روي الريدي قصة نشأته وهو يغالب دموعه اعترافا بفضل عائلته عليه، ووقتها تمنيت أن يكتب سيرته كاملة سواء في جانبها الإنساني و العملي، خاصة أنه واحد من أهم رجال الخارجية المصرية، فقد شغل دائما مناصب جعلته قريبا من دائرة اتخاذ القرار، وهو ما يتضح جليا في العديد من المواقف التي يحكيها بهذا الكتاب الهام، الذي اختار فيه مؤلفه أن يكون صريحا وصادقا في تأريخه لمصر منذ حقبة الاربعينيات عندما كان طالبا بمدرسة دمياط: " مضي أغلب عام 1946 في مظاهرات وإضرابات واضطرابات الدراسة، وكلما كانت تحدث مظاهرة في القاهرة، كان عبد القادر خليل- الذي ظهر كزعيم للمدرسة- يدعو إلي الإضراب في مدرسة دمياط، وكنت أذهب مع بعض الزملاء إلي مقهي " العزوني" علي أطراف دمياط، وكان مقهي داخل حديقة تقع علي الترعة الشرقاوية... ونجلس هناك ونتبادل الأحاديث حول حالة مصر والوطن... ثم يذهب كل منا إلي حال سبيله، ولكنني أشتري الصحف والمجلات وخاصة جريدة المصري اليومية الوفدية ومجلة الاثنين التي تصدر عن دار الهلال والمصور، حيث كنت أقرأ كتابات فكري أباظة... أما في المصري فكنت أقرأ الصفحة الأدبية وتعرفت فيها علي كتابها سعد مكاوي وعبد الرحمن الخميسي، والصاغ ثروت عكاشة، وبطبيعة الحال أحمد أبو الفتوح، وبدأت أستمع إلي الراديو، وأحاديث طه حسين، ثم بدأت أقرأ روايات الجيب وأغلبها كانت روايات بوليسية، وبدأت تتكون لي صداقات يجمعنا فيها حب الأدب .. وبدأت آنس في نفسي القدرة علي الكتابة وارتفع مستواي فجأة في كتابة موضوعات الإنشاء، ومنذ هذا العام الذي تفتحت فيه اهتماماتي السياسية والأدبية بدأت أحب المدرسة وأصبح الذهاب إليها متعة أسعي إليها... ونجحت في كل سنوات الدراسة الثانوية بعد ذلك وكان ترتيبي في السنة النهائية الأول علي المدرسة وحصلت علي المجانية طوال دراستي الجامعية". يستمر الريدي علي منهجه طوال الكتاب في سرد الوقائع كما حدثت، ثم بعد ذلك يقول رأيه في الواقعة، أي لا يلغي الحدث لصالح رؤيته، وهو بهذه الطريقة يصبح واحدا من أهم المؤرخين لوقائع كان شاهد عيان عليها، وليس أدل علي ذلك مما ذكره من أنه لم يكن قريبا من الرئيس السادات:" ولكنني كنت قريبا من الأحداث في فترة البحث عن السلام عقب زيارته للقدس، كما كنت قريبا من وزراء خارجية ودبلوماسيين كبار عملوا معه- محمود رياض، الزيات، إسماعيل فهمي، محمد رياض، محمد إبراهيم كامل.. وكنت جزءا من صراع الأفكار بين الرئيس السادات ومؤسسة الخارجية، وفي كل ذلك لم أكتب فقط عن الجانب الدبلوماسي وما دار في حوارات الغرف المغلقة، ولكنني سجلت أيضا المشاعر الإنسانية التي كنا نعيشها وتهزنا في أعماق كياننا.. مثل مشاعر لحظة ركوب الطائرة متجهين لأول مرة لإسرائيل التي عاملناها كدولة عدو لأعوام وأعوام سابقة.. والواقع أن تجربة العمل الدبلوماسي في حقبة الرئيس السادات كانت مشحونة بالمشاعر الإنسانية المتقدة والمعقدة في نفس الوقت، وقد رأيت أن هذه التجربة يجب أن تروي كجزء في تجربة الحقبة الكبيرة الممتدة من مصر عبد الناصر إلي مصر السادات.. بنجاحاتها وإخفاقاتها.. وقد تحدثت عن أحلام جيلي وهي بالطبع أحلامي وكيف أخذتنا أحيانا إلي الذريا وهبطت بنا أحيانا أخري إلي القاع.. ثم كتبت عن تلك الدروس التي ترسبت في الضمير". الكتاب يدور في 23 فصلا، تحمل مزيجا من رحلته السياسية ورحلته الإنسانية، كاشفا عن علاقة مصر بأمريكا، باعتباره شاهد عيان علي مرحلة منها، وكيف اقتربت الأفكار في بعض الأوقات وكيف تباعدت في أوقات أخري، ساردا _أيضا- الدور الذي لعبته الخارجية المصرية برموزها في القضايا المصيرية التي مر بها الوطن، شارحا باستفاضة كيف تم اقصاء وفد الخارجية- الذي كان هو واحدا من أعضائه- عن مفاوضات اتفاقية كامب ديفيد: " باستثناء الأيام التي التقينا فيها مع الجانب الأمريكي... كنا نشعر كوفد الخارجية طوال بقية أيام المؤتمر أننا مغيبون عن حركة المفاوضات التي تجري.. وكان أسامة الباز وحده هو المشارك الحقيقي في المفاوضات سواء فيما يعده من أوراق عمل يطلبها السادات منه، أو النقاش الذي كان يجريه معه الرئيس كارتر الذي عرف منذ البداية أن أسامة هو الذي يقوم بالدور الأكبر في إعداد وصياغة الأوراق والمشروعات التي يتقدم بها الرئيس السادات... فكان يستدعيه من حين لآخر ويستدعي نظيره الإسرائيلي أهارون باراك الذي أصبح فيما بعد رئيس محكمة العدل العليا في إسرائيل... والواقع أن الأزمة التي كان يعيشها وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل والتي دفعته في النهاية إلي الاستقالة في أواخر أيام المؤتمر، انعكست علي دور الوفد المصاحب للرئيس وخاصة علينا أي مجموعة الخارجية، ولقد كان يعز علينا أن نري الوفد الإسرائيلي يجتمع باستمرار مع رئيس الوزراء بيجين وكذلك الحال في الوفد الأمريكي، بينما نحن لا نعرف مما يجري شيئا إلا ما يخبرنا به أسامة أو نعرفه من خلال أحاديث جانبية مع أعضاء الوفد الأمريكي". الكتاب مليء بتفاصيل لأحداث هامة في تاريخ مصر منذ الخمسينيات وحتي انتهاء عمل الريدي بوزارة الخارجية في عام 1992، سفيرا لمصر في أمريكا، وهو العمل الذي بدأه عام 1984 باختيار الرئيس حسني مبارك له ليكون سفيراً لمصر في واشنطن، وذلك بعد شهور من عودته من جنيف، حيث كان مندوب مصر الدائم لدي الأممالمتحدة في جنيف، وقضي هناك ثلاث سنوات، كان قبلها سفيرا في باكستان. الريدي حرص- أيضا- علي سرد ملامح تجربته في العمل المدني عقب عودته من أمريكا، وترؤسه مجلس إدارة مكتبة مبارك، وشغله لما يقرب من ثلاثة أعوام ونصف العام لمجلس أمناء مدينة دمياطالجديدة، وتركه هذا المنصب، لأسباب رواها قائلا: "حدث خلاف بيني وبين المسئولين عن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، الذين أرادوا تخصيص مساحة من دمياطالجديدة تكون مقتصرة علي المستثمرين من إحدي محافظات الدلتا وكان المهندس الكفراوي قد ترك وزارة التعمير، ولم يكن لاعتراضي علي هذا الموضوع أية علاقة باختيار هذه المحافظة تحديدا، فأنا بطبيعة الحال أرحب بأي استثمار يأتي لدمياطالجديدة ولكن اعتراضي كان قائما علي اقتطاع جزء من الأرض وحجبه عن المستثمرين الآخرين من بقية محافظات مصر الأخري مما يعتبر تمييزا بين المواطنين، ولقد رأيت في تخصيص جزء من الأرض لمحافظة بعينها وبشكل حصري مخالفا للدستور الذي يضع كل المصريين علي قدم المساواة وبحيث تكون أفضلية المتقدم للمشروع مبنية علي أساس موضوعي وليس علي أساس الانتماء لمحافظة دون أخري" ويضيف الريدي: " عندما وجدت أن محاولاتي لإيقاف هذا القرار تصطدم ببيروقراطية الحكومة المركزية لم أجد أمامي سوي الاستقالة". هذا موقف من مواقف عديدة للسفير الريدي يرويها في هذا الكتاب الوثيقة، الذي ننشر منه في الصفحات القادمة الجزء الخاص بنشأته وتكوينه.