بينما كان شبح الحرب العالمية يلوح في الأفق، كتب "عادل كامل"مسرحيته الأولي "شباب الكهول"عام 1938، ثم أعقبها بمسرحية "فئران المراكب" عام 1939، وقد ذاقت مصر مرارات الحرب واصطلت بنيرانها، فقد ازدادت بطالة المصريين التي بدأت شدتها في عام 1937،اثر الأزمات الاقتصادية التي مرت بمصر وتحكمت البرجوازية العليا في المجلس النيابي والسلطة التنفيذية من أجل بسط نفوذها. أما علي المستوي السياسي فلم تحقق معاهدة 1936 الاستقلال المطلوب حيث ألزمت مصر بتقديم المساعدات في حالة الحرب وانشاء الثكنات التي فرضت أعباء مالية جسيمة وأضعفت من الجيش المصري، وبموجب هذه الاتفاقية أصبحت السودان مستعمرة بريطانية يحرسها جنود مصريون، أي أنها وضعت مصر تحت الحماية البريطانية. وتأرجحت البرجوازية المتوسطة علي حبل هذه الأزمة ،فقد كان هناك 10 مليون مصري يعيشون بطالة مقنعة من مجمل عدد سكان مصر البالغ آنذاك 16 مليونا،وكانت الأزمة الاجتماعية شديدة القتامة،الأمر الذي أدي ببديع خيري ونجيب الريحاني أن يقدما مسرحيات تعكس هذا الواقع الشرس الذي جعل الصعود الطبقي أما عن طريق الحظ تارة أو السرقة والغش تارة أخري. عندما انتهي عادل كامل من كتابة مسرحية "فيران المراكب" كان عمره لا يتجاوز أربع وعشرين عاما وتقدم بها لمسابقة الفرق القومية في نفس الهام ،وفازت في المسابقة ،لكنها لم تر النور علي خشبة المسرح ،لم ييأس وشرع في كتابة مسرحية أخري في عام 1940، وهي "ويك عنتر" التي نشرها علي نفقته الخاصة بعدما فشلت محاولاته مع دور النشر لطباعة مسرحيته الأولي. وتقدم بها للفرقة القومية أملا في تمثيلها علي المسرح، لكنه أصيب بخيبة الأمل فقد حكم عليها زكي طليمات بعدم صلاحيتها للتمثيل. أصاب الإحباط المحامي الشاب، فالمسرحية لا تصبح لها قيمة إلا عندما تتحول لظاهرة مسرحية تتكامل في أبسط أشكالها، فالمسرحية تظل عملا أدبيا ناقصا ما لم يتحقق التكامل بين العرض والجمهور. حاول عادل كامل أن يخرج من هذا الحصار، وهذا التهميش والإقصاء في مجال المسرح الذي كان يسيطر عليه نجوم مثل نجيب الريحاني وبديع خيري ويوسف وهبي، الذين لم يقطعوا صلاتهم بمسرح الأمس بل تفاعلوا مع الحاضر بمشكلاته، وقضاياه الاجتماعية والسياسية والثقافية، فلقد أصبح الانسان العادي الواقعي كصانع الأحذية والموظف والبائع والترزي والمدرس والموسيقار، نماذج للسخرية والفكاهة، التي لم تكتف بالهجوم علي المجتمع بل تعدته إلي الضحك عليه، وأصبح البرجوازي الصغير شخصية رئيسية في معظم مسرحيات بديع وكذلك الطبقة البرجوازية الصاعدة وكان يكتب بنفسه نصوص هذه المسرحيات وكذلك أغانيها. في مسرحية "ويك عنتر" يعبر عادل كامل عن أزمة البرجوازية الصغيرة وأحلامها التي تتمثل في الصعود إلي أول درجة من درجات سلم الطبقة الأرستقراطية.المسرحية تتكون من ثلاثة فصول تتناول حياة أسرة برجوازية صغيرة هي أسرة الأستاذ "أحمد خيري" وزوجته انجه هانم, وهي شخصية مسرحية بامتياز تمثل طبيعة التحول والصعود الطبقي آنذاك في المجتمع المصري، وتجري حوادثها في منزل انجه هانم القائم علي أحد الميادين بحي الحلمية الجديدة. يبدأ الفصل الأول بوصف للمكان ليدخلنا للحالة النفسانية للسرد، "حجرة متسعة في بيت قديم الطراز، جدران الحجرة مغطاة بورق مهلهل، يغطي أرضية الحجرة بساط متسخ، كانت ألوانه زاهية يوما.يتصدر الحائط المواجه للنظارة مكتب ضخم عتيق يقوم بين باب إلي اليسار ونافذة شامخة إلي اليمين، ينسدل عليها ستر مزدوج من قطيقة حمراء كالحة...الثريا والبساط والأثاث تنطق جميعها (إنما نحن أثر تليد لعز زال) ". يمثل اهتراء المكان في هذه المسرحية وسيلة للتعبير عن إحساس بتسرب الزمن وتسرب العز، فالخصائص الجغرافية لمكان الحدث لا يمكن فصلها عن الخصائص النفسية لشخصية الأستاذ أحمد فخري "يجلس إلي المكتب رجل بدأت حياته تنحدر نحو المغيب، أحمر الوجه، أزعر الرأس، بدين الجسم، رجل يسرع إليه النعاس إذا استطال به المجلس بين الرجال، ولايعرف غير أن يكرر إلي غير نهاية نوادره وأحداث حياته في مجاميع النساء، إلا أنه لطيف المعشر، جم التواضع، لم يقم بأي مجهود عضلي أوعقلي في ماضي حياته، وهو علي أهبة أن ينفذ ما يطلب منه طوعا في سبيل أن يجنب مستقبله مثل هذا الجهد". هكذا يرسم لنا الكاتب صورة خارجية لشخصية أحمد خيري تحدد هويته وطباعه، ثم ينتقل الي مقارنة هذه الصورة بشخصية زوجته التي هي الشخصية النقيض، فهي شخصية يقظة، مسيطرة، واقعية، لا تبني قصورا من الورق مثله، وهي امرأة ناصعة البياض، شعرها بلون مصفر، لا تتميزعن غيرها من النساء سوي أنها تبدو وكأنما تختزن في أسفل ذقنها ليمونة صحيحة، انجه هانم لا تخيف إلا من يريد الخوف منها. الحوار الدائر بين انجه هانم وزوجها يؤكد لنا ضعف شخصية الأخير وانشغاله بتقضية يومه وهو يقرأ أفلاطون، ومحاولة كتابة كتاب عن الأصول القديمة للموسيقي الشرقية، بينما انجه تتهكم عليه وعلي هوسه الفارغ وتعايره بأن خلفته كلها بنات، وهذا عكس ماهو سائد في المجتمع المصري واعتقادهم الخاطئ بأن المرأة هي المسئولة عن تجديد جنس الجنين، وربما يرجع ذلك أن الأدوار التقليدية معكوسة في هذه الأسرة فالزوج لا يعمل وانجه هي التي تصرف علي البيت، وينصرف جل اهتمامها في ترتيب زيجات لبناتها من رجال ميسورين وهي في سبيل ترتيب هذه الزيجات تفعل أي شئ مهما كانت وضاعته من خديعة وكذب ونصب ،وفي خضم ذلك لا تنتبه لنزوات زوجها الذي لا يتحرج في أن يستدين من خادمه "عوف "، من أجل شراء الهدايا للخادمة التي ترحب بإقامة علاقة معه، فهوعاطل، لا وظيفة له إلا مغازلة الخادمات. وبنات انجه هانم وأحمد خيري هن صورة كربونية من الأب والأم معا، فالصغيرة نازك فتاة في الرابعة عشرة، مثالا للخفة وعدم المبالاة وتعتقد أنها ذات جاذبية خاصة تجعل الناس يستريحون إليها مما زادها ذلك غرورا، أما إقبال كبري البنات فهي فتاة تافهة، أنانية، متعجرفة، مخطوبة لإبراهيم وهو منافق، معدوم الثقة في نفسه يخشي أن يكشف عنه الناس أخطاءه، وهو متزوج ويخفي هذا الأمر عن إقبال، لكن انجه تعلم ذلك، وهي لا تمانع طالما يستطيع أن يصرف علي ابنتها، أما مديحة الإبنة الوسطي، فهي نحيفة طويلة، أنانية ومشكلتها أن تكون هي ولايكون بقية الخلق وهي تشارك أمها في نصب أفخاخ الصيد للعرسان. يذيل الكاتب نهاية الفصل الثاني بهذه الفقرة: " لكن الستار يهبط لينقذ هذا النفر من الناس الذي قد يسيئه أن يضطر لرؤية هذا المشهد، بينما هو لم يدفع ثمن مقعده من القطيفة الحمراء، إلا ليعرض عليه ما يحرك في صدره عواطف الإعجاب بنفسه ونوازع الإطمئنان إلي قدره ومكانته .أما أن يجبر علي مشاهدة ما يجرح من نفسه هذه الكمية التقليدية من الحب التي يجمعها من حلاقه المنحني بين يديه، وحائكه الذي يمتدح قوامه وقيافته، ومن الساق المرحب والمودع بآيات التهليل، فهذا عنده نوع من الغش في صنف البضاعة التي اتفق عليها ضمنا مع مدير المسرح حين ابتاع بطاقة الدخول، إلا أن إبراهيم قد كسب المعركة .هذا عالم يجدي فيه تقبيل الأقدام أكثر مما تثمر ضروب البطولة القديمة....". لقد أدرك عادل كامل ذكورية هذا المجتمع الذي قد يغضب عندما ينحني الرجل، أي رجل ليقبل قدم امرأة، لكن طبيعة المرحلة قد تحتم ذلك، فهو يصور لنا جبن وخداع وضعف طبقته وانحلالها الأخلاقي عندما تريد أن تحقق مكاسب، ولا تخلو المسرحية من مفارقات فكاهية لكنها مفارقات تضع يدها علي شراهة شخصيات المسرحية التي لا تتواني أن تبيع نفسها للشيطان، فعندما يقررأحمد خيري الهرب مع الخادمة ليتزوجها، تغضب انجه هانم لا حزنا علي علاقتهما الزوجية بل لأنه سيقطع عنها وقف أبيها وقيمته ستون جنيها شهريا لأن شرط الحصول عليه أن تكون متزوجة، فيبادر هاشم الموظف الشاب - الذي كانت تعتقده وكيل نيابة وأن اسمه مرعي فيتضح أنه شقيق زوجة ابراهيم وجاء بالصدفة، وطلب الزواج منها فلا تمانع، فيمكنها أن تنصب الفخ لعريس آخر لمديحة. ونحن نتساءل ما علاقة اسم المسرحية بهذه الأحداث، عندما تدعي الأسرة أن مديحة هربت لأنها تريد الزواج من هاشم، وهذه حيلة لابتزاز الأخير، يعطي أحمد خيري قبل أن يغادر المنزل ليتزوج من الخادمة مفتاح إحدي الغرف ويطلب منه أن يبحث فيها عن كتاب، عنوانه "ويك عنتر" ويقرأه لأنه سيلقي ضوءا باهرا علي مشاعره، وعندما ينفذ هاشم ذلك وما أن يفتح الباب حتي يسمر مبهوتا كأنما رأي شبحا، فقد رأي أمامه مديحة التي أخفتها أمها لتنصب الفخ لاصطياده، فلم يكن "ويك عنتر" إلا الفخ ولم يكن هاشم إلا الفريسة. تعتبر "ويك عنتر" مسرحية هزلية تعتمد علي مفارقات حادة وأحداث تثير السخرية والتهكم، بأسلوب يبتعد عن الطريقة التقليدية والنمطية التي تثير الضحك وهي النكات المبتذلة والكلشيهات المعروفة، وقد وظف الحوار بحيث تتخلله جمل ذات دلالة وعبارات تحتوي مضمونا فلسفيا ناضجا، وبني النص بشكل شديد الترابط والإحكام معتمدا علي أحداث ومواقف وحوار ينطق بأبعاد الشخصيات، وينهض بالوظيفة الاجتماعية والنفسانية للسرد، وهذا عمل صعب لأن عادة النص الهزلي ما يقع في مثالب كثيرة مثل فراغ المضمون وفراغ الشخصيات، إنه نص طليعي لكاتب طليعي لم يقدم لنا نصا نخبويا، بل قدم نصا واقعيا بإمتياز.