تتبعت الجدل الذي دار علي صفحات (أخبار الأدب) بشأن الحديث الذي أثار فيه علاء الأسواني مجموعة من الآراء الخلافية. وأنا هنا لا أريد الدخول في معمعة هذا الجدل، لأن من حق أي كاتب بقامة علاء الأسواني أن يعبر عن آرائه مهما كانت خلافية. ومن حق أي كاتب آخر أن يرد عليه ما شاءت له نفسه الرد علي أي من آرائه، شريطة أن يقدم الكتّاب، لغيرهم من المواطنين والقراء، نموذجا يحتذي في آداب الحوار واختلاف الآراء. فهذه من مهام الكتّاب الأساسية في بلد يعاني من غياب الحرية، وتقلص مساحات الجدل الديموقراطي الحر إلي أقصي حد. لكنني افتقدت ذلك في الجدل الذي دار علي عددين من صفحات (أخبار الأدب). ولاحظت أن الجدل يتسم بتغليب الشخصي علي الموضوعي، وهو ما وسمه بشيء من الحدة والتجريح الذي راحت ضحيته القضايا التي أثارها المختلفون. كما أنني افتقدت في رد كل رؤوف مسعد ومني برنس تحري الدقة، ووجدت لدي كل منهما نقصا في المعلومات معيبا، أدي إلي ضياع قضيتهما فيما يتعلق بالأدب الفلكلوري خاصة. ولأن تلك القضايا تمس صديقين عزيزين، قررت أن اكتب عنهما دون الدخول في معمعة هذا الجدل الخلافي كما ذكرت. أولهما هو الصديق ريشار جاكمون، المستعرب الفرنسي المرموق، الذي سعي كل من الردين للدفاع عنه، واتسم السعيان بنقص المعلومات كما ذكرت. فلا رءوف مسعد ولا مني برنس عادا إلي الرواية موضوع الاتهام، وهي رواية (الصقار)، إحدي روايات جيل التسعينات الجميلة، التي دارت حولها خلافات شديدة في مصر حين صدورها، وكتبت مدافعا عنها وقتها، ولم يكن لريشار شأن في هذا الخلاف الذي أثارته اسماء مصرية كبيرة ومعروفة مثل جلال امين وفهمي هويدي وغيرهما، أدت إلي سحب هيئة الكتاب للرواية من السوق، والمطالبة برأس كاتبها الموهوب، سمير غريب علي، فاضطر لترك مصر. وكتب بعدها رواية بديعة أخري هي (فرعون) توكد أنه كاتب موهوب بحق جني عليه المناخ الطارد في مصر وشرده. وكان علي ريشار، المهتم بالحراك الثقافي المصري، تغطية الأمر كله في (لوموند)، حيث لاتسحب رواية في مصر من السوق كل يوم ويشرد كاتبها، سواء أكان هذا بسبب من أن له أجندة سياسية كما يدعي علاء الأسواني ومن منا ليست له أجندة سياسية، فالمثقف الذي لا أجندة سياسية له لا يستحق هذا الاسم أو لأنه يسعي لمعرفة الصورة كاملة، وبكل تفاصيلها، كأي باحث جامعي يتحري الدقة وتفرض عليه أمانة البحث أن يلم بأطراف المشهد كاملة. خاصة إذا ما كان منهجه البحثي كما هو الحال مع ريشار هو منهج بيير بورديو في رسم صورة الحقل الثقافي الاجتماعية والسياسية والفكرية كاملة، كي نفهم السياق الذي يدور فيه أي حدث. وأظن أن المثال الذي ضربته مني برنس عن ندوة مارسيليا في دفاعها عنه يؤكد طبيعة هذا المنهج الذي يولي كل اللاعبين في الحقل الثقافي عنايته، مهما كانت الآراء فيهم. والواقع أنني، وقد شاءت مسيرة حياتي العملية أن أعمل لأكثر من ثلاثين عاما أستاذا في عدد من الجامعات الغربية المرموقة بين المستشرقين، وتطلبت مني أن أقرأ أعمالهم بعناية، وأن أحتك بهم، وهو الأمر الذي لا أظن أن أيا من المشاركين في هذا الجدل، سواء من هاجم المستعرب الفرنسي المرموق أو من دافع عنه قد فعله، أزعم أنني أكثر إلماما بخريطة المستشرقين المعاصرة في الغرب. ومن واقع هذه المعرفة أستطيع القول إن ريشار جاكمون هو آخر من يمكن اتهامهم بالغرض من المستشرقين. وهو من المستعربين الفرنسيين القلائل الذي تصدر كتباتهم عن الثقافة العربية عن معرفة حقيقية بها، معرفة غير ناقصة أو مجتزأة أو مغرضة كما هي الحال لدي كثير من المستشرقين الانجليز والأمريكيين خاصة. ولذلك فقد ترجمت أعماله لا إلي اللغة العربية وحدها، وهي المحك، وإنما إلي اللغة الانجليزية التي نادرا ما تترجم لها أعمال استشراقية من لغات أخري، تقديرا لموضوعيتها وجديتها وعمق بصيرتها. راجع بالانجليزية كتابه (ضمير الأمة: الكتاب والدولة والمجتمع في مصر الحديثة). ومن دلائل نقص المعلومات التي نغطي عليها دائما بالاستظراف المصري، ما كتبه رءوف مسعد من أنه سيترك موضوع ريشار جاكمون «للسيدة الدكتورة سامية محرز، فلو كنت مكانها لرفعت دعوي إهانة وتشويه سمعة وتحريض بالقتل علي الأسواني فورا دون إبطاء» وهو أمر برغم سخافته، ينطوي علي نقص في المعلومات، إذ يبدو أن رءوف مسعد لايعلم أن السيدة التي طالبها برفع الدعوي لا أهلية له فيها، لأنها لم تعد زوجة لريشار جاكمون منذ سنوات، ولكنه نقص المعلومات، ولا أقول المعرفة المجتزأة، وعدم تحري الدقة فيما نكتب أو نقول. أما الكاتب الآخر الذي راح ضحية عدم تحري الدقة ونقص المعلومات المعيب في هذه الخلافات فهو الصديق العزيز سليمان فياض، الذي سأرد له بعض حقه في الأسبوع القادم. [email protected]