سعر الذهب اليوم السبت في مصر يهبط مع بداية التعاملات    انخفاض أسعار الدواجن اليوم السبت في الأسواق (موقع رسمي)    مياه الشرب بالجيزة: عودة المياه تدريجيا لمركز الصف    رئيس جهاز مدينة العبور يتابع سير العمل بمشروعات الطرق والمحاور ورفع الكفاءة والتطوير    محطة جديدة لتنقية مياه الشرب في 6 أكتوبر بطاقه 600 ألف متر (تفاصيل)    232 يوما من العدوان.. استشهاد عدد من الفلسطينيين جراء القصف المتواصل للاحتلال    الفصائل الفلسطينية تطالب بتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية    أمين عام الناتو: مساعدة الصين لروسيا أمر مفصلي في حرب أوكرانيا    إحداها مجانية.. موعد مباراة الأهلي والترجي التونسي والقنوات الناقلة بنهائي دوري الأبطال    نهائي دوري أبطال إفريقيا.. الملايين تنتظر الأهلي والترجي    انطلاق امتحانات الدبلومات الفنية بجنوب سيناء داخل 14 لجنة    محمد فهيم يشيد بفوز فيلم رفعت عيني للسما بجائزة العين الذهبية في مهرجان كان: الله أكبر على الجمال    الليلة.. مهرجان كان السينمائي يسدل ستار نسخته ال77    تضم 8 تخصصات.. قافلة طبية لذوي الاحتياجات الخاصة بشمال سيناء    صباحك أوروبي.. عهد جديد لصلاح.. صفقات "فليك" لبرشلونة.. وغموض موقف مبابي    الصين تعلن انتهاء مناوراتها العسكرية حول تايوان    الأرصاد: طقس حار نهارا على الوجه البحرى.. والعظمى بالقاهرة 33 درجة    إصابة 25 شخصا فى حادث انقلاب سيارة ربع نقل على طريق بنى سويف الفيوم    باحث: قرارات «العدل الدولية» أكدت عزلة إسرائيل القانونية بسبب جرائمها في غزة    في "يوم إفريقيا".. سويلم: حريصون على تعزيز التعاون مع كل الدول الإفريقية    أبرز تصريحات شيماء سيف في برنامج "كلام الناس"    مصدر أمني: بدء اختبارات القبول للدفعة العاشرة من معاوني الأمن للذكور فقط    نصائح الدكتور شريف مختار للوقاية من أمراض القلب في مصر    وزير الصحة يشهد توقيع بروتوكول تعاون في مجال التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. السبت 25 مايو    مباريات اليوم السبت في الدوري المصري والقنوات الناقلة    Genesis Neolun| الكهربائية الفاخرة.. مفهوم يعبر عن الرفاهية    غضب جديد داخل غرفة ملابس الزمالك بسبب شيكابالا وشرط وحيد للتوقيع مع ديانج    «دكّ معاقل الاحتلال».. فصائل عراقية تعلن قصف «أهداف حيوية» في إيلات بإسرائيل    عيد الأضحى 2024 الأحد أم الاثنين؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    ليست الفضيحة الأولى.. «الشاباك» الإسرائيلي أخطأ مرتين في نشر صورة إعلامي مصري    شاهد عيان يروى تفاصيل انهيار عقار الباب الجديد بالإسكندرية (فيديو)    حظك اليوم| برج القوس 25 مايو.. تأثير في الحياة العاطفية والاجتماعية    أنا متزوجة ووقعت في ذنب كبير.. متصلة تفاجئ أمين الفتوى    مصرع طفل صدمته سيارة مسرعة في الخصوص بالقليوبية    ملف مصراوي.. خطة كولر لنهائي أفريقيا.. وتحذير الترجي لجماهيره    أنهى حياة 3 سيدات.. القبض على "سفاح التجمع"    أول لقاح للهربس متاح في مصر| تفاصيل    الصحة العالمية: تسليم شحنة من أحدث لقاح للملاريا إلى أفريقيا الوسطى    استعلم الآن.. رابط نتيجة الصف الخامس الابتدائي 2024 الترم الثاني بالاسم والرقم القومي    ضبط 2 طن أغذية مجهولة المصدر وتحرير 90 محضرا تموينيا بجنوب سيناء    ميلان يختتم مشواره فى الدوري الإيطالي أمام ساليرنيتانا الليلة    حلقة أحمد العوضى مع عمرو الليثى على قناة الحياة تتصدر ترند تويتر    وزيرة الثقافة تهنئ فريق عمل رفعت عينى للسماء ببعد فوزه بالعين الذهبية فى مهرجان كان    وليد جاب الله ل"الشاهد": الحرب تخلق رواجًا اقتصاديًا لشركات السلاح    المدارس المصرية اليابانية تعلن بدء التواصل مع أولياء الأمور لتحديد موعد المقابلات الشخصية    احذروا كتائب السوشيال.. محمد الصاوي يوجه رسالة لجمهوره    «بيعاني نفسيا».. تعليق ناري من إسماعيل يوسف على تصريحات الشناوي    عمرو أديب عن نهائي دوري أبطال إفريقيا: عاوزين الأهلي يكمل دستة الجاتوه    تعرف على أدوار القديس فرنسيس في الرهبانيات    تعرف على سعر السكر والأرز والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 25 مايو 2024    تكوين: لن نخوض مناظرات عقائدية تخص أي ديانة فهذا ليس في صميم أهدافنا    أعضاء القافلة الدعوية بالفيوم يؤكدون: أعمال الحج مبنية على حسن الاتباع وعلى الحاج أن يتعلم أحكامه قبل السفر    الوضع الكارثى بكليات الحقوق «2»    المفتي يرد على مزاعم عدم وجود شواهد أثرية تؤكد وجود الرسل    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نيجاتيف
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 04 - 2011

ربما كانت جملة إلهام سيف النصر، القابعة في نهاية كتابه »سجن أبوزعبل«(11)، حقيقية بشكل ما، وربما ابتعد عن الصواب من لم يجعلها ديدنه! فهو يري أن أشكال التعذيب وأهدافها كافة ، كذلك نفسيات السجانين وشخصياتهم، تكون دائما متشابهة من معسكرات النازي إلي معسكرات اليابان إلي معسكرات »بابا دوبولوس« في اليونان!.
إذا الأمر ينسحب الي هنا أيضا، الي فراغ الأمن 1، منذ بداية الاعتقالات في النصف الثاني من السبعينيات وحتي يومنا هذا.
المشهد ذاته يتكرر مرارا، كما يقول الهام سيف النصر، لكن بتغيرات طفيفة:
غرفة رمادية يتوسد بلاطها معتقل ملطخ بالدماء.
غرفة تسبح فيها الدماء علي الأرض، بركة مختلطة بالصديد والماء يسكب مرارا علي شاب غيبه التعذيب عن الوعي.
معتقلون مرميون في الكوريدورات وما تزال جروحهم تنزف، يتنقل السجانون والمحققون والجلادون علي أرجلهم وأيديهم وأجزائهم المنهكة.
الكراسي الألمانية(21) هنا وهناك وفي كل مكان..
الطميشات الكتيمة بألوانها القاتمة معلقة علي الجدران.
رائحة دم متخثر، أنات مكبوتة، صراخ، وصياح المحققين.
هذا هو فرع الأمن 1 باختصار.
الكثيرون يرون التعذيب مجرد وسيلة للحط من النوع الانساني، أي تحويل الانسان الي مجرد كائن مقهور بلا أي اعتبار ذاتي أو كرامة، بالتالي تصبح غريزة البقاء، ليس إلا، المحرك الأساسي لوجوده.
في يوم من أيام 7891 عرّيت احدي المعتقلات الشيوعيات بثيابها الداخلية فيما كانت تضرب بالكرباج أمام الملازم، وتضرب بعيون الجلادين التي تلتهمها شبقة متشهية لعريها.
وقت انتهي التعذيب ورميت الصبية في غرفة السجان وليس في الزنزانة كما هي العادة، كانت الذريعة عدم وجود أماكن في الزنازين، ولربما كانت ذريعة مقبولة وسط هيجان الاعتقالات ذاك الزمن.
أحست وسط ظلمة الليل بحركة السجان في الغرفة، كان المبني خاليا من العناصر كما بدا لها، حفيف حركته يقترب منها، ثم أمسك بيدها، وهو يوميء لها بالسكوت، قبل أن يحاول جسده الاطباق عليها.
علي الرغم من أنها لم تكن تقوي علي إصدار نأمة، فجسدها منهد تحت وقع الألم والتعب، حاولت الصبية الهروب منه في أرجاء الغرفة الضيقة جارة جسدها كخرقة. وحين حشرها بين جسده والجدار ما كان منها إلا أن بدأت بالصراخ.
صرخت وصرخت.
حتي التأمت مجموعة من السجانة المناوبين في الغرفة وأبعدوه عنها.
لكن تلك المعتقلة قررت ألا تصمت.
في اليوم التالي اشتكت للملازم الآخر. ومساء، وقت طلبت من جديد إلي التحقيق، عمل الملازم الأول علي تعريتها كما الأمس قائلا وعيناه تتوعدان:
- حتي لا تعيديها وتشتكي مرة أخري.
الشيء اللافت، الذي لا يحدث إلا في تلك الأقبية، أن المعذبين كانوا ضباطا في معظم الأوقات، ضباطا وليسوا جلادين!
أما أساليب التعذيب فقد كانت كثيرة ومبتكرة:
وضعت الأوراق بين أصابع سحر.ب(31)، أشعلوها مستمتعين بصراخها وبرائحة جلدها المحروق.
بقية البنات، في دفعة اعتقالات 7891، عذبن بالكهرباء وبالدولاب. حميدة.ت(41) مثلا وضعت في الدولاب دون أن يلبسوها البنطلون علي الرغم من صراخها طويلا. في نهاية التعذيب تركت حميدة مرمية، وهي ما تزال مضغوطة بالدولاب، فيما السجان يقهقه شامتا: لقد رأيت كلوتك.. لونه أبيض.
ثمة طريقة مبتكرة عذبت بها حميدة أيضا ومعها غرناطة.ج(51) تتلخص في وضع الرأس في أداة الفلقة، عوضا عن وضع القدمين فيها، يرفع السجانون الأداة والمعتقلة فيها مما يؤدي الي انضغاط رقبتها بين حبلي الفلقة حتي توشك أن تختنق. يحتقن وجهها حتي يزرق، وتبدأ الحشرجات بالتصاعد.
حينها فحسب يرمونها أرضا وهي في أنفاسها الأخيرة.
ربما كانت ماهية التعذيب تتلخص في اعادة السجين/ السجينة إلي مركباتهما الأولية، مركبات الانسان البدئية والفطرية، ليحوله/ يحولها الي رجل/ امرأة كهف عاريين الا من ورقة الشجر، ان وجدت.
عاريين في مواجهة قوي الطبيعة الغاشمة والمبهمة تماما علي تفسيراتهما البدائية والقاصرة.
تتبدي الصورة كما يلي: معتقل/ معتقلة أعزل تماما إلا من ذاكرة أضحت وبالا عليه، ذاكرة هي المبرر الوحيد لكل هذا الجحيم الملقي فيه.
معتقل/ معتقلة أعزل في وجه التعذيب والقهر والخوف الطبيعي والغريزي من الموت..
اذا عمل التعذيب هنا علي الغريزة.. غريزة البقاء فحسب.
ربما كان ذاك الضابط الوسيم يعبث بتلك الغريزة أيضا وقت غادر مكتبه، بعيونه الخضراء وقامته السامقة، ليضرب فتاة ملقاة علي أرض غرفته بالكرباج.
ضربها وضربها حتي بدأ باللهاث والتصبب عرقا، حينئذ رمي الكرباج من يده، تركها تئن بآخر طاقتها علي الأنين ليعود الي مكتبه هادئا كأن شيئا لم يكن.
علي مكتبه كانت تصطف: علبة تقليم الأظافر، كأس الويسكي والثلج بدأ بالذوبان فيه، وزجاجة العطر.
يرتشف رشفة من الكأس، يمضمض بها وهو يبتسم ساخرا رامقا الفتاة بغواية، ثم يزدرد الطعم اللاذع والممتع، يبخ من زجاجة العطر ويتنسم رائحتها تزكم أنف الصبية المرمية أرضا علي الرغم من أن رائحة الدم والقيح تفغم الفراغ المحيط.
أخيرا يخرج الضابط بهدوء سيجارة من باكيت المارلبورو، يدفعها من بعيد، من خلف مكتبه، مومئا للصبية التي راحت تراه غائما من خلف حجب تنسدل علي عينيها شيئا فشيئا..
تشربين سيجارة؟!!.
بالنسبة إلي سناء.ح(61) كان الدولاب أول شيء ينتظرها في فراغ الأمن 1 قبل التحقيق، وقبل أن تسأل أي سؤال!
ربما لأنها من أوائل المعتقلات في حملة الاعتقالات الواسعة في 7891، حملة عملت ذات صباح علي اعتقالها في أحد أحياء العاصمة ونقلها مسحوبة من شعرها إلي سيارات الأمن ومن ثم الي مقر الفرع.
كان ثمة أمر حدث قبلا ربما استفزهم، لم ينسوه ألبتة وأرادوا الانتقام. كانت سناء قد استطاعت الهرب من عناصر الأمن قبل سنة، أي في حملة اعتقالات 6891 (حملة اعتقالات اللجان الشعبية)، حين دوهم بيت جميل.ح(71) وألقي القبض علي مجموعة من الشباب المجتمعين فيه، فيما هربت سناء مدعية أنها ابنة للجيران.
الاستقبال الأول: أمسكني الضابط من شعري، وطفق يضرب رأسي بالجدران بهيستيرية.
كنت أتطوح بين يديه كدمية قماشية، الجدران الصلدة تتلقي هشاشة رأسي قاسية كما هي دوما.
أحس بأن دماغي سيتطاير إثر كل ضربة.
قبل أن يضيّع رأسي علي الضابط متعة التعذيب ألقاني أرضا، ليجعل الساعات المبهمة القادمة تنقضي وصدمات الكهرباء المتتالية علي يدي ورجلي تجعلني أحس جسدي بكليته يرتفع ثم يخبط علي الأرض فجأة، وروحي تصعد معه وتهبط آنة علي قساوة البلاط.
نهاية اقترب مدير السجن، الذي أشرف علي تعذيبي بنفسه، وراح يتمشي بتشف علي ساقي المشلولتين تماما.
رحت أصرخ بما تبقي لي من قوة علي الصراخ وهو يفرك حذاءه علي ركبتي كأنه يمعس صرصورا، أو كأنه يحاول هرس العظام القابعة تحت الجلد.
كنت أحس بأن العظام تنهرس حقا.
- عاهرة.. حقيرة..
صاح في أذني.
لكني لم أستطع السكوت حينها وهو يرمي بسيل الشتائم، وحين رحت أرد عليها بشتائم مماثلة أقحم حذاءه في فمي وهو يعاود شتمي بالأقذع، ويعاود التعذيب بشكل أشد.
مرت شهور طويلة ولم ينته تعذيب سناء.
كلما أتت دفعة من المعتقلين أو المعتقلات الجدد يعاودون التحقيق معها، استجوابها من جديد، ومن ثم تعذيبها..
تعذيب.. تعذيب..
الأيام المتطاولة تلك جعلت طبيب الفرع يضطر إلي اعطائها علبة مهديء كي تستطيع النوم، وعلبة ليبراكس كي تكف معدتها، الملتهبة بشدة، عن قييء وتشنج أضحي لا يحتمل.
في اليوم الرابع للاعتقال استيقظت سناء.ح صباحا، كان جسدها منهكا منهكا حد التلاشي.
الزنزانة خالية الا من رائحة عفونة، أصوات السجانة الصباحية، بطانية عسكرية، وعلبة بلاستيكية مدورة كانت فيما مضي علبة للحلاوة.
جاء موعد اخراجها الي التواليتات. لم تدر سناء لم قامت بملء علبة الحلاوة حتي حافتها بالماء! عادت الي الزنزانة بأناة وهي تحاول ألا تسكب أية قطرة منها علي أرض الكوريدور.
الي المنفردة قفلت وهي تفكر أنها ستساق الآن إلي التعذيب كما كل الأيام السابقة. التعذيب صباحا ومساء.
يريدونني أن أسلم أكرم.ب(81).. من أين أعرف أين هو أكرم؟!!!
همست سناء إلي نفسها.
أحست بأنها متعبة للغاية، بأنها لا تمتلك أية طاقة علي التحمل وهي في بئر عميقة وداكنة علي شكل منفردة، وبأن لا نهاية لكل ذلك.. لا نهاية.
فقدت الرغبة في مراقبة الانعكاسات علي بقعة الماء التي دأبت علي سكبها وراء باب منفردتها رفم 01، تلك البقعة كانت كمرآة تعكس صورة القادم من الكوريدور المواجه وذلك عبر الفراغ المتشكل أسفل الباب المرتفع عن الأرض.
سناء كانت أول من يلمح أي قادم جديد أو نزيل للمنفردات في مرآتها المائية العاكسة، لتهمس إلي المنفردات المجاورة بالحدث الطاريء.
لكن سطوة علبة المهديء وعلبة الليبراكس، الموضوعتين الي جانب البطانية، كانت هي السيدة لحظتئذ.
سطوة تناديها للانصياع.
أصوات التعذيب تتناهي اليها من غرف التحقيق في الطابق العلوي.
كمسيرة، قيض لها ذلك، أفرغت سناء حبوب الدواء كلها في فمها، شربت بعدها كل الماء الموجود في علبة الحلاوة.
بداية أحسست بالخدر يتسلل إلي جسدي.
كان باب المنفردة يفتح، شبح السجان يقف بالباب ويريد أن يأخذني الي التحقيق. الصورة راحت تغيم أمامي:
- يريدونك فوق.
همس السجان. ربما أحس بسحنتي الغريبة عيني الغائمتين. لم أستطع القيام، أجابته واهنة وبصوت مبحوح:
- شربت كل الحبوب.. الآن سأرتاح.
كنت أشعر بأني سأرتاح حقا.
انقطعت أنفاس السجان قبل أن يسابق نفسه مهرولا إلي الأعلي. كان يصيح بأن سناء انتحرت، أسمع صدي صوته يتناهي إلي وهو يتردد في الأقبية.
لم تمر دقائق حتي كان مدير السجن بباب المنفردة، لمحته كشبح قبل أن أغيب عن الوعي تماما.
حين استيقظت سناء.ح كانت ممددة علي سرير مستشفي! وثمة دكتور قبالتها يصيح بألم مغطيا عينيه بيديه:
- هؤلاء يهود.. ما الذي فعلوه بجسدك؟! مجرمين سفاحين.
الكدمات الزرقاء القاتمة منتشرة علي جسد سناء، تملؤه كله، ذراعاها وساقاها متفسختان، الجروح عليها متقيحة، ووجهها متورم حتي لا تكاد عيناها تظهران فيه.
في ذلك اليوم، بعد غسل معدتها، أعيدت سناء مساء إلي المنفردة.. ولم يقم أحد بتعذيبها!
في صباح اليوم الثاني أخذوني مطمّشة الي غرفة التحقيق.
وصلوا أشرطة الكهرباء إلي معظم مناطق جسدي: الي معصمي وذراعي، الي رسغي وذراعي، ثم إلي بطني ليبدأ التعذيب. لدهشتي، بعد أقل من خمس دقائق، سمعت صوت وشوشات وهمسات في الغرفة ثم فجأة توقف التعذيب، وخرج الجميع.
علي الرغم من الطميشة، تغطي عيني بالكامل، إلا أني أحسست بعدم وجود أحد حولي. كان الصمت قد خيم علي المكان!
ما في حدا هون؟!!
صحت. لكن أحدا لم يجب!
زحفت إلي الحائط، حاولت أن أنزع الطميشة بحفها به، خدش سطحه الخشن خدي ووجنتي، لكني أخيرا نجحت في نزعها.
كانت الغرفة فارغة تماما!
من الخارج استطعت أن أسمع ضجة عناصر الأمن وهم يمرون في الكوريدور، وتعرفت علي صوت أكرم.ب.
إذا لقد ألقوا القبض عليه.
بعد أكثر من ربع ساعة، وأنا منسية في الغرفة، رحت أضرب علي الحائط بكلتا يدي، أصيح، أزعق، حتي أتي عنصر وأنزلني إلي المنفردة من دون الطميشة للمرة الأولي.
لأول مرة أري الممرات، الكوريدورات، ومتاهات الفرع وأنا أعود الي منفردتي.
أحس بالأمر ككابوس.
لم أعرف كيف أتي أول الليل وعادوا لاستدعائي مجددا.
مدير السجن ومجموعة من الضباط مجتمعون في غرفة. من تحت الطميشة استطعت أن ألمح وجيه.غ (زوربا)(91) ملقي علي وجهه يئن، جسده مثخن بالجروح المفتوحة، الدماء تغطيه، وتنسكب منه الي الأرض في بقعة كبيرة تنتشر حوله.
كان يبدو في النزع الأخير..
لن أنسي هيئة زوربا ما حييت. ذاك الألم يسكن أناته لن يغيب أبدا عن ذاكرتي.. لن يغيب.
المنفردات المقابلة والمجاورة لمنفردة سناء غصت أيضا بالكثير من المعتقلات السياسيات.
احداها كانت منفردة رقم 9، حيث كانت لينا.و، وأنطويت.ل(02) محشورتين في منفردة تضيق بمعتقلة واحدة.
لطالما تهامستا في نهاية الليل مع المنفردة المقابلة رقم 01، منفردة سناء.
- أتعرفين.. عالم المنفردات هو عالم الأقدام والشحاحيط.
همست لينا لرفيقتها وهي جاثية كالعادة علي ركبتيها، تسترق النظر من تحت باب المنفردة الحديدي.
الوقت يمر، ولينا تقضيه منبطحة تراقب، من خلال السنتيمترات القليلة الفاصلة بين الباب والأرض، أقدام المارة في كوريدور الفرع، أقدام السجانة والمعتقلين علّها تلتقط هوية أحدهم.
المنفردة تلك ضمت لينا وأنطوانيت لأكثر من 33 يوما، نامتا فيها (عقب ورأس)، كل منهما تحتضن أقدام الأخري. علي الرغم من ذلك كان الوضع في المنفردة أكثر رأفة من وجود لينا قبلا، ولمدة 21 يوما، في غرفة في الطابق الأرضي، طابق التعذيب والتحقيق.
هناك كانت تشعر أنها في مسلخ حقيقي:
أصوات التعذيب من حولها ترتفع ليل نهار، الصراخ والأنين ورائحة صديد تحاصر روحها وهي تقضي الوقت مستيقظة تحاول، كمازوخية، معرفة الشباب والبنات من أصواتهم، فيما تتوالي جلسات التعذيب علي الدولاب والكهرباء والكرسي و.. تتوالي وتتوالي.
في ليلة من تلك الليالي سمعت لينا أحد السجانة، أثناء نوبة حراسته الليلة، يغني بلسان أحد المسجونين أغنية سميح شقير:
هي يا سجانة!! هي يا عتم الزنزانة..
كان صوته يتهدج وهو يئن:
لو ما أمي تركتا بعيد..
ولو ما اشتقت لضيعتنا..
ثم صمت.
لأول مرة تحس لينا بأن للسجان مشاعر تختنق بروائح الفرع، أذنين تتهالكان من أنات الألم وصراخ التعذيب، وأن له أحبة يحتاج إلي قلبه ليحبهم.
لأول مرة تكتشف لينا أن للسجان قلبا:
ذات يوم، في وقت ما بين وجبة الصباح والظهر، دفع أحد العناصر الباب بغتة بحركة منتصرة. كانوا ثلاثة، عيونهم تنضح بشذرات الشماتة ونظرات الفرح.
اعتقلوا أحد رفاقنا.
فكرت.
ربما خطرت الفكرة ذاتها لرفيقتي أنطوانيت. لكنهم لم ينبسوا بحرف، أخذوني فحسب معهم، طمشوني، شدوني إلي فوق، وراحوا يجرجرونني علي السلم باتجاه غرف التحقيق.
كان جسدي يرتطم بكل درجة من الدرجات الحجرية التي بدت لي أنها لن تنتهي.
هناك، في غرفة التحقيق الكبيرة، نزعوا الطميشة عن عيني.
كان أكثر من خمسة عشر ضابطا متحلقين حول رجل جاث علي ركبتيه في الوسط. رحت أقترب من الحلقة ودفشاتهم في ظهري تقربني أكثر.
الأجساد تبتعد عن الوسط، وأنا أتبين الصورة أوضح فأوضح:
الرجل مدمّي..
يداه مربوطتان الي الوراء
يتضح الانهاك الشديد من التعذيب عليه..
أضحيت، وبدفشة واحدة في ظهري، وجها لوجه معه.. كان عدنان.م(12).. زوجي.
لم أجد نفسي الا وأنا منهارة علي ركبتي أمامه، زحفت لأضمه، لأضم رجلا مدمي من المفترض أن يكون زوجي، لكن العناصر شدوني بعيدا فيما كان عدنان يصيح:
- لا تخافي لينا.. ما بيخوفو.. لا تخافي.
لبطوه علي عينه.
صرت أسمع صوت صراخه وركلاتهم علي جسده وهم يشدونني خارجا علي الرغم من صراخي الذي صم مبني الفرع برمته.
في المنفردة كان وضع لينا شبيها بوصف كولن ولسن لأسلوب النازية الألمانية، فرض نظاما أسموه: لم يعد إنسانا.
لا يجد الانسان نفسه، بالتعذيب والقهر المتواصل، الا وهو يتراجع عن انسانيته حتي حيوانيته.
كان علي عدنان في الأعلي، ولينا في الأسفل، أن يتبعا ما سبق وأسميته غريزة البقاء، أي أن يفكر بالبقاء فحسب. دون أية تبعات انسانية جانبية وثانوية في ذلك الوقت.
كان عليهما أن يجاهدا للعيش.
تركوها طيلة الليل لتسمع أصوات تعذيبه التي تصلها بوضوح شديد، تجلدها، تلذعها، تطبق الخناق علي صدرها، وتحاول أن تنتزع نفسها الأخير.
طيلة الليل بقيت لينا متقوقعة علي نفسها في الزنزانة بلا حراك.
بعد أيام قليلة نقلت وأنطونيت إلي المهجع رقم 6 دون أن تعرفا ماذا حل بعدنان، ومن ثم نقلتا من جديد إلي المزدوجات(22).
هناك كان ينتظرهما، كما كل المعتقلات، ما لم يتوقعنه.
التعذيب قد يؤدي أيضا إلي الجنون..
فكرة أضحت ثابتة في ذهن معتقلات فرع الأمن 1.
كيف سيستطعن جميعهن، حتي بعد سنوات من الافراج عنهن، محود مجد.أ(22) من الذاكرة؟!
كانت مجد فتاة طويلة ممتلئة اعتقلت بعد أن تم اعتقال معظم الفتيات من حزبها الشيوعي. إلا أن شيئا وحيدا ظلت مجد.أ تتذكره هو التعذيب، التعذيب بالكهرباء فحسب!
في الفترة الأولي ظلت ساهية، لاهية عما حولها، متوحدة مع نفسها والورق الذي كان يأتي إما تهريبا من بعض السجانة المتعاطفين أو من الورق الأسمر يلفون به باكيتات الدخان.
مجد والورق وقلم الرصاص.
كأنها كانت تكتب الناس، تستعيض بالكتابة عن علاقتها بالمعتقلات في الزنزانة، عن علاقتها بالعالم الخارجي البعيد.
قد تمر ساعات طويلة متواصلة ومجد منكبة علي الورق تكتب!
فجأة بدأت حالات الهيستيريا تأتيها متباعدة: نوبات طويلة من الصراخ المبهم والتشنجات العنيفة في يديها ورجليها.
النوبة قد تمتد أحيانا أربع ساعات أوأكثر في مكان ضيق كالزنازين محشور بعشرات الأجساد المتململة.
ساعات من العواء حتي يبح صوتها، ومن ثم تمهد تماما.. لتمتد ساعات أخري من الموات، موات حقيقي بلا حس أو حركة!
ثم تصحو.. وتعود الي الكتابة.
تلك الحالة، حالة مجد المؤلمة، قد تعيد الي الذاكرة ما كتبته فيليسيا لانجر يوما، وهي صاحبة الكتاب الشهير: بأم عيني(42).
كان هناك الكثير من حالات التعذيب للمعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية. قاد التعذيب الكثير منهم الي الموت أو الجنون أو العاهات الدائمة. من الأمثلة كان اسم سالم جاد عيد يلوح دوما: أصيب بالجنون بسبب التعذيب، وظل سنوات طويلة في مستشفي الأمراض العقلية. وقاسم أبوعكرة توفي بسبب التعذيب أيضا.. وحالات كثيرة أخري.
لكن التوتر انتقل بسبب حالة مجد.أ الي كل الفتيات في المزدوجات. الحالة تتطور من سييء الي أسوأ، خاصة حينما أخذت مجد، بعد طول مطالبات، الي المستشفي للعلاج حيث كانت الصدمات الكهربائية هي العلاج الوحيد!
أعطيت الصدمات العلاجية لمجد بطريقة التعذيب نفسها! تدهورت حالتها أكثر فأكثر، وهذه المرة فقدت النطق والقدرة علي المشي. ثم أعيدت الي المزدوجات نحيلة بشكل فظيع، لكنها، هذه المرة، بكماء وتزحف.
بدا الأمر أشد سوءا مماسبق، ومجد تشحط جسدها كل صباح الي الحمام محاولة تهدئة نفسها، تفتح الدش البارد عليها، وتشهق متكومة كقطة تحت وابل الماء المثلج.
ثم بدأت محاولاتها لابتلاع لسانها! خصوصا في لحظات الهيستيريا. لذا كان علي الصبايا القريبات منها، اللواتي يعتنين بها بشكل مباشر: سونا.س(52) وحميدة.ت وأنطوانيت.ل، أن يدأبن، كعادة يومية، علي دس أصابعهن في فمها، أو وضع ملعقة فيه ليمنعنها من ابتلاع لسانها بالفعل في احدي حالات هيجانها.
أحيانا كان السجان أحمد يعمل علي مداعبة الفتيات في المزدوجات بمزحاته الثقيلة: يطفيء اللمبة الشاحبة في أعلي السقيفة المطلة علي المزدوجات بشبك حديدي مما يشيع عتمة طاغية مرهبة، إذا وضعت احداهن اصبعها أمام عينها لن تستطيع رؤيتها، ثم يعود ليشعل الضوء من جديد، ومن ثم يطفئه، فيشعله.. وهكذا.
الضوء يومض وقهقاته تضج في الكوريدور!
تنتهي المزحة بنوبة هيستيريا شديدة تجتاح مجد، وحالة شقيقة مجنونة تمسك برأس لينا.و.
مع الزمن، تحت تأثير الحالة، راحت أنطوانيت.ل، وكانت علي تماس دائم مع مجد، تعاني من نوبات اختناق شديدة تمسك برقبتها وتمنعها من التنفس، يضطر السجانة علي اثرها الي اخراجها لمدة ما خارج الزنازين كي تعاود قدرتها علي التنفس.
طفقت التشنجات تغزو يدي سونا.س بسبب ملازمتها الدائمة أيضا لمجد. تلك التشنجات امتلكت فكيها أيضا، وحالة الكزاز المزمن راحت تمنعها من الكلام بطلاقة، وأحيانا تمنعها تماما من الكلام.
ليأتي يوم تخربت فيه حبالها الصوتية وجعلت صوتها أبح حتي اليوم.
الوحيدة التي صمدت كانت حميدة.ت وإلي وقت ليس بطويل فقد جاء الأمر بإطلاق سراح مجد.أ للعلاج في الخارج.
لم تجد المعتقلات، وطيلة فترة مرض مجد، بدا من بعث رسائل استغاثة إلي الخارج كي يعرفن ما الذي يمكن أن يعملنه. رسائل كتبنها علي ورق سجائر الحمراء(62)، ثم استطاعت المعتقلات اخراجها بالتهرب من فرع الأمن 1، وذلك أثناء احدي الزيارات النادرة لاحداهن.
كان ذلك في أواسط سنة 0991:
(بدأت حالة مجد في المنفردة بعد الاعتقال والتعذيب علي شكل نوبة واحدة تاريخ 9/21/98 صراخ شديد وبكاء سبقها ألم في الدماغ شديد جدا وشعور قبل خمس ساعات من النوبة بشخصية أخري بداخلها. تنكمش علي نفسها مطبقة رأسها الي رجليها وانتهت النوبة بإبرة فوستان.
في تاريخ 61/1/0991 بدأت الحالة من جديد بنوبة شديدة جدا.. ضحك وبكاء مع هيجان عصبي واضطراب في التنفس. بقيت 3 ساعات ثم نقلت الي المشفي.
استمرت النوبات 51 يوما بشكل يومي. نوبات صراخ وبكاء.
انقطعت لتعود بتسارع - شعورها بشخصية أخري وانكماش وألم شديد في الدماغ.
النوبات الآن شديدة جدا قد تستمر لساعتين أو أكثر مع صراخ وبكاء وهيجان عصبي شديد جدا وتشنجات في الساقين واليدين اللسان والفك وبالعيون.
ترافق النوبات التي قد تستمر لساعات حالات كآبة، استفزاز من أقل حركة، كره شديد للذات، شعور بالذل شديد، وحزن شديد(72).
في جانب آخر، ربما في زمن آخر، كانت تجربة مغايرة تتشكل..
علي الرغم من أن أغلب المعتقلات الاسلاميات كن رهائن عن أزواجهن، أو أولادهن، أو حتي أقاربهن، إلا أن التعذيب الشديد، الانتهاكات، والمعاملة المتميزة بقسوتها جعلت معظمهن يخرجن محطمات!.
أجبرت الكثير من الاسلاميات علي التعري بلباسهن الداخلي فحسب. يتم احضار السجانين كي يتفرجوا عليهن وهن عاريات، يسمعوهن الكلمات البذيئة التي يتفنن عناصر الأمن والجلادون في اختراعها.
احدي الحاجات أجبرت علي التعري، وأدخلوا أخاها ليراها وهي علي تلك الحال. يقال إن الأخ خر مغشيا عليه.
علي الفور.
- الحرق بالسجائر في كافة أنحاء الجسد.
- ..
- الكهرباء علي الحلمات، علي الأيدي والأرجل، والمناطق الحساسة.. أساليب أخري كثيرة.
همست الحاجة بصوت خفيض.
- هل هناك أساليب أخري؟!
- التعليق لساعات طويلة، ورش الملح مع الماء علي أرض المنفردات بعد الضرب المبرح علي باطن الأرجل واجبارهن علي الوقوف حافيات.. هذا غير الضرب بالخيزرانة والعصي والدولاب.. وغير التحرش الذي قد يصل الي الاغتصاب.
- هل وصل الأمر الي الاغتصاب؟
- نعم.. احدي المعتقلات، كنت أعرفها صبية جميلة من مدينة الشمال، في العشرينات من عمرها، كنت تدرس الأدب العربي قبل أن تسجن، تعرضت للاغتصاب في أوائل الثمانينيات وظلت تسعة شهور بعد الاعتداء عليها شبه فاقدة الوعي، تستيقظ لتمشي كالهائمة في المهجع وهي عارية، وأحيانا تسرح مشعثة ومهملة كالمجانين.
- كنت معها في المهجع؟
- كنت معها.
- ....!!
- تستيقظ ليلا وهي تصرخ، ثم تدخل في نوبة من البكاء العالي.. نوبة قد لا تنتهي حتي الصباح.
سكتت الحاجة وسهمت بعيدا وهي تدس طرف حجابها الأبيض في ياقة البلوزة القطنية.
أتت ليلة واستطاعت بعض المعتقلات أن يهربن رسالة طويلة إلي الخارج. كان الأمر مخاطرة ما بعدها مخاطرة لكن الرسالة خرجت بسلام(82).
كتبت كالآتي تماما:
(كم رسالة كتبناها. كتبناها بأناتنا. بدموعنا. بدمنا.. علها تلقي من يسمعها. لم نكن نستطيع ارسال خروف علي ورق فأرسلنا آهات واستصرخنا في دجي الليل، ولكن من يسمعنا في ظلمتنا، ولم يتجاوز صوتنا جدرانا سوداء وقضبانا حديدية.
رحمنا ربنا واستطعنا ارسال هذه السطور نلقي فيها شعاعا يعكس للعالم ما يجري لنا نحن القابعات في أقبية السجون، تنهال علينا ألوان العذاب ليل نهار، ويأتينا الزبانية ثمالي متوحشين.. ليتهم ظلوا يعذبوننا كما بدءوا بالسياط والكهرباء..
ليتهم تركوا أختنا تلفظ أنفاسها بعد ما لاقت من عذاب ولم ينتزعوا منها عفتها.. ولم ينتزعوا منها عفتها..
ليتنا متنا قبل هذا وكنا نسيا منسيا.. قالتها مريم العذراء دون عذاب، دون وحوش بشرية وفي أحشائها روح من ربها..
فماذا نقول نحن؟ بماذا ندعو؟
نستصرخ العالم أن ينقذنا من عذابنا.. ننادي بأعلي أصواتنا. بكل جوارحنا..
كل ذرة فينا تصرخ وتستغيث.. كل قطرة دم..
كل نبضة عرق.. كل نفس يصعد ويهبط..
نصرخ وامعتصماه.. وامعتصماه.. نادت بها امرأة مسلمة واحدة فلبي لها رجال كثر. ونحن هنا مئات من اللواتي يسحقن.. يسحقهن طغاة حاقدون.. مئات يعذبن.. يقتلن في كل لحظة بألف قتلة ولا يمتن..
ألا من معتصم.. ألا من معتصم..
ألا من مسلم ينشر (نساء يسحقن)..
رباه لمن النداء.. طال بنا البقاء.. أيام وشهور وتتلوها شهور ودماء المجرمين تسري في عروق جنين في أحشائنا. ماذا نفعل؟
رباه لم يجبنا أحد فارحمنا. لا نريد منكم أن تنقذونا. لا نريد منكم أن تنقذونا بل هدموا علينا السجون..
أفتونا بقتل أنفسنا.. وقتل ما في بطوننا. فلم نعد نقوي علي ما بنا.
لا ليل يقلنا. ولا نهار ينير ظلمة حياتنا. يا عالم استفق طال بك الرقاد، ونحن لا نعرف الرقاد..
يا عالم استفق..
لك يوم تقف فيه بين يدي الله ليسألك ربك ماذا فعلت؟
ماذا فعلت لمن انتهك عرضها؟
ماذا فعلت لمن فقدت وعيها من صدمات الكهرباء؟
ماذا فعلت لمن علقت من قدميها بعد أن نزع عنها حجابها، وتناثرت عنها الثياب، وضربت بقضيب ثقيل من حديد فأسلمت وعيها لربها؟
لا تعلموا كم من الساعات علي هذه الحال.. ماذا فعلت أيها العالم المسلم وأختك هناك في دولاب طويت فيها تنهال عليها السياط.. تسيل دماؤها.. تتورم خدودها.. تفقد صوابها ولا مغيث.
ماذا فعلت لمن عذبوا زوجها علي مرآها، واستغاثت دماؤه فلم يجب أحد، فانفجرت تبكي علي دمائها؟
ماذا فعلت لمن سيقت إلي المستشفي بين الموت والحياة بعد أن نهب لحمها 62 مفترسا متوحشا؟
ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟
بماذا ستجيب؟ ومن أين لك أن تجيب، وأنت لا تزال في الرقاد.. ألا ياعالم استفيق وانتشلنا من الحريق.. انتشلنا من الغريق.. فلقد جفت العروق ولا نهار ولا شروق في وحشة واد سحيق في ظلمة بحر عميق..
ننادي.. ننادي.. ننادي.. نلتمس الطريق.. هل من بريق.. هل من بريق).
أخواتكم المعذبات في سجون الطاغوت (...).
فصل من الرواية التوثيقية »نجاتيف« .. من ذاكرة المعتقلات السياسيات « للكاتبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.