يتزايد باستمرار عدد المثقفين العالميين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية. ومن بينهم الأمريكية جوديث باتلر التي انتقدت بشدة في محاضرتها بالجامعة الأمريكية الثلاثاء الماضي سياسة إسرائيل العنصرية وممارساتها القمعية ضد الفلسطينيين. باتلر شددت علي جدوي المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل وقالت إن هذه الدولة لم تكن أبداً يهودية.. هنا تغطية لمحاضرة باتلر. 1 قبل نصف ساعة من موعد المحاضرة كانت القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية قد امتلأت عن آخرها بقرّاء ومحبي جوديث باتلر التي كانت عالقة وسط زحام القاهرة. أمام العدد الكبير من الحضور الذي فاجأ منظمي المحاضرة، طلبت د.فريال غزول من الجمهور الانتقال إلي قاعة إيوارت الأكبر حجماً. طال الانتظار. جوديث لا تزال عالقة في شوارع القاهرة ساعة الذروة. والجمهور يتزايد بمرور الوقت، محاضرة إدوارد سعيد التذكارية تحوّلت إلي حدث ثقافي سنوي يلتقي فيه الجمهور المصري مع رموز الثقافة والأدب العالميين. ضيفة هذا العام كما أعلنت الجامعة الأمريكية جوديث باتلر أستاذ الأدب المقارن وعنوان محاضرتها "ما الذي سنفعله بلا منفي؟ : محمود درويش وإدوارد سعيد في مواجهة المستقبل" ورغم العنوان والمضمون العربيين للمحاضرة الإنجليزية فقد لفت الانتباه أنّ غالبية الحضور كانوا من الأجانب المقيمين بالقاهرة. 2 أخيراً حضرت جوديث، قدّمتها فريال غزول مشيرة إلي مشروعها الفكري بداية من دراستها في مجال الجندر، وأعمالها التي ساهمت في تغيير وجهة النظر تجاه القضايا النسوية في الثمانييات، ثم موقفها النقدي العنيف تجاه إسرائيل والمشروع الصهيوني. في النهاية صعدت جوديث ببدلة رماديه تتماشي مع لون شعرها الفضي. أخرجت أوراقها لتبدأ المحاضرة بصوت خفيض أخذ يعلو تدريجياً، حيث أشارت باتلر المحاضرة إلي أنها -للأسف- لم تلتق أبداً بإدوارد سعيد وإن كان بينهما تواصل من خلال البريد الإلكتروني لكن في الوقت نفسه ربط بينها وبين إدوارد تفاهم واتفاق عميق حول كيفية النظر للعالم وقضاياه المعاصرة. 3 انقسمت محاضرة جوديث إلي قسمين؛ الأول استعرضت فيها الخلفيات السياسية والتاريخية للمسألة الفلسطينية، مؤكدة علي أن الدولة الإسرائيلية كيان غير قابل للاستمرار إلا بالممارسات غير الشرعية. في المقابل تحافظ فلسطين ككيان وفكرة وهوية علي استمرارها داخل أفرادها رغم كل الممارسات الإسرائيلية لتغييبها، لكن في الوقت نفسه فقد أنتجت الممارسات الإسرائيلية المستمرة من 48 وحتي الآن مشكلة جديدة وهي وضع اللاجئين الفلسطينيين، حيث أصبح أكثر من نصف الشعب الفلسطيني في المنفي موزّعاً بين بقاع الأرض. وأضافت باتلر: "أصبح مصطلح الشعب الفلسطيني لا يعني فقط الفلسطينيين المقيمين داخل الأراضي المحتلة، بل يمتد ليشمل كل المنفيين، وليتحول المنفي إلي جزء ومكون أساسي من مكونات الهوّية الفلسطينية مستشهدة بمقولة محمود درويش "من أنا دون منفي؟".. انتقدت باتلر الموقف المتشدد لإسرائيل إزاء قضية اللاجئين الفلسطينيين، قائلة إنها في الوقت نفسه الذي قامت فيه إسرائيل علي حق عودة اليهود، فإنها ترفض منح نفس الحق للفلسطينيين. وأكدت باتلر أنه ليس من حق أي كيان أن يتذرّع بحجج سياسية للسيطرة علي الحراك الديمغرافي للبشر. وأشارت جوديث ذات الأصل اليهودي إلي القرار الإسرائيلي الأخير القاضي بيهودية دولة إسرائيل مؤكدة علي أنّ إسرائيل لم تكن أبداً دولة يهودية، والقرار الأخير هو استمرار لسياستها العنصرية، والتي يجب أن يقف العالم ضدها مشددة علي ضرورة وفعالية المقاطعة الأكاديمية التي بدأت تنتشر في معظم الجامعات الغربية. 4 في الجزء الثاني من المحاضرة انتقلت جوديث من الحديث السياسي إلي الأدبي، فمن خلال أعمال محمود درويش وسعيد حاولت جوديث رسم بعض الملامح التي توضح طبيعة الشعب الفلسطيني، حيث لم يقدم الإثنان الحل الكامل للمشكلة الفلسطينية لكن كانت لهما نبوءة بأنّ المنفي سيضيف أبعاداً جديدة للقضية والهوية الفلسطينية، واعتمدت جوديث في مداخلتها علي قراءة قصيدة درويش (طباق) والتي كتبها عن إدوارد سعيد بعد وفاته. 5 " وهل خِفْتَ؟ ماذا أخافك؟ -لا أستطيع لقاءَ الخسارة وجهاً لوجهٍ. وقفتُ علي الباب كالمتسوِّل. هل أطلب الإذن من غرباء ينامون فوق سريري أنا... بزيارة نفسي لخمس دقائق؟" تملّك الحماس جوديث وهي تقرأ بالإنجليزية المقطع السابق من قصيدة درويش، حيث يضع صاحب "سرير الغريبة" شعره علي لسان إدوارد سعيد. وأوضحت جوديث من خلال هذا المقطع كيف يتحوّل المنفي إلي جزء أساسي من هوية الفرد الفلسطيني فإدوارد في القصيدة يزور منزله في القدس لكنه مع ذلك يقف علي الباب كمتسوّل: "هو داخل منطقته، أمام بيته، ومع ذلك فالمنفي داخله، سواء كان في الداخل أو الخارج، المنفي أصبح جزءاً منه، مكوناً لامتداده وتصوراته عن هويته الفردية والجمعية".. وأنهت قائلة: "هذا الشعور لا يخص إدوارد سعيد فقط، ففي القصيدة يتبادل درويش الحديث مع سعيد ويضع علي لسانه كلماته وأفكاره، لكن في مرحله من الحوار الشعري لا نميز أيهما صوت سعيد وأيهما صوت درويش، يختلط الصوتان ليصبحا صوتاً جديداً.. صوت المنفي". 6 "والآن, لا تَنْسَ: إن متُّ قبلك أوصيكَ بالمستحيلْ! " لم يسع درويش في رأي باتلر أن يكون الشاعر القومي للقضية الفلسطينية، كان دائماً يحاول الفرار من هذه المهمة، لكنها مهمة لم يكن من السهل الفرار منها. "إن مت قبلك أوصيك بالمستحيل" يقول إدوارد سعيد لدرويش، وتفسر جوديث "المهمة المستحيلة هنا هي المعضلة الفلسطينية التي تتأزم يوماً بعد يوم فالنكبة _استخدمت باتلر اللفظ العربي لا المقابل الإنجليزي- فعل لا يزال مستمراً، كأنما من المستحيل إيقافه." 7 اختتمت جوديث محاضرتها بسؤال تركته مفتوحاً بلا إجابة.. "يقول: أنا من هناك. أنا من هنا ولستُ هناك، ولستُ هنا. لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان... ولي لُغَتان، نسيتُ بأيِّهما كنتَ أحلَمُ،" تقرأ جوديث بالإنجليزية المقطع السابق ثم تتساءل "تري الآن من ينطبق عليه هذا المقطع السابق، هل الفلسطينيين المحاصرين في غزة؟ الفلسطينيين في مخيمات لبنان؟ الفلسطينيين في الشتات؟" تترك جوديث السؤال معلقاً في فضاء قاعة إيوارت تبتسم للجمهور في تتنحي من علي المنصة.