أعتقد أن أهم ما صنعته أمكنة، وما ساعد علي استمرارها، هو استقلالها عن النمط السائد للمجلات التي كانت مطروحة في اللحظة نفسها منذ عشرة سنوات، ولأن المجال الثقافي عندنا هو غالبا مؤلف من شعراء وروائيين (وهي مسألة تستحق النظر)، فقد كانت المجلات السائدة ذات طبيعة أدبية، ومع هذا فقد جاء محررو أمكنة من المجال ذاته، شعراء وفنانون، لكن في لحظة معينة بدا وكأنها مفصلية، بدا وكأن هناك اتفاقا علي الأقل بين مجموعة محددة، أن ثمة مساحة أخري من الكتابة يراد اكتشافها، كان الخراب الواسع لزمن يتحول بسرعة يفرض نوعا مختلفا من الوعي، وربما كان شيء من النضج يقتاد التساؤل إلي مساحة أوسع من أزمات الأدب ومعاركه. هل كان ثمة رغبة في البعد عن التباس السؤال الشعري مثلا، خصوصا وقد بات مسيسا بعد أن تحولت قصيدة النثر إلي مظاهرة أخلاقية بالمعني العميق للكلمة؟ ربما؟ وربما ابتعث سؤالها البريء عن الحياة، فكرة الحياة نفسها ليس في معناها المجرد بل الحادث والكائن علي مسافة اليد. هكذا تجد نفسك في مساحة أوسع، بدلا من أن تتكلم عن حياة اللحظة وإنسانها، تترك لهذا الإنسان وتلك اللحظة أن يتلكما. بدلا من أن تعتمد علي المشهد اليومي ومكانه الملموس لتقول كم أنا طبيعي وغير متفلسف وأعيش كالآخرين! تترك الحديث للمكان الأكثر جدلية وتركيبا من أن يكون شهادة أنانية علي نجاتك ومعافاتك من الأفكار والتداعيات الذاتية، و"الأدلجة" الجمالية إذا صح التعبير. فالحياة تصبح هناك فعلا، وتترك القصيدة مكانها لسرد مكشوف يستعيد الخبرات الخاصة لأناس قد لا يكونون كتابا بالضرورة. ليس المطلوب هنا نص أدبي بل حوار، أو ما يشبه الشهادة، أو تحليل ذو صبغة غير أكاديمية، تلتقي جميعا عند محور أو "ثيمة" يتماس فيه الشخصي بالعام، ومن ثم يفلت من التنظير الجاهز والاستباقي، كما يتمكن من تقديم تفسير غير مباشر للواقع الذي بدا بحاجة ماسة إلي تفسير. كانت فكرة المكان غير مأخوذة في ماديتها فحسب، بل بقدر تداخلها مع خبرات الناس. المكان الطبقي، والمكان التخيلي أيضا. كان ممتعا أثناء قراءة مادة كل عدد قبل المساهمة في إعدادها أن أري اللحظات النادرة التي تتحول فيها الخبرة إلي نموذج، إلي فكرة ملهمة. في البداية كانت هناك أداءات كثيرة للمجلة، وكانت غلبة الطابع السردي لا تمنع من تجاور نصوص مترجمة لمفكرين، أو مقالات أو دراسات قصيرة. لكن ما أحب أن أقوله هو أن المجلة كشفت بالصدفة علي الأقل لي عن طبيعة التحول في الذائقة الثقافية نفسها. فقد كان احتفاء المتلقين بالجانب السردي والحكائي علي حساب الأداءات الأخري، وبتجاهلها أحيانا كاشفا عن التباس بدا صادما بالنسبة لي. لقد ثُمِّنت الخبرة الشخصية في ذاتها، وصارت تشكل، أو يُتعامَل معها باعتبارها نصا أدبيا، دون أن يكون هذا النص معنيا بشروط الأدب، ودون توقف عند مصداقية الخبرة الشخصية ذاتها، وإلي أي مدي يمكن أن تقدم "نموذجا" مفسرا. فالحكاية عن النفس والتجارب الشخصية ليست بريئة دائما، خاصة حين يسد ثغراتها حس جمالي يقفز فوق المفارقات والثغرات، أو يجتهد في البحث عن ما هو مدهش أو يتصور أنه مدهش. فلا تعود الشهادة شهادة علي واقع وحياة معقدة، بل استسلاما لصورة منها. لكن يبدو أن ذوقا عاما، باسم البعد عن "الكلام الكبير" و"التنظير"، فضل أن يستعيد مادة الحياة الغنية والمحرجة بأسئلتها ليضعها عند المربع الأول فيتلقاها باعتبارها حكيا عن الذات، وتكون التجربة الشخصية لأنها شخصية خارج التقييم أو متجاوزة له، لأنها استثنائية. وكأنها كما قلت نص أدبي بغير شروط النص الأدبي. وهكذا كنت أفترض أن تثير أعدادا متوالية من المجلة نقاشات أكثر جدية ومتابعات أكثر عمقا للمادة المنشورة والتي كان يفترض أن تمثل عتبات أولي لتناول قضايا شائكة. المدينة، الصحراء، البطل، الحدود، الفلاح، الجامعة وغيرها، لم تكن محفزات سرد، ولكن نقاط استرشادية لطبيعة سلوكنا، والظروف التي أحاطت بنا، ولم تكن مجرد نوستالجيا مهمتها أن تقدم لنا الصورة التي نحب أن نتحسر عليها، بل أن تكون كاشفة لمواقع أقدامنا بالذات وأولا، للأساطير، للمسرح الذي نحمله علي رؤوسنا متصورين أننا نتحكم بأبطاله ومشاهده. بينما هناك .. في الواقع. في التاريخ.. يمكننا العثور علي نصه الأصلي، الذي تواطأنا علي كتمانه. إما لعجزنا عن الفهم أو قصور أدواتنا. العدد الأخير عن الجامعة يكشف كم كانت الجامعات المصرية في أغلب الأحيان مسرحا سياسيا، أو منتدي للأصدقاء، قليلون جدا من تحدثوا عن جانب الخبرة العلمية التي اكتسبوها وكيف أعادت صياغة وتشكيل حياتهم أو أثرت في طريقة مقاربتهم للواقع حتي السياسي منه؟ نحن لم نتأهل علميا بشكل صحيح، ولعل أحد أهم ما شكلته لي أمكنة هو فكرة العمل الجماعي الذي يتلافي بالجماعية قصور الرؤية المفردة ومحدودية الخبرة والتأهيل. لا أستطيع أن أقدم نصيحة للقارئ وأقول: كيف تقرأ مجلة أمكنة. لكن ربما يتواصل الجهد والدأب واتساع النقاش المتجاوز للنزعة الشفوية يأتي من يضع يده لاستثمار المادة الوفيرة التي تشكل سجلا ليس هينا للحظات تحول هامة، كما تمثل بالقدر نفسه شهادة علي طريقة وعينا بها.