ختمنا المقال السابق بالحديث عن مفردة (الفكر) وانها علي ثلاثة مستويات، مستوي للفكر (العلمي) والمقصود به ذلك الفكر الذي يتابع مفردات الواقع الجزئية التي نعايشها ، مثل: الإنسان- الحيوان- السماء- الأرض- الصوت- الضوء، إلي آخر هذه المفردات، والمستوي الثاني، (العلمي)، وهو المعني برصد قوانين الظواهر الوجودية، فلا يتعامل مع مفردات الإنسان، وانما يتعامل مع قانون الوجود الإنساني، وكذلك الأمر بالنسبة للحيوان والنبات وهكذا، والمستوي الثالث: الفكر (الفلسفي)، ومهمته الارتفاع عن القوانين الجزئية، والصعود إلي القوانين الكلية التي تحكم مجموعة الظواهر، فللكائنات الحية قانونها وللجماد قانونه وهكذا، أما الفكر الديني، فهو الذي يجمع بين النقل والعقل في تنظيم الحياة البشرية وغير البشرية، والربط بينها وبين عالم الغيب وعالم الحضور في ثلاث دوائر: (العقيدة) و(العبادة) و(المعاملات). نلاحظ من كل ارتباط الفكر - عموما- بالواقع المباشر، ليرتفع منه إلي التجريدات الكلية التي تستوعب الفردي والجزئي، والمادي وغير المادي، والحاضر والغائب، معني ذلك أن إهمال الواقع، يحول الفكر (إلي كلام في كلام)، وليس حضور الواقع مقصوراً علي الدنيوي فحسب، بل انه ضرورة في المقدس- ايضاً، إذ يقول الواقع: ان كل محدث لابد له من محدث، ويتم الصعود في هذا الحديث وصولاً إلي الذات الإلهية الواجبة للوجود بلا بداية ولا نهاية. وهذه المستويات الفكرية - وبخاصة في الفكر العربي- مرت بمراحل تطورية، يمكن تلخيصها في ثلاث مراحل، الأولي: مرحلة التأسيس التي جاءت بوادرها في القرن التاسع عشر، ولم تحقق المرحلة كل المرجو منها نتيجة للسيطرة الاستعمارية من ناحية، وغيبة القوي الشعبية الحقيقية من ناحية أخري، لكن أهمية هذه المرحلة، انها كانت تمهيداً للمرحلة التالية التي بدأت في اخريات القرن التاسع عشر، وامتدت الي منتصف القرن العشرين، وفيها أخذت القوي الشعبية تمارس بعض التأثير، وبرغم ان السيطرة الاستعمارية مازالت مسيطرة، فضلا عن دكتاتورية القصر، وقد حاولت القوي الشعبية -بجانب الصفوة- مغالبة هاتين العقبتين، وقدمت نوعا من علامات الطريق لقيام نهضة فكرية حقيقية، تتصدي للهيمنة الخارجية، وتعيد للقوي الشعبية حقها الاصيل في صنع حاضرها ومستقبلها، ثم تأتي المرحلة الثالثة التي نعيشها، وفي تصوري انها مرحلة التخبط الفكري، واختلاط المفاهيم والمقاييس..