لا يختلف مصطلح التجريب في الموسيقي عنه في المسرح أو السينما أو أي منتج فني آخر، فالتجريب هو غزو للمجهول، أي البحث عن غير المألوف حتي يصبح مألوفا عند المتلقي فيخرج من بوتقة التجريب. وبناء علي ذلك نجد أن ما وصلت إليه الموسيقي الآن من آلات، وأنماط موسيقية، وغنائية، كانت جميعها في البداية مجالا للتجريب أخذ يتطور إلي أن وصل لشكله الحالي. فوصول الانسان المتحضر إلي ما يعرف باللغة سبقها تجارب من نظيره البدائي - إخراج أصوات مجردة دالة علي حالات انفعالية مختلفة، حتي وصل بنا الحال إلي ما يعرف بالغناء، وهو التطور الطبيعي للجمع مابين الصوت واللغة. وبالمثل بالنسبة للآلات الموسيقية التي اهتدي إليها انسان الأول من خلال علاقته بالطبيعة والكائنات الحية المختلفة عنه، والتي كان يحاول محاكاة أصواتها، فأخذ يصنع تلك الآلات عن طريق التجريب من خامات متاحة في بيئته المحيطة به، ثم أخذت تلك الآلات الموسيقية البدائية تتطور عبر العصور حتي وصلت إلي ما هي عليه الآن. ولكن مع التغيرات التي تلحق بكل عصر يتغير شكل التجريب برمته، وكذلك في مجال الموسيقي، فبعد أن حفل القرن العشرون بالتطورات التكنولوجية الهائلة كما وكيفا، ظهرت أنماط جديدة من التجارب الموسيقية التي تأكدت مع مرور الوقت ولاقت انتشارا في العالم وأهمها ما يعرف بالموسيقي الالكترونية، وقد ظهر هذا النوع من الموسيقي في العالم منذ أربعينيات القرن الماضي، وكان الموسيقي المصري المهاجر "حليم الضبع" رائدا من رواد هذا النوع من الموسيقي، وكانت أول تجربة أنتجها الضبع في هذا المجال عام 1944 حيث قام بتسجيل بعض الأصوات الحية من جلسات الزار المصري اشتملت علي إيقاعات وأصوات بشرية، ثم عالجها بالهندسة الصوتية آنذاك وحصل علي مجموعة من الأصوات المبتكرة، استخدمها فيما بعد في مؤلفاته الموسيقية ليخرج لنا أول مؤلفة موسيقية إلكترونية. تبعها بعد ذلك تجربة "بيير شافيه" في فرنسا عام 1948 ، ثم الألماني "يمرت". وكانت الموسيقي الكترونية في بادئ الأمر تعتمد علي تصنيع الأصوات فقط من خلال عدة أجهزة هي modules sound) )أي مخازن الأصوات، وهي عبارة عن مكتبة أصوات أما مصنعة (synthesis) والتي تخرج من جهاز (السانثسيذر)، أو أصوات طبيعية (samples) وتخرج من جهاز (السامبلر). ولكن مع التطور التكنولوجي في الربع الأخير من القرن العشرين دخل جهاز الكمبيوتر بكل ما يحمله من تقنيات وبرامج موسيقية حديثة ليكون عنصرا هاما في تصنيع الموسيقي الكترونية. وفي عام 1963 ظهر الموسيقي "فرانك زابا" ومجموعة أخري من بعده ليجعلوا من الموسيقي التجريبية آنذاك موسيقي شعبية، وذلك من خلال إدخال بعض الأصوات والنغمات المبتكرة المعالجة بتقنيات الهندسة الصوتية، مثل تضعيف الأصوات الممزوجة، قلب شريط التسجيل، والعديد من المؤثرات الصوتية الكترونية، في أغنيات الفرق الغنائية الشهيرة آنذاك مثل فرق "ذي بيتش بويز" و "البيتلز"، ولأنها ممزوجة بغناء الفرق الشهيرة استقبلها الجمهور دون أن يلتفت لتقنيات صناعتها. وفي ثمانينيات القرن الماضي أصبح للموسيقي الكترونية جمهور عريض في دول العالم، وبالرغم من أن هذا النوع من الموسيقي دخل مصر في بداية التسعينيات تقريبا إلا أنه لم يلاق استحسان الجمهور لأنه يفتقد الروح التي تبعثها الموسيقي الحية أي التي تعزفها آلات موسيقية حية، ولا تتناسب مع الثقافة السمعية المتراكمة للشعب المصري. أوركسترا الخضار! وبما أن مجال التجريب ليس له نهاية، فكان من الطبيعي أن تظهر تجارب موسيقية حديثة، وأحدث هذه التجارب هي تكوين فرقة موسيقية تعتمد علي الآلات المصنعة من الخضراوات الطازجة، والتي لا يمكن العزف بها أكثر من حفلة واحدة فقط لأن نوعية الصوت الصادر منها يختلف مع ذبول الثمرة. وظهرت فرقة "أوركسترا الخضار" التي تكونت مع بداية الألفية الثالثة من مجموعة موسيقيين من الجنسين في النمسا. و تتكون آلات هذه الفرقة من البطاطا، الخيار، والجزر، الفجل، الخس، والفلفل، وثمرة القرع، والبصل الأخضر. ويقوم كل عازف بتجهيز الآلة التي سيعزف عليها إما بنحتها أو تفريغها أو غيره، اخراج أفضل صوت منها، ثم يلفها بقطعة من القماش المبلل حتي تظل الثمرة محتفظة برطوبتها .