل الشناوي - وألمع شعرائنا الرومانتيكيين المحدثين وأستاذهم جميعا.
ويأتي الرائد الرابع، وهو عباس محمود العقاد، ويذكر عاشور أنه كان يحفظ مقال العقاد اليومي في جريدة (البلاغ) في الثلاثينيات، وكان يحفظ كتاباته عن ظهر قلب، فقد سحره العقاد بأسلوبه لسنوات عديدة، ثم بدأ يزهد في قراءته بسبب تطور تكوينه الفكري الذي بدأ يتناقض مع ما يكتبه. ويذكر عاشور أن العقاد (ظاهرة) في حياتنا الثقافية ورائد من الرواد الكبار. ويحكي عن (جريمة نقد العقاد)، فحين صدر للعقاد كتيب عن (برنارد شو) - وكان الهدف من نشره مهاجمة الاشتراكيين من خلال المسرح الأيرلندي - نقده عاشور باتزان ودقة مع استنكار أن يصدر مثل هذا الكتاب الساذج عن كاتب في قامة العقاد، فثار العقاد واتهم الأدباء القائمين علي مجلة (الأديب المصري) - التي نُشر فيها النقد - بأنهم من "العيال الذين يلعبون في أوساخهم. وقابل عاشور العقادَ قدَرًا في مكتبة الأنجلو، فقال العقاد له: "الميزة الوحيدة في الكلام الذي كتبته أنك كنت مهذبًا، لكن هذا لا يشفع لك تطاولك، أنت تعرف برنارد شو أكثر مني؟!".
مبكر أدي إلي وفاته وهو لا يتجاوز الثامنة والخمسين. "لقد كان مندور من أثبت من حملوا القلم دفاعا عن الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والقيم الأدبية والفنية الجادة القائمة علي الالتزام برسالة الأدب والفن والفكر كأعظم المقومات للإنسان العربي".
ينتقل عاشور إلي ذكرياته عن سلامة موسي، ويذكر أن السبب في معاناته ليس لأنه كان ينتمي إلي الأقباط، وإنما الصحيح أن آراءه واتجاهاته كانت تجنح في معظمها للتطرف الجارف والخروج عن المألوف، من ذلك إغراقه في الدعوة إلي (الفرعونية) ثم مناداته بكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية ونظراته المتحررة في معالجة الجنس. لكن عاشور يسجل لسلامة موسي بعض الدعوات المقبولة التي كان له شرف المبادرة في المناداة بها، من ذلك مناداته بحتمية نشر الصناعة، والاهتمام بالتربية المنزلية، والتركيز علي رعاية الطفولة. وكان يغلي حماسًا لكل ما يؤمن به، بالغ الطيبة، ينبض تواضعا ورقة وبساطة، قليل الكلف بلذائذ الحياة ومتعها، لا يُعني كثيرا بمظهره.
أما جورج أبيض، فيقول عنه عاشور: "أضخم وأثبت شخصية عرفها تاريخ مسرحنا الجاد منذ بداية القرن". وحين التقي به قال له: "يا جورج بك، سعادتك تاريخ وأنت الأصل والأساس، ولولا وجودك لفقد المسرح جديته". وفي لقاء آخر قال له: "تجربتك يا جورج بك أهم مما يمكن أن يكتبه أي ناقد أو مؤرخ، فأنت أصلب وأثبت من تمسكوا بالمسرح الجاد، ولا أعني بذلك التراجيديا وحدها، أو استعمال اللغة العربية الفصحي". وكان مما قاله جورج أبيض في هذا اللقاء: "إن المسرح أكبر بكثير من أنه دارٌ للتسلية، من حيث إنه يجمع كل الفنون ويجمع كل الأذواق، المسرح فيه فن كبير، ولا بد أن يكون له رسالة". وحين مات جورج أبيض أبَّنه عاشور بكلمة قال فيها: "وفاة جورج أبيض تعني انهيار أكبر صرح في بناء مسرحنا المعاصر".
ينتقل عاشور إلي الحديث عن رائد مسرحي آخر، وهو نجيب الريحاني، وكان عاشور يتردد علي مسرح الريحاني كثيرا في الثلاثينيات حتي أصبح - كما يقول - "مجنون الريحاني". "ومن أنضج مسرحيات الريحاني (حسن ومرقص وكوهين)، وإن كانت أقلها فكاهة؛ لأنها تتصدي لمعالجة قضية حساسة في حياتنا، هي قضية تعايش المسلمين والأقباط واليهود، وهو موضوع من العسير تناوله بأسلوب الفكاهة التي عُرف بها الريحاني". وكان الريحاني _ كما يقول بديع خيري _ شديد الاهتمام بها.. كانت شيئا شخصيًّا بالنسبة له.
وعن مكانة الريحاني في المسرح يقول عاشور: "كان الريحاني من بداية ظهوره صاحب موهبة لا تضارع كممثل كوميدي كبير متفرد وقادر علي كسب الجمهور، وقد استطاع أن يحافظ علي كيان مسرحه حتي نهاية حياته بفضل هذه الموهبة وما كانت تمدُّه به من وعي مكَّنه من التطوُّر بمسرحياته عبر عديد من المراحل التي عاشها المسرح بين مختلِف المسارح الأخري.. تاريخ الريحاني إذن هو هذا الوعي الذي كان يدفع بالكثيرين إلي اعتباره فيلسوفا، وليس مجرد ممثل لا قرين له في روعة وصدق الأداء الكوميدي".
ويأتي محمود تيمور رائدا من الرواد الذين أثروا حياتنا الأدبية والفنية. "لم يحترف تيمور الكتابة ولكنه كان يعيش علي حب الأدب وإنتاجه وتأليف الكتب وطبعها وإهدائها". "كان تيمور عاشقا للأدب، وقد وهب له حياته الطويلة". "وكان قدرته الفائقة علي إلقاء الشعر. وكان مستمعوه يؤكدون ميلاد شاعر جديد سيخلف شوقي إن لم يَفُقْه. كان محمود حسن إسماعيل يفخر دائما بأنه فلاح وصعيدي. وكان من أكثر الشعراء حفظا لأشعارهم. وعن مكانته الشعرية يقول عاشور: "ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت إن محمود حسن إسماعيل يعتبر - بعد شوقي - طفرة بارزة في شعرنا الحديث، وهو التمهيد الأكيد بل الأصيل لكافة فروع الشعر الحديث التي امتدت عندنا من بعده".
أما ذكريات عاشور عن شاعر العامية الكبير بيرم التونسي فيذكر أن بيرم كان يكتب في أي مكان يهبط عليه فيه الوحي، وكان يقول: "لما تواتيني زنقة الإلهام فقل علي الدنيا السلام". وكان حين يشرع في كتابة الأعمال الفنية الكبيرة يحتشد لها بكل المهيئات الممكنة التي تتيح له التفرغ والانقطاع والعزلة عن الناس. وكان يحب دائمًا أن يكتب بالقلم الرصاص. وكان لا يقبل أبدًا أن يعبث أحدٌ بكلماته فيما عدا الشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم، ولا تُستبدل أي كلمة إلا بعد موافقته، وهو الذي يختار بديلها وينتقيه بنفسه.
مدينة ميت غمر، وهي المدينة نفسها التي ينتمي إليها عاشور. والخجل هو السمة الغالبة علي شخصية السحرتي. وعاش السحرتي عزبا إلي نهاية عمره. وقد وهب نفسه كليةً لهوايته الأدبية والفنية وأخذ لنفسه من البداية دور راعي الأجيال الأدبية، فكان همزة الوصل بين الأجيال. ولم تكن هناك ندوة أدبية تخلو من وجوده. وأنشأ السحرتي أكبر تجمع أدبي وشعري عرفته حياتنا الأدبية، وهو (رابطة الأدب الحديث)، التي وهبها كل عمره وماله وفكره. كان كل همه اكتشاف الشعراء الجدد والأدباء الشبان. وكان الموت عنده هو أبشع ما في الحياة. لقد بقي لنا من ذكري السحرتي أنقي وأعظم وأبقي القيم، الصدق والطهارة والتضحية والصفاء والتواضع والبساطة والزهد والإخلاص والاعتزاز بالكرامة وكل ما أصبحنا نفتقده من قيم ومُثل في حياتنا الحاضرة التي تساوت في بشاعتها مع بشاعة الموت.
أما زكريا الحجاوي فيُشبِّهه عاشور بميدان الجيزة، فهو مليء مثله بالتجاعيد والنتوءات والتضاريس الجسمية المتعددة، ثم إنه كميدان الجيزة أيضا حيث كانت تنصب فيه وفي شخصيته العديد من التيارات الفكرية، تماما كما تنصب من ميدان الجيزة مختلف الشوارع التي تؤدي إلي الخروج من القاهرة أو الدخول إليها. كان الحجاوي صاحب مدرسة تضم العديد من الأتباع والأشياع والمريدين. وكان من أبرع المتحدثين، وله باع طويل علي الكلام التلقائي. وكان يصك بعض العبارات والتركيبات اللفظية العجيبة، من ذلك كتابه عن (سيد درويش) الذي سماه (دكتوراه من الله)، ويعني به أن سيد درويش كان صاحب موهبة موسيقية تعادل الدكتوراه، ولكنه حصل عليها من السماء، ولم يحصل عليها من الجامعة، ذلك أنه لم يكن يحترم الدراسة الجامعية. وتحول الحجاوي بكُليته إلي الاهتمام بالفنون الشعبية والفلكلوريات.
ويتحدث عاشور عن الشاعر نجيب سرور الذي يصفه عاشور قائلا: "كان تلقائيا مندفعا صريحا صراحة مباغتة، لا يعرف كيف يكتم عواطفه أو يتحكم في آرائه،.. لكنه كان يتحلي بالطيبة المتناهية التي تجعله يضحك لمن يعاديه ثم يندفع ليقبله ويصالحه كأن شيئا لم يكن". كان نجيب قارئا نهما شديد التمسك بالقيم الأدبية. وإذا اقتنع بشيء فإنه علي استعداد للدفاع عنه حتي الموت. وكان شديد الإيمان بالحرية. وفيه ما يسميه محمود حسن إسماعيل بشموخ الشاعرية. وكان يردد بإصرار: "أنا أكتب من دمي.. أنا أسفح دمي كل يوم علي الورق إلي أن يفرغ مني الدم".
ويأتي الشاعر صلاح عبد الصبور آخر الرواد، وهو في رأي عاشور "شاعر متميز الإنتاج، ترك بصمات لا تمحي علي مسار الشعر العربي المعاصر". وكان يميل إلي الانفراد والعزلة والتأمل والعيش مع شياطين الشعر. وكان له مجال واسع في الكتابة النثرية، لكنه كان يقول دائما: "أنا لا أجد نفسي إلا في الشعر". وحين أتيح له خدمة الحياة الثقافية من خلال رئاسته لهيئة الكتاب، ما كاد يبدأ المسير حتي سقط فمات ميتته المفاجئة المفجعة.
وأخيرا فإن هذا الكتاب يدلنا علي أن مؤلفه كان رائدا مثل هؤلاء الرواد الذي قص علينا طرفا من أخباره معهم.
ينتقل عاشور إلي الحديث عن الشاعر والناقد الكبير مصطفي عبد اللطيف السحرتي الذي كان له الفضل في هواية عاشور للأدب وحبه للقراءة. فقد كان السحرتي من لا يقصد الكتابة بالعامية لِذاتها، وإنما لدواعي الصدق الفني". و"كان من أهم هوايات تيمور اكتشاف المواهب الأدبية". وكان تيمور "يمتاز بالبساطة والتواضع والرقة". كان محمود تيمور "يمثل هو وشقيقه محمد تيمور ووالده أحمد باشا تيمور الصورة المثالية التي لم ولن تتكرر لأصفي وأنقي ما كان يميز الأرستقراطيات القديمة في تعلقها بالأدب ورعايتها للفنون كأبقي الموروثات الحضارية علي مر العصور".
أما الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل فيذكر عاشور أنه برز أول ما برز شاعرا سياسيا، وكانت الميزة الكبري لمحمود حسن إسماعيل - إلي جانب موهبته الشعرية - هي
ويأتي الدكتور محمد مندور رائدا خامسا، ويعده عاشور صديقا أكثر منه أستاذا، كان مندور يحب المناقشة وكثرة الحوار. يتحدث عاشور عن كتاب (الشعر المهموس) لمندور، وعن زهده في الحياة الأكاديمية الجامعية واشتغاله بالحياة العامة والكتابة الصحفية، وعن قيادة مندور لجناح اليسار في الأربعينيات، وعنايته بالنقد المسرحي، ويذكر قول مندور له: "إن النقد الحقيقي فن خالص، ولذلك لا بد للناقد أن يكون صادقا، لأن النقد خلق مكمِّل للإبداع الفني". كان مندور يعيش من قلمه، ولعل هذا كان السبب فيما أصابه من إرهاق مثل "قزقزة اللب"، والشرط الوحيد أن تكون المرأة جميلة وأن يكون جمالها موحيًا بالشعر. وكانت لناجي ندوة في عيادته، وكان يعالج أغلب مرضاه مجانا. ويري عاشور أن ناجي أبرز طاقاته الخلاقة في بيع الكلمة لضمان القوت المتصل. وهذه جناية كبري لا يدركها إلا من عمل في الكتابة اليومية المتصلة لكسب المعاش وتغطية نفقات الحياة. والمازني - في رأي عاشور - صاحب أسلوب فني بديهي يستحيل أن يخرج إلا من قلمه، ومن المستحيل أن يقلده فيه أحد، تقرأه فتشعر وكأنك تأكل ما يشبه البسكويت، شهي المذاق لذيذ الطعم، تتمني ألا تنتهي صفحاته لأنه خال من كل العثرات، نبراته مختلفة متعددة الألوان، لكنه ينساب في نغمة متكاملة تأخذك إلي آخر كلمة في آخر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.