في 3 يناير الحالي أتم عمي فوزي حبشي سبعة وثمانين عاما جميلة وحافلة بالعطاء الإنساني والوطني . تعرفت إليه _ دون أن أراه _ وأنا صبي في الثالثة عشرة حين كنت أسمع من والدي الحكايات العجيبة عن بطولة فوزي حبشي وصموده الأسطوري تحت التعذيب في معتقل الواحات عام 1959 . في صباي استولت علي خيالي وشكلتني إلي حد كبير تلك الأساطير : الرجال الذين يتحدون كل شيء ، ويواجهون الصعاب من أجل العدالة ، ويضحون في سبيلها بحياتهم وبيوتهم وعائلاتهم ، وتتكسر قضبان السجون والظلمة من حولهم وهم متقدون بالنور . ولم أكن أعلم أنه مقدر لي أن ألتقي بفوزي حبشي وأن أصبح فردا من أسرته الكريمة ، وأن تغدو هذه الأسطورة الحية جزءا من نسيج عمري ، وأن يتحول هو شيئا فشيئا من الباشمهندس فوزي إلي عم فوزي . في صباي أدهشني صموده داخل السجن وفيما بعد أدهشني صموده داخل الحرية . لأن الحرية في أحيان كثيرة تكون اختبارا أشد وطأة ، ومراوغة ، من الأمتار القليلة بين أربعة جدران . في الحبس لا يبقي للناس في معظم الحالات من خيار سوي البطولة ، أما في الحياة فإن عليهم أن يحتشدوا بكل إرادتهم لمقاومة الأموال والمناصب وأشباه المعتقدات والدروب المموهة التي تقودهم بعيدا عن طرق الحقيقة . وفي كتاب صادر عن ميريت سجل فوزي حبشي سيرة حياته كاملة بعنوان " معتقل لكل العصور" قرأته ثم أدركت أن أسطورة فوزي حبشي لم تكن في أنه كان : " معتقلا لكل العصور " بل في أنه كان : " حرا لكل العصور " من دون أن يتخلي عن مبادئه . في عيد ميلاده تحلقنا حوله ، أنا وإخوتي أبناؤه حسام ، وممدوح ، ونجوي ، وأحفاده ، وأطفال أحفاده ، وبيننا جميعا تتحرك بأقداح المشروبات وأطباق الطعام زوجته الجميلة النادرة ثريا شاكر ، وآخرون كثيرون من عائلة حبشي ، وهو بيننا لا تري سوي بسمته ولا تسمع سوي ضحكته المجلجلة ، يتذكر كيف أنقذ مكتبة ابن عمه الدكتور لويس عوض من الضياع ويشير إلي الحائط حيث علق كل الأوسمة التي نالها د. لويس ، ثم ينهض ويتقدم إلي صورة لزوجته داخل إطار ويقول : وضعتها في صدفة التقطتها من الرمال حين كنت معتقلا عام .. عام يا سيدي .. ويتذكر : عام 1948 ! أقول له : حينذاك كنت أنا قد ولدت لتوي ! فيضحك ويربت علي كتفي مندهشا : والله ؟ معقول ياراجل؟.وتجرجرنا أم ممدوح إلي منضدة طويلة عليها طورطة نقف حولها ونهنئه بعيد ميلاده السابع والثمانين، ويطفيء شمعة ، نغني ونتمني له من صميم القلب العمر المديد والصحة والسعادة . أقول له في سري : يا عم فوزي عشت حياة جميلة وصعبة تستحق أن تروي. نعود إلي جلستنا في الصالة ، ويسود صمت للحظة ، ومثل سحابة قاتمة تعبر الأحداث الأخيرة فوق رؤوسنا : ماذا جري في الاسكندرية ؟ من الذي دبر التفجير قبالة كنيسة القديسين ؟ كيف يمكن مواجهة ما وقع ؟ . وأسرح ، أفكر في أن مسئولية الحكومة ووزارة الثقافة ووزارة الإعلام ووزارة التعليم والأزهر واضحة . لماذا لم تنجح تلك الجهات في التصدي للظلام الذي يغمرنا منذ زمن طويل من كل ناحية ؟ مئات الفتاوي تصدر كل يوم بوجوب مقاطعة الأقباط من دون أن يرد الأزهر عليها وهو الجهة المنوط بها ذلك ؟ لماذا لا تعيد وزارة التعليم النظر في المناهج التي لا تلقن التلاميذ سوي الطائفية؟. الأسئلة كثيرة جدا ، لكن الخطر الحقيقي يتمثل في أننا لم نعد نري مخرجا ، أو أن اليأس قد أصابنا من كثرة ما نبهنا دون جدوي ، نشعر في الصمت كأنما ننزلق دون أن نتحكم في سيرنا إلي مايريده بنا الآخرون . يمتد الصمت لحظة أخري نتشبث فيها في خيالنا ببعضنا البعض وبالوطن وبصداقتنا وأخوتنا وبكل الأشياء الجميلة في حياتنا ، ونطفو معا مثل جزيرة علي سطح البحر تسبح وحدها . أقول له : مهما يكن سنبقي معا ياعم فوزي، عيد ميلاد سعيد ، ومئة سنة أخري وبيتك عامر بأنفاس نورا وطارق وماجد وفريد وليلي وميرا وكل من يحبك .