فضاء ميدان التحرير الرحيب.. تحول بعد ثورة 52 يناير إلي أكبر ساحة مزدحمة في العالم، وأصبح رمزا للثورة والحرية، ومقصدا يحج إليه عشاقهما والحالمون بهما، وأمست الكتل المليونية المتلاحمة فيه من البشر تعبيرا عن بعث أمة وإرادة حرية وكرامة وعدالة، ليس للمصريين وحدهم، بل لكل أمم الارض، واستحال العلم المصري الذي ملأ سماء الميدان ورفرف بأعداد لا تحصي فوق رؤوس الملايين مثل طيور ملونة أو رايات مهيبة تودع أرواح الشهداء المحلقة فوق الميدان.. فلا غرو أن بات هذا العلم أيقونة عالمية! امتلأت قاعات المعارض بالقاهرة خلال شهري مارس وأبريل- الخاصة منها قبل الحكومية - بعشرات المعارض الجديدة حول الثورة وأكثرها يعتمد علي الصور الفوتوغرافية، كلقطات لا ينقصها الإبداع، وهي تفيض بالحيوية وتحمل رؤي نابضة بالصدق والتعبير، وأقلها أعمال تشكيلية جديدة للفنانين، تتراوح بين التسجيل المباشر للأحداث وبين التعبير غير المباشر عن الثورة، وقلة العدد هنا أمر طبيعي تماما بالنسبة لما تحتاجه عملية الاختمار الفني من وقت، فما زال الوقت مبكرا علي خروج الرؤي الجديدة التي لاينتهي تأثيرها بانتهاء المناسبة، بل تتوحد روح الفنان مع المعاني المطلقة للثورة ومعاني المقاومة والاستشهاد. فالإبداع لا يأتي عبر البصر أو العقل أو المهارة فحسب، بل يأتي عبر الشريان التاجي الواصل بين قلب الفنان وجوهر الحالات والمعاني الإنسانية، لهذا فإن هذا الإبداع حين يخرج يأتي كالولادة الطبيعية بلا عسر ولا افتعال، وليس من الضروري أن يشبه المولود صورة الواقع، بل الأصح أن نقول إنه يشبه الصورة الداخلية لأبيه الفنان، تلك التي يمتزج فيها الواقع بالحلم، والحقيقة بالخيال. ومع ذلك شاهدت خلال الأسابيع الماضية معرضين بالقاهرة لفنانين: أحدهما مصري والثاني إسباني، حاولا فيهما تحقيق حالة إبداعية تتجاوز المنظور البصري إلي المنظور المفاهيمي، هما الفنان ثروت البحر، الذي احتلت لوحاته دورين من قاعة قصر الفنون بالأوبرا، والفنان خفيير بويجمارتي، الذي يقيم في الفيوم متنقلا بينها وبين إسبانيا، ويقام المعرض بقاعة مشربية، وهي مصادفة جميلة أن يتزامن العرضان« لنري كيف تفاعل كل منهما مع الثورة والإنسان: من الداخل ومن الخارج. الوطن.. حالات هذا هو عنوان معرض ثروت البحر، وتمثل نصف عدد لوحاته أعمال زيتية من مراحل مختلفة عبر مسيرته الفنية، وقد رأي أنها تعبر بطريقة خاصة - مع اختلاف الزمان والمكان - عن حالات سياسية أو فكرية أو مزاجية، ومن منظور التعرية لأوضاع تبدأ من الانفتاح الاستهلاكي وتصل إلي التبعية السياسية، مستعيرا رمز زجاجة الكوكاكولا.. أو من منظور الهوية الوطنية والتحدي الحضاري، مستعيرا رموزا مثل الهرم والمومياء، ورحلة »البحر« كمبدع أو كناشط ثقافي تؤكد التزامه بقضايا الوطن والحرية وتستلهم رموز التاريخ والتراث، وقد أراه مبالغا حين أدخل بعض لوحات المناظر الطبيعية في المعرض تحت نفس العنوان »الوطن حالات«، كأنما يسبغ علي الطبيعة حالاته الذاتية وهي تمتزج بحالات الوطن، وان كنت أري أن هذه المناظر تعرض الآن في غير مكانها أو زمانها، ربما أراد الفنان بعرضها زيادة العدد! أما المجموعة الجديدة - حوالي عشر لوحات - فقد أنجزت هذا العام بأسلوب »الكولاج« في أغلبها، واستخدم الكمبيوتر في بعضها، لقد استقطع من أكوام الصحف والمجلات والمطبوعات الصادرة بعد 52 يناير آلاف المشاهد والوجوه وألصقها متجاورة في رهافة - بعد عملية اختيار ذكية - علي مسطح اللوحة المربعة، بانيا بها - كقطع الأحجار - معمارا متينا أو نسيجا واحدا شديد التماسك والتباين... إنه يؤسس الهيكل العام أو التصميم البنائي للوحة بمنطق المصور بالألوان الزيتية كما اعتاد من قبل، ثم يعمل علي ملء التصميم بالقصاصات الملونة بأسلوب أقرب إلي تجاور قطع الفسيفساء، ويلعب بعنصر الملمس (النعومة والخشونة)، مستخدما كذلك قصاصات ورقية توحي بذلك الملمس، كما يلعب بعنصر الإيقاع، بين العلو والهبوط والسرعة والبطء، من خلال التباين اللوني بين الساخن والبارد والغامق والفاتح.. وهكذا تتحول القصاصات الورقية إلي لمسات فرشاة رقيقة أو عنيفة، هادئة أو صاخبة، ويقودها الفنان كالعازف الماهر لتحقيق الحالة التعبيرية التي يريدها. وأظن أن النموذج الأكثر توفيقا بين لوحاته العشر هو لوحة »الهرم الأكبر«، وعند قمته هالة مشعة بما توحي به من دلالات رمزية ومن بهاء نوراني يليق بالشهداء الذين تتكون منهم أحجار الهرم! قطع الاتصال هذا عنوان معرض الفنان بويجمارتي، ويضم مجموعة كبيرة من اللوحات صغيرة الحجم بألوان أقرب إلي »الجواش«، ويبدو أن هذا الموضوع يمثل مشروعا متكاملا بالنسبة له، قد يكون قد بدأه قبل الثورة ثم استكمله بعد قيامها ومعايشته لأجوائها، حيث يقوم علي فكرة قطع التواصل الانساني والعاطفي بين البشر، وربما يعني تجسيد العجز عن أن يسمع أحدنا الآخر.. حتي العاشقين اللذين لاتفصل بينهما إلا مسافة قصيرة يناجي كل منهما حبيبه من خلال بوق كبير لكنه يبدو وكأنه لايسمعه!.. ويأخذنا الفنان في رحلة طويلة من خلال العديد من اللوحات التي تؤكد هذا الانقطاع، كما تؤكد - في نفس الوقت - الرغبة الشديدة في التواصل، لكن لعل أسباب الأزمة تنبع من داخلهما اكثر من خارجهما، لأن الجميع يصيحون في الأبواق دون أن يحاولوا سماع ما يقوله الآخرون! غير ان عددا آخر من اللوحات يشير إلي أن سبب الانقطاع يأتي من الخارج واستخدم الفنان فيها رمز عمود التليفون في الزمن العتيق، حيث تصطف فوق عوارض الأعمدة الخشبية أواني بيضاء من الخزف الصيني لتكون الوسيط بين اسلاك التليفون في المسافات بين العمود والآخر، لكننا نري الاسلاك كلها وقد تمزقت وتهدلت أسفل العمود، بما يعني قطع الاتصال، ويزيد الاحساس بالوحشة والقطيعة وجود كميات من الأسلاك الشائكة في خلفية اللوحة ملتفة حول بعضها البعض ثم تأتي المجموعة الجديدة من لوحاته بعنصر مختلف بدلا من الأشخاص الذين يتبادلون حوار الطرشان، حيث نري شخصا كالشبح يعتلي قمة العمود رافعا علم مصر وملوحا بيده الأخري... إنه نفس الشخص الذي طالما رأيناه في ميدان التحرير فوق أعمدة الإضاءة وفوق التماثيل الشاهقة وحتي فوق أبراج الكهرباء، مرددا الهتافات ومطالبا بإسقاط النظام، ورغم أن الفنان لم يصور زحام الميدان أو اشخاصا بتواصل معهم هذا الشخص رافع العلم، فإنه يشعرك بأنه ليس وحده، فكأنك تسمع هدير المتظاهرين الذين يتواصل معهم خارج الكادر! جعل بويجماتي من رافع العلم أيقونة للمشاركة الانسانية، ولعله حل من خلالها معضلة انقطاع التواصل، التي تعد معضلة الحضارة الغربية، ولأنه من غير المنطقي أو المنتظر منه أن يشاركنا كأجنبي في الثورة ضد النظام، فيبدو أنه صنع ثورته الخاصة ضد انفصال العلاقات الانسانية بين البشر.. لكن علي الطريقة المصرية!.. ومن يدري.. فلعله استلهم هذه الفكرة يوم قام النظام بقطع الاتصالات التليفونية علي مستوي مصر، حتي يمنع التواصل بين ثوار الميدان والدنيا كلها!