تعليم الجيزة تحصد المراكز الأولى في مسابقة الملتقى الفكري للطلاب المتفوقين والموهوبين    عمال الجيزة: أنشأنا فندقًا بالاتحاد لتعظيم استثمارات الأصول | خاص    التعليم العالي تعلن فتح برامج المبادرة المصرية اليابانية للتعليم EJEP    الكويت ترحب بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعادة النظر بعضوية دولة فلسطين    تقرير إدارة بايدن يبرئ إسرائيل من تهمة انتهاك القانون الدولى فى حرب غزة    القاهرة الإخبارية: الإمارات تستنكر دعوة نتنياهو لإدارة قطاع غزة    في أقل من 24 ساعة.. «حزب الله» ينفذ 7 عمليات ضد إسرائيل    كرم جبر: على حماس أن تستغل الفرصة الراهنة لإحياء حلم «حل الدولتين»    محمود ناصف حكم مباراة الأهلى وبلدية المحلة.. وأمين عمر لمواجهة المصرى وبيراميدز    جوميز يركز على الجوانب الفنية فى ختام ثانى تدريبات الزمالك بالمغرب    إبراهيم سعيد ل محمد الشناوي:" مش عيب أنك تكون على دكة الاحتياطي"    فوزى لقجع ورضا سليم يتوسطان للصلح بين حسين الشحات والشيبى    إصابة 13 عاملا إثر حادث سيارة في الغربية    طقس معتدل في محافظة بورسعيد بعد العاصفة الترابية.. فيديو وصور    مصرع شخص صدمته سيارة طائشة في بني سويف    المهم يعرفوا قيمتي، شرط يسرا لوجود عمل يجمعها مع محمد رمضان (فيديو)    إحالة جميع المسؤولين بمديرية الصحة بسوهاج للتحقيق    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير.. سعر الذهب والسبائك اليوم السبت 11 مايو 2024 بالصاغة    " من دون تأخير".. فرنسا تدعو إسرائيل إلى وقف عمليتها العسكرية في رفح    قرار عاجل من ريال مدريد بشأن مبابي    مباريات اليوم السبت 10-05-2024 حول العالم والقنوات الناقلة    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك يوماً يتجلّى فيه لطفك ويتسع فيه رزقك    مواعيد مباريات اليوم.. الأهلي ضد بلدية المحلة.. ونهائي أبطال آسيا وتتويج مرتقب ل الهلال    موازنة النواب عن جدل الحساب الختامي: المستحقات الحكومية عند الأفراد والجهات 570 مليار جنيه    عز ينخفض لأقل سعر.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 11 مايو بالمصانع والأسواق    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن    مأمورية من قسم الطالبية لإلقاء القبض على عصام صاصا    آبل تخطط لاستخدام شرائح M2 Ultra فى السحابة للذكاء الاصطناعى    خبير دستوري: اتحاد القبائل من حقه إنشاء فروع في كل ربوع الدولة    السياحة عن قطع الكهرباء عن المعابد الأثرية ضمن خطة تخفيف الأحمال: منتهى السخافة    حظك اليوم وتوقعات الأبراج السبت 11 مايو على الصعيد المهنى والعاطفى والصحى    برج الجدى.. حظك اليوم السبت 11 مايو: تجنب المشاكل    عمرو دياب يحيى حفلا غنائيا فى بيروت 15 يونيو    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    أبناء السيدة خديجة.. من هم أولاد أم المؤمنين وكم عددهم؟    الشعبة تكشف تفاصيل تراجع أسعار الدواجن والبيض مؤخرًا    تناول أدوية دون إشراف طبي النسبة الأعلى، إحصائية صادمة عن حالات استقبلها قسم سموم بنها خلال أبريل    زيادات متدرجة في الإيجار.. تحرك جديد بشأن أزمة الإيجارات القديمة    النائب شمس الدين: تجربة واعظات مصر تاريخية وتدرس عالميًّا وإقليميًّا    الحكومة اليابانية تقدم منح دراسية للطلاب الذين يرغبون في استكمال دراستهم    «أنصفه على حساب الأجهزة».. الأنبا بولا يكشف علاقة الرئيس الراحل مبارك ب البابا شنودة    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    النجم شاروخان يجهز لتصوير فيلمه الجديد في مصر    القانون يحمى الحجاج.. بوابة مصرية لشئون الحج تختص بتنظيم شئونه.. كود تعريفى لكل حاج لحمايته.. وبعثه رسمية لتقييم أداء الجهات المنظمة ورفع توصياتها للرئيس.. وغرفه عمليات بالداخل والخارج للأحداث الطارئة    المواطنون في مصر يبحثون عن عطلة عيد الأضحى 2024.. هي فعلًا 9 أيام؟    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    الإفتاء تكشف فضل عظيم لقراءة سورة الملك قبل النوم: أوصى بها النبي    مصرع شاب غرقًا في بحيرة وادي الريان بالفيوم    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    5 علامات تدل على إصابتك بتكيسات المبيض    لأول مرة.. المغرب يعوض سيدة ماليا بعد تضررها من لقاح فيروس كورونا    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فارس الدائرة المشئومة
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 07 - 2016

في سنوات الثلاثينيات. كان التكوين الثقافي وكانت بواكير الإنتاج القصصي لموجة جديدة من كتاب القصة المصرية القصيرة والطويلة، موجة أكثر عروبة أو أكثر مصرية وأصالة من الموجة السابقة في حقل القصة، بعد أن عبدت لها بواكير الرواد الطريق في العقدين السابقين: المازني. وهيكل. وجورجي زيدان، وعيسي عبيد، وطاهر لاشين، وجمعة، وغيرهم وكانت حركة أبوللو الشعرية في أوجها، وجيل الرواد يزداد خصوبة وإنتاجا وفكرا في الإبداع والدراسة، وكانت الحركة الفكرية تناقش اتجاهاتها بين الأصالة والمعاصرة: الاتجاه الأسلامي . والاتجاه القومي العروبي. والاتجاه الإقليمي المحلي. والكل. من يومها. في حيص بيص. حيال حضارة الغرب المادية الحديثة. بنظاميها الرأسمالي. والاشتراكي. بين نافر ومؤيد. وموفق للرؤوس في حلالات الفكر وجازم بالتحريم في لقاء الشرق والغرب، والمادة والروح.
وفي هذا الجو الفكري العاصف، والزاخر والكل يبحث عن فلسفة وهوية، كان التكوين الثقافي لأعلام الموجة الجديدة من كتاب القصة المصرية القصيرة والطويلة، وصار أبرزهم في سنوات الثلاثينيات. متوزعا بين الاتجاه في القص - إلي موضوعات التراث التاريخية - العربية - والفرعونية. والاسلامية: العريان. أبو حديد مثلا
استغرقتها موضوعات التراث الإسلامي والعربي. ومعهما كان . باكثير والسحار، وكان كلاهما عضوا بلجنة النشر للجامعيين . مع سيد قطب و نجيب محفوظ وعادل كامل .والاخيران شدتهما إليها في البداية موضوعات التراث الفرعوني. فكتب نجيب. ثلاثيته الفرعونية وبينها رادوبيس و عبث الأقدار وكتب عادل كامل روايته ملك من شعاع وكان هذان الاثنان أكثر انفلاتا بين أعلام موجتهم من حقل التراث عامة. فسار عادل كامل بروايته مليم الأكبر في طريق جديد طريق المحلية المصرية العصرية ومثله فعل فيما بعد نجيب محفوظ حين كتب خان الخليلي بعيدا عن موضوعات التاريخ والتراث، والمعالجة القصصية المباشرة لهما.
وكان عادل كامل أحد الوجوه القليلة التي وعتها ذاكرتي بين أعلام هذه الموجة الجديدة من القصاصين وعن معرفتي بعادل كامل وبفنه القصصي. وانطباعا. لا تأريخا ولانقدا سيكون هذا المقال القصير.
ضباب ورماد
في أواخر الأربعينيات، كنا ثلاثة نرتاد المكتبة العامة، بحي المختلط بمدينة المنصورة كانت المكتبة فيما مضي . استراحة لاحدي أميرات القصر الملكي علي شاطي النيل. وكانت لهذه الاستراحة درجات تصل إلي النهر، يرسو عليه قارب للأميرة. وحلقات حديدية يشد إليها قارب الأمير وصارت الاستراحة في العهد الملكي مكتبة للمدينة تتبع دار الكتب المصرية في باب الخلق بالقاهرة. واحدة من سبعة وعشرين مكتبة تابعة لدار الكتب. في مدن مصر الكبري، وعواصم مديرياتها.
كان قيم المكتبة هوالشيخ أمين كان رجلا طيبا يعشق الثقافة، ويحب روادها المدمنين للقراءة، وبينهم كنا نحن الثلاثة: عبد الجليل حسن . أبو المعاطي أبو النجا، وأنا وبلغت علاقتنا بالمكتبة وبقيمها الشيخ أمين أننا كنا نتردد عليها في أوقات عملها عدا يوم الجمعة، في الصباح، وفي المساء وصرنا بين مساعدي الشيخ أمين نتجول في صالات الكتب الداخلية بها بين دواليب تحمل ثلاثين ألف كتاب فلم يكن نظامها نظام المكتبات المفتوحة وننتقي لأنفسنا مانقرؤه ونجلب للرواد ما يريدونه من كتب، حين يكون المساعد الوحيد للشيخ أمين غائبا وكثيرا مايغيب مطمئنا إلي وجودنا دائما.
وقعت عيني علي صف لأعداد مجلة »المقتطف« رحت أتجول بين صفحاتها أياما- وقرأت فيها . بين ماقرأته . عملين أدبيين هامين للغاية: أحدهما كان محاورة أدبية ونقدية مترجمة. حول الإبداع والنقد. اشترك فيها ثلاثة: كان أحدهم ناقدا أدبيا والثاني عالم طبيعة والثالث عالم رياضة هو إينشتين صاحب نظرية النسبية، وكنت قد قرأت فيها كتاب نظرية النسبية العامة لمشرفة، وفهمت ماكتبه مشرفة عنها، لكن كتابه الآخر عن . النسبية الخاصة كان مليئا بالمعادلات الرياضية فعز علي التواصل معه ودهشت لما قرأته في المحاورة فها هو إينشتين وصاحبه عالم الطبيعة يفهمان عن الإبداع والنقد أكثر مما يفهمه ناقد الأدب.
العمل الهام الآخر كان قصة لعادل كامل، تحمل عنوان »ضباب ورماد« ولم آلف علي صفحات أعداد المقتطف نشرها لقصة، ولقصة مؤلفة، ولكاتب مصري. كانت القصة قصيرة طويلة. وتستغرق فيما اذكر أكثر من عشرين صفحة من صفحات عدد مجلة المقتطف الذي نشرت به قرأت القصة مبهورا. مسحورا. لاهث الأنفاس كانت القصة مغامرة روحية نفسية لفيض من المشاعر والأحاسيس، لا حدث فيها يحكي، عالما متتابعا من الصور والرؤي، لاتخلو من دفق وجودي وتحديق إلي الداخل كما ينطبع عليه العالم الخارجي واللغة فيها لغة فريدة وجديدة في القص القصير والطويل لاعهد لي بنصاعة نصاعتها والصور باهرة التكوين والزمن فيها يتداخل بانسياب في ظل زمني واحد، والمشاعر حرة طليقة كما الطير في السماوات.
وفيما بعد إذ وفدت إلي القاهرة في الخمسينيات واتسعت دوائر قراءتي للمترجمات أدركت صلة هذا اللون من القص بعوالم جويس، وفرجينيا وولف، وبروست، وفيما بعد في الخمسينيات تذكرت أن تاريخ نشر هذه القصة بالمقتطف، كان في مطالع الثلاثينيات.
وحدثت نفسي أن عادل كامل بهذه القصة . كان رائدا حقيقيا. وأنه كان سابقا لزمانه وأوانه، وحزنت لتوقفه عن القص ولقد استغرقت القصة المصرية زمنا.حتي بدت لاتجاهها الفني إطلالات في قصص قصاصي الستينيات مجرد إطلالات لاترقي إلي مستوي »ضباب ورماد« لغة، وبناء وصورا، وعالما طليقا في الزمن والمشاعر وأشك أن واحدا منهم قد قرأ هذه القصة القديمة العهد التي لم تنشر في كتاب.
مليم الأكبر
في القاهرة، في سنوات الخمسينيات قرأت للمرة الأولي، رواية »مليم الأكبر« لعادل كامل كانت سياقا فنيا آخر، غير سياق «ضباب ورماد» شحنة من الواقعية والعنفوان حدثت نفسي أن هذا كاتب حقيقي له روح نيتشوي النزعة في اختيار لموضوعه وفي روايته بل وفي شخوصه ولغته وحوارات ناسه في عالم روايته كاتب حقيقي له عالم واقعي خاص يفيض بروح الدراما، بين فنانين ضائعين في جيل ضائع في »غرف مقبضة« في حارة شعبية ساكنة، ثابتة العادات، رتيبة الحركة.
عدت أقرأ مقدمة عادل كامل بين يدي الرواية- القوة في المقدمة هي نفسها التي وجدتها في الرواية اللغة الطليقة. والارادة الحرة المتحدية التي تريد خلق العالم من جديد وإعادة صياغته، هي التي لناسه في الرواية كان عادل كامل قد كتب هذه الرواية عام 1936 ولم يتح له نشرها لأول مرة في كتاب لأسباب لا أعلمها
(وقد كان عضوا بلجنة النشر للجامعيين) إلا في عام1943، ولم تنشر فصولها في »الرواية« الملحق القصصي لمجلة الرسالة الزياتية) التي كان ينشر بها نجيب محفوظ أقاصيصه الأولي. وكان «عادل كامل» قد تقدم بهذه الرواية لينال جائزة »مجمع فؤاد الأول للغة العربية« (مجمع اللغة العربية الآن) وأبت اللجنة في تقريرها أن تمنح هذه الرواية الجائزة وقد منحها المجمع لرواية »لقيطة« لمحمد عبدالحليم عبدالله
(ربما لم يكن ذلك في نفس السنة) وعجبت لذوق أعضاء المجمع فلقيطة كانت الباكورة الأولي لمؤلفها وكانت مليئة بالسجع والمحسنات البديعة الأخري، وكان عالمها ميلودراميا يستدر العواطف في استجداء، وتبدو لغتها الفاظا وصورا وتراكيب كأنها خارجة لتوها من معطف «المنفلوطي» و «الرافعي» و «الزيات» غارقة في قيود النثر الفني غرق الشعر القيم في قيوده، وثار عادل كامل في مقدمته ضد المجمع ثورة فنية عارمة شعرت بالحزن لعادل كامل: كيف لم يدرك آنذاك أن عليه أن يسبح في مياه أخري غير مياه المجمع (آنذاك) أو كيف تستدرجه جائزته أويخدع بمعني هذه الجائزة لكاتب مثله وأيقنت أنه أخطأ التقدير لنفسه ولروايته وقدرت أنه ربما لهذا السبب وغيره من الأسباب التي لا أعلمها، توقف عادل كامل عن كتابة القصة وكان المثقفون يتحدثون آنذاك عمن توقفوا عن القص، وعن الشعر وعن التأليف المسرحي، وأدركت أن عادل كامل بروايته »مليم الأكبر« وفي التاريخ الذي كتبت فيه عام 1936 كان سابقا في ارتياد الابداع القصصي في تيار الواقعية النقدية لنجيب محفوظ صاحب »خان الخليلي« و»بداية ونهاية« ففي الوقت الذي كتب فيه عادل كامل قصة »ضباب ورماد« ورواية »مليم الاكبر« كان نجيب يكتب أقاصيصه الأولي علي صفحات »الرواية« بين عامي 1932، 1942 ويجهد للاقتراب من لغة القص وبساطة اللغة، والواقعية في قصص أكثرها يعد من باب المفارقة، والنكتة قصص بالعشرات لم يختر منها نجيب سوي عدد محدود، نشره في مجموعته الأولي »همس الجنون«.
ورفض نشرها سائرها في مجموعات أخري.
ملك من شعاع
بين دعاة الاقليمية أو المحلية في الادب في سنوات الثلاثينيات كان عادل كامل، ونجيب محفوظ وليس لأحدهما.. فيما أعرفه مقال في هذا الصدد. لكن نزوعهما إلي هذا الاتجاه كان واضحا، فيما أبدعاه من روايات نجيب محفوظ كتب ثلاثة أعمال روائية في التاريخ الفرعوني بينهما: »رادوبيس« و»عبث الاقدار« وعادل كامل كتب روايته التاريخية اليتيمة »ملك من شعاع« عن أخناتون الملك موحد الألهة في إله واحد: هو »الشمس«.
ولأن الدعوة للإقليمية بمعناها الخاص، بالتراث الفرعوني وبإمكان ربط الواقع المصري لمصر بحضارة بادت وانقطعت فكرا ولغة باللغة القبطية ثم باللغة العربية وبالحضارة اليونانية ثم الرومانية ثم العربية الإسلامية فقد أخذت هذه الدعوة الاقليمية معني جديدا عند نجيب محفوظ وعادل كامل معني المحلية المصرية والعصرية فكانت »مليم الاكبر« وكانت »خان الخليلي« وإذ توقف »عادل كامل« بعد »مليم الاكبر« عن القص استمر »نجيب محفوظ« فيه فقد أضاف نجيب الي نزعته المحلية المصرية العصرية وفي ثنايا رواياته معني »الايمان« بصورته الاسلامية الصوفية التي تمثلت في بعض شخصياته، وراح يضفرها في : ثلاثيته، وحرافيشه، وحاراته، جنبا الي جنب مع : زيطة، والموظفين، والفتوات، واليساريين، والوفديين،والإخوان وأحسب أن عادل كامل لو استمر في القص لانتهي به الأمر الي نفس الطريق وإن تغيرت الرؤية وتغيرت التجارب وتغيرت طريقة المعالجة والتعبير.
عالم واحد وهو عالم »ملك من شعاع« و»رادوبيس« و»عبث الاقدار« لكن رواية »ملك من شعاع« تبدو لي كرواية سامقة روائيا قصا وفن قص، علي فرعونيات نجيب ويزداد أساي لفقد القص المصري لصنو ونظير لنجيب محفوظ وما قدرت عمق العلاقة بين الاثنين خاصة وهما أبناء حقبة واحدة ورفيقا عمر، علي كثرة لقاءاتي بنجيب في مقهي الأوبرا حتي أتيحت لي الفرصة للقاء عادل كامل.
الدائرة المشؤومة
عام 1959 عملت شهورا كصحفي بصحيفة الجمهورية كان سعد وهبة كاتب المسرح يعمل بالصحيفة نائبا لرئيس التحرير وكان يشرف علي تحريرصفحة منوعة مثيرة بالصحيفة الصفحة الخامسة بالتحديد عرضت عليه إدارة حديث صحفي مع »عادل كامل« صاحب »مليم الاكبر« وكان بها شهيرا بين كتاب القصة في مصر ولم اكن قد كتبت سوي أربع قصص أوخمس نشرتها بمجلة الآداب وأذيعت من البرنامج الثاني بإذاعة القاهرة لكن معرفتي بعالم القصاصين في مصر كان طيبا وافق سعد علي الفكرة وكنت أعرف أن عادل كامل قد صار محاميا منذ منتصف الأربعينيات وذهبت للقائه.
كان مدخل مكتبه مليئا بشوانين الملفات والبطاقات والموظفين والمحامين وخرج من باب جانبي رجل ربعة جاوز الأربعين ببضع سنين مصري الوجه أسمر راعني انحناؤه وهو يصافحني وراعني هذا المنديل الأبيض الذي يدسه في كم يسراه، مثل لورد انجليزي. وصحبني إلي مكتبه الخاص.
فاتحته في سبب زيارتي له، فابتسم، وقال لي:
-دعنا من الحديث،فهذا أمر نسيناه،
عدت أعرض ما جئت أسأله عنه، ولا أعرف تماما كيف تحول الموقف بيننا، صار المسئول يسأل. قال لي:
- أهم من ذلك.أن نتعرف ببعضنا أنا وأنت، قد تصير صديقين، قدومك إلي، يجعلني أشعر أنك قرأت لي "مليم الأكبر" وأنك تمارس كتابة القصة.
قلت:
-وقرأت رواية "ملك من شعاع" وقصة "ضباب ورماد" وكأنما مست فيه اشارتي لضباب ورماد ذكري خاصة انفتح صدر عادل كامل لي. خلع جاكتته، وألقي بمنديل كمه جانبا. وشمر قميصه إلي منتصف ساعديه، وقال:
الآن.نتكلم.أريد أن أقرأ لك.
حدثته عن نفسي،وحدثني عن نفسه، مؤكدا بين حين وآخر،أننا نتعارف، وأن ما يقوله ليس للحديث الصحفي،أراني صورة لبناته الثلاث. باح لي بأن نجيب محفوظ لا يدخل أحدا بيته، فيما يعلم سواه باح لي بان"نجيب" لا يطلع أحدا قبله، علي قصة له،إثر كتابتها بالآلة الكاتبة، وأراني رواية "أولاد حارتنا" الموضوعةعلي مكتبه قبل أن تنشر مسلسلا بالاهرام" وقبل أن تصدر في كتاب بيروت، إثر اعتراض الرقابة الدينية علي موضوعها ، وباح لي بأنه قدم لنجيب خدمة العمر، منذ أن عمل هو(عادل كامل)محاميا.اتاح له أن يكتب سيناريوهات لأفلام السينما، فغطي بأجوره عنها نفقات أعوامه كموظف بالأوقاف وأتاح له فراغا يوميا يكتب فيه قصصه كان سينفقه في القلق علي موارد المعيشة الشهرية وفي العمل الاضافي بأي مكان وضحك عادل كامل وقال:
أنا سعيد حقا لأنني أتحت له هذه الفرصة أحدنا علي الاقل قد بقي في ساحة القصة يكتب قصصا.
رحت أساله عن رأيه في القصاصين اللامعين الذين تشهدهم ساحة الابداع القصصية في مصر- محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ومحمود البدوي.
وسواهم من المعروفين ظننت أنه يجد وقتا أو رغبة لقراءة أحد من هؤلاء القصاصين الجدد في صحيفة « المساء» أو في مجلة «روز اليوسف» ولم يخف رأيه فيمن سألته عنهم ولم يتحرج في البوح به ثم قال لي:
هؤلاء صنعوا أنفسهم بالأعلام لا أستثني منهم سوي محمود البدوي في بداياته الأولي ويضيعون أنفسهم وأوقاتهم بكتابة القص كنا قد قضينا ساعتين من الثانية ظهرا حتي الرابعة عصرا ونسي كلانا حاجته الي الطعام لاشئ سوي الحديث وفناجين القهوة سألت عادل كامل:
لم توقفت عن كتابة القصة؟
أثر موقف مجمع اللغة من روايتي أدركت أنه لاقبل لي بإضاعة الوقت في مناطحة الصخر وأدركت أنني لن أعيش من قلمي ككاتب وأن قلمي لو صار في يدي سيفا ولاينبغي له أن يكون في يد الكاتب سوي سيف سيجعلني أعاني أكثر مشقة مجرد العيش قررت في تلك اللحظة أن أكون محاميا وهانذا كما تري ميسور الحال الشوانين ملأي بالملفات والبطاقات شركات كثيرة بقلب المدينة قضاياها بمكتبي هذا وأنا بعد محامي الفنانين المقيمين في مصر والذين يفدون اليها من الفنانين أو يخرجون منها وبفضل معرفتي بهؤلاء الفنانين أتحت الفرصة لنجيب ليكتب سيناريوهات للسينما ويواصل كتابة قصصه ثم أكد علي قال:
ماقلته تعارف وليس للحديث
أسمع
وطلب مني أن ألقاه غدا ومعي قصص اختارها له ليقرأها لي ولنزداد معرفة ببعضنا
في اليوم التالي حملت له ثلاث قصص، ولم يكن بمكتبه فرحت أتجول بين الكتب المجلدة في دواليبها الزجاجية التي تحيط بالجدران الأربعة لايقطعها سوي فراغي النافذة والباب كانت كلها كتبا في الادب بلغات ثلاث وليس بينها كتاب واحد في القانون وجاء عادل وجلسنا وواصلنا ما انقطع من الحوار وانصرفنا علي موعد في الغد
قال لي في لقائنا الثالث
قرأت قصصك ولاينبغي أن تتوقف عن كتابة القص يوما مثلما فعلت أنا أسعدني ماسمعته منه
وقلت له
أود أن أسالك سؤالا أأنت حقا سعيد بما أنت فيه ولا تحن إلي الكتابة.
قال لي
سأقول لك الحق لست الآن ومنذ سنين سعيدا بما فعلت وإني لشديد الحنين للكتابة وحاولت العودة اليها وقد استقرت لي الأحوال.
كتبت جانبا من رواية لي بعنوان الدائرة المشؤومة موضوعها عن هذه اللقاءات التي كانت تجمعنا أنا ونجيب والسحار وباكثير تحت قاعدة تمثال بأخر كوبري قصر النيل لقاءات ضائعة خائرة لجيل ضائع لكنني اكتشفت أن قلمي قد صديء وأن روحي لم تعد روح كاتب فقدت الدربة أحذر ان تفقدها يوما الروح تتحفز وتتوهج بالممارسة والقلم لايجف مداده بالكتابة
وزفر عادل كامل باسي ساخر ومرارة ضاحكة وقال سبقني نجيب وتطور وأنا حيث توقفت ولذلك لم أكمل روايتي
وأزحتها جانبا ثم قال لي:
انقذ نفسك من العمل بالصحافة وبسرعة لاتعمل شيئا سوي كتابة القصة سأتيح لك الفرصة التي اتحتها لنجيب ونعيش منها وتفرغ معظم وقتك لقصصك والبحث عن تجارب لقصصك وضحك وقال:
سوف أعرفك أيضا بأجواء القاهرة التي لاتعرفها ويعز عليك الدخول اليها
قلت بذعر:
لكنني لم أدرس السيناريو.
قال لي مؤكدا وهو سيناريو لفيلم
خذ: هذا سيناريو فيلم باب الحديد اقرأه وأصنع مثله
تبحث عن قصة للسينما الآن قصة يهوذا الجزار والضحية لغتها لغة صورة وذلك ماتريده السينما ولا تحمل هم السيناريو المنتج والمخرج سيرحبان به وبهذه القصة سأحاول، لكن قال لي ضاحكا:
الرغبة في نشر حديث معي تسيطر عليك كما تشاء أكتب الحديث.
قلت:
ساطلعك علي ماساكتبه.
فقال لي:
لا ذاكرتك طيبة وأنا أثق بك ولا تتحرج في نشر ماقلته عن أحد.
وكتبت الحديث ونشرته وثار المكتوب عنهم ورفضوا الدخول في أي حوار تعليقا علي حديث عادل كامل لي وتهربت من لقاء »عادل كامل« مرة أخري لقاء خاصا خفت من ضغطه علي لأكتب السيناريو طوال عشر سنوات.
خفت من تأثير كتابة السيناريو علي كتابتي للقص فقد كنت ما أزال في تقديري لقصي غض العود وخفت أن أدخل بقصصي في دائرة مشؤومة أخري.
دون عشرة جنيهات
أغري الشاعر »فاروق شوشة« بالحديث الذي نشرته مع »عادل كامل«
وبحديثي عنه وكان فاروق يعمل مذيعا بإذاعة القاهرة ويقدم برنامج مع النقاد من البرنامج الثاني واتخذ فاروق قرارا بإذاعة قصة »ضباب ورماد« من إذاعة البرنامج الثاني وتقديم حلقة من البرنامج مع »عادل كامل« وأذيعت القصة كاملة وزاد وقت إذاعتها علي الساعة وربع ساعة ولم يكن وقت الإرسال بالبرنامج يزيد آنذاك علي ثلاث ساعات وأذيعت الحلقة في حوار مدهش من الطرفين السائل والمسئول ولايزال نص الحوار الذي نقله فاروق من الشريط المسجل تحت يده مع نصوص الحلقات أخري مع صفوة المبدعين من الأدباء في تلك السنوات ينتظر النشر في كتاب.
وجاء موعد صرف المكافأة الاذاعية لعادل كامل عن قصة »ضباب ورماد«
وعن حديثه الحواري في برنامج »مع النقاد« وسعي عادل كامل إلي الاذاعة ربما حرجا مني ومن فاروق ليتسلم مكافأته وصحبه الساعي إلي وحدة العقود بين الدورين الرابع والعاشر وفوجئنا نحن وفاروق بعادل كامل يوقع إذني الصرف عن القصة والحديث الحواري ويعطيه لمصطفي الساعي.
قائلا له: أصرف المكافأتين وخذ قيمتهما لك
ولم يضطرب عرق واحد في وجه عادل كامل كانت المكافأة عن قصة »ضباب ورماد« جنيهين وستة وعشرين قرشا من جنيهين ونصف بعد الاستقطاعات وكانت المكافأة عن الحديث الحواري لمدة ساعة فيما أذكر خمسة جنيهات وكسورا من القروش والملاليم بعد الاستقطاعات فالحديث الحواري أجره في الإذعة مهما كان وقته ثلاثة أرباع مكافأة الحديث غير الحواري وكلاهما لايحسب له وقت في تقدير المكافأة أكثر من عشر دقائق.
وغرقت في العرق حياء من عادل كامل فأنا الذي حررته هوالذي استقرت به الاحوال وتوقف عن الكتابة هربا من مواجهة مثل هذا الموقف وما أحسب حال فاروق آنئذ كان بأفضل من حالي ونظر إلي عادل كامل وأنا أسير معه وفاروق إلي المصعد وقال لي:
متي ستريح نفسك وتكتب سيناريو لفيلم ؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.