منهم شم النسيم وعيد العمال.. 13 يوم إجازة مدفوعة الأجر في مايو 2024 للموظفين (تفاصيل)    «هجمة صيفية قوية».. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم في مصر وتحذر من ساعات الذروة    شاهد.. نجوم الفن في افتتاح الدورة الثالثة ل مهرجان هوليود للفيلم العربي    سوزان نجم الدين تتصدر التريند بعد حلقتها مع إيمان الحصري.. ما القصة؟    متحدث الحكومة: مشكلة توفر السكر انتهت.. والتعافي من أزمة السيولة الدولارية خلال 2024    الاثنين.. وزيرا المالية والتخطيط أمام البرلمان لعرض البيان المالي والخطة الاقتصادية    رسميًا ينخفض في 9 بنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 19 أبريل 2024    متحدث الحكومة: دعم إضافي للصناعات ذات المكون المحلي.. ونستهدف زيادة الصادرات 17% سنويا    الرئاسة الفلسطينية تدين الفيتو لمنع حصولها على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة    أبو الغيط يأسف لاستخدام الفيتو ضد العضوية الكاملة لفلسطين بالأمم المتحدة    اندلاع مواجهات عنيفة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في مخيم نور شمس    محمود عاشور يفتح النار على رئيس لجنة الحكام.. ويكشف كواليس إيقافه    محمد صلاح: أثق في فوز الأهلي على مازيمبي.. وهذا اللاعب يتسبب في تخفيض معنويات المهاجمين    البابا تواضروس خلال إطلاق وثيقة «مخاطر زواج الأقارب»: 10 آلاف مرض يسببه زواج الأقارب    انهيار منزل من طابقين بالطوب اللبن بقنا    تعديل ترتيب الأب.. محامية بالنقض تكشف مقترحات تعديلات قانون الرؤية الجديد    #شاطئ_غزة يتصدر على (اكس) .. ومغردون: فرحة فلسطينية بدير البلح وحسرة صهيونية في "زيكيم"    «علاقة توكسيكو؟» باسم سمرة يكشف عن رأيه في علاقة كريستيانو وجورجينا (فيديو)    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    انطلاق برنامج لقاء الجمعة للأطفال بالمساجد الكبرى الجمعة    الإفتاء تحسم الجدل بشأن الاحتفال ب شم النسيم    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    "تعليم الجيزة" تكشف نسب حضور الطلاب للمدارس وأسباب تواجدهم هذه الفترة    "ليس لدي أي تأثير عليه".. كلوب يتحدث عن إهدار صلاح للفرص في الفترة الأخيرة    "عملية جراحية خلال أيام".. إصابة لاعب سيراميكا بقطع في الرباط الصليبي    فيوتشر يرتقي للمركز الثامن في الدوري بالفوز على فاركو    الدوري الأوروبي – فريمبونج ينقذ سلسلة ليفركوزن.. ومارسيليا يقصي بنفيكا بركلات الترجيح    "دوري مصري ومنافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    بسبب "عباس الرئيس الفعلي".. عضو مجلس إدارة الزمالك يهاجم مشجع (صورة)    تخفيض سعر الخبز السياحي بجنوب سيناء    ننشر أول جدول أعمال لمجلس النواب بمقره بالعاصمة الإدارية    جريمة ثاني أيام العيد.. حكاية مقتل بائع كبدة بسبب 10 جنيهات في السلام    إصابة 4 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    ظهور أسماك حية في مياه السيول بشوارع دبي (فيديو)    مصرع شخص وإصابة 8 آخرين إثر حادث تصادم بطريق المريوطية فى العياط    أول تعليق من حماس على الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة    وزير الخارجية الأسبق يكشف عن نقاط مهمة لحل القضية الفلسطينية    خبير عسكري: هجوم إسرائيل على إيران في لبنان أو العراق لا يعتبر ردًا على طهران    إسرائيل تستعد لإجلاء الفلسطينيين قسرًا.. تقارير أمريكية تكشف موعد اجتياح رفح    برج الدلو.. حظك اليوم الجمعة 19 أبريل 2024 : يساء فهمك    أحمد الطاهري يروي كواليس لقاءه مع عبد الله كمال في مؤسسة روز اليوسف    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    النشرة الدينية.. هل يجوز تفويت صلاة الجمعة بسبب التعب؟.. وما هي أدعية شهر شوال المستحبة؟    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    طريقة عمل الدجاج سويت اند ساور    طريقة عمل الكب كيك بالريد فيلفت، حلوى لذيذة لأطفالك بأقل التكاليف    متحدث التعليم: لا صحة لدخول طلاب الثانوية العامة لجان الامتحانات بكتب الوزارة    أنقذ عائلة إماراتية من الغرق في دبى.. عمل بطولى لمدير ببنك مصر فرع الإمارات (فيديو)    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    بسبب أزمة نفسية.. فتاة تنهي حياتها بالحبة السامة بأوسيم    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    المشدد 5 سنوات لشقيقين ضربا آخرين بعصا حديدية بالبساتين    محافظ الإسكندرية يفتتح أعمال تطوير "حديقة مسجد سيدى بشر"    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    ردد الآن.. دعاء الشفاء لنفسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضباب و رماد
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 07 - 2016


لم يكن في الليل نجم واحد وطلع النهار بغير شمس.
هكذا احتجبت شخوص مسرح الطبيعة وراء الستار، وقيل للبشر المتفرج أن انزووا في جحوركم فليس الليلة تمثيل ولن يكون عرض في الصباح. ويسألون عن الخبر فتهمس أعلام الطبيعة الصغري من شجر وأنهار:
- لقد اعتكفت امهاتنا الكبريات في أبراجها العلوية.
ويردد البشر الواجف:
- من الخبر؟
فتبتسم الورود الثرثارة ثم تميل علي أعوادها متمتمة:
- إنهن يتدارسن أمراً خطيراً.
شاعت في وجه البسيطة نذر الأمر الخطير، ونبض الجو بالهمس والصوت المكتوم فتملك الآدميين فزع غامض انطوي عليه لا شعورهم ثم تسرب إلي أفئدتهم في صورة إحساس ملهوف: إحساس ترقب شيء يخشونه ولا يدرونه ولكنهم يريدونه.
لازمهم هذا الشعور وهم يتمون زينتهم أمام المرايا، وظل في حاشية وعيهم وهم يشربون قهوتهم الساخنة، ثم رافقهم وهم يسعون وراء ما يوصلهم إلي محال أعمالهم، وكانوا لا يزالون يدركونه وهم يقرأون صحفهم، ثم رجعوا به إذا آووا إلي بيوتهم يأكلون ويتماوتون.
أما هو فلم يغادر حجرته مع قوافل النمل الآدمي بل بقي قابعاً إلي جوار النافذة يرقب طلائع هذا الصباح الرمادي. وكان في يده كوب من الشاي أخذ يرتشف منه ثم يطلق أنفاسه الساخنة علي زجاج النافذة فيكتسي أديمه بضباب فضي. وكأنما خالجته فكرة فأطرق مبتسماً: إن نهار هذا اليوم يراه الخلق من خلال زجاج ناضج بالضباب ولكنه ما يلبث أن ينقشع فيبين. أما هو فإن نافذة حياته ليس فيها مطلب واحد صافي الأديم.
الضباب.. هذه حياته وهذا عنصره، وإن كان لقدره لون ما فهو الرماد. الرماد اليوم وُلد والرماد إلي أن يموت. إن الناس يتألقون جمراً ثم يستحيلون تراباً، أما هو فيعيش في الموت حيث ولد. إنه دودة آدمية لا يحوي جسمها دماً بل قيحاً.
قيحاً.. يا للبشاعة! لشد ما تمني لو حوت عروقه دماً حاراً قانياً! لشد ما اشتهي دفء الحياة يسري في أوصاله فيحرك مستنقع نفسه الراكد! لشد ما زعق وصاح في خلوته:
- إني مضطهد مظلوم، لم حقت علي لعنة الضباب والرماد بينما ينعم غيري بسورة الجمر والدم.
الضباب والرماد..
أما من فرار من ربقة هذين الشيطانين الغليظين! إنه ماطلب من جلاديه سوي ساعة واحدة يعيشها بقلبه وأمعائه ودمه، يعيشها كما يعيش النبت إذ يمتص حياته من الأرض أمه. يعيشها بجذور كيانه الممتدة في جوف الكون، وبعد ذلك لن يضجره إن مات في الرماد أو عاش فيه.
لحظة من جمر ودم....

تضرمت ساعات قصيرة من النهار وهو لايزال علي هجومه، يحلم ويرقب، وكان الصباح يزداد دكنة حتي خشي البشر أن تكون الشمس قد أصابها ضر فتك بها إذ كيف ترضي بهذه العتمة تغزو صباحها وهي شمس! وكيف تهادن البرودة فتتركها تجمد الأطراف وتميت النبت وهي شمس! وكيف تحتمل رؤية طرقات المدينة مقفرة موحشة كمسارب المقابر وهي شمس!
ليس هذا صبحهم ولا تلك شمسهم، وأحس الناس أن دنيا هذا اليوم غريبة عليهم أجنبية عن إدراكهم حتي صور لهم أنهم يعيشون في كوكب آخر غير الأرض- المريخ أو زُحل- فكان أن خافوا أو اكتأبوا.
أما هو فقد قهقه في سريرته إذ أدرك لتوه أن اليوم يومه والصباح صباحه إنها فرصة العمر قد أتيحت له ليحيا في عنصره فها هو ذا الضباب فقد تكاثف لينشق منه ابن الضباب، وهاهي ذي الدنيا الغريبة علي البشر، قد جاءت تبسط صدرها لربيب الشياطين، لعل الرجاء قد أثمر فاستجاب جلادوه الدعاء.
نزل "إبليس الصغير" إلي الطريق يضرب في جنباته الخاوية وقلبه يحدثه بأن العالم اليوم ملكه وحده، وكأنما هو زعيم سياسي غداة استيلائه علي مقاليد الحكم فأصبح وحده الآمر الناهي بين رجاله وأعوانه، وفرح بهذا الخاطر وانبسط فراح يحدث نفسه حديثاً عجيباً:
- هكذا أنا، إنني أشرف الناس جميعاً لأنني أقذعهم سخرية، أنا أكثرهم احتراماً لأنني صعلوك، صعلوك بين الملوك، ملوك صعاليك وصعاليك ملوك ليس لي دم أزرق.. ها.. ولا أحمر.. إن دمي أبيض، إنه القيح الملقح ضد كل شهوة وإحساس، إنه دم الآلهة المنزهين عن الغضب والفرح والحب والحزن، إن كل ما ليس آدميا إله.. أو شيطان.. فليكن دمي من رحيق الأبالسة فلست بمبتئس مادمت لا أمت إلي البشر بصلة.
لشد ما أمقت آدم وأبناء آدم وحواء وبناتها، ولم تكن سعادتي لتكمل ولا أنهم يمقتونني كما أمقتهم، ولكن من منا بادأ الآخر بالكره؟ لو أنهم ابتدروني ببغضهم، فأنا شخص ممقوت يصد السهام بأخري من نوعها، بينما لا أستحق ثواباً علي كرهي لهم إن لم أكن أمقتهم في حين أنني محبوب.. محبوب ممن.. منهم؟ من نفسي؟ من الآلهة الشياطين؟ هذا لا يهم، يكفي أن أكون شخصية محبوبة في ذاتها، ولكن هذا هراء، فأنا شخصية بغيضة لاجدال في ذلك، وعليّ أن أبني سعادتي علي هذا الأساس، وإلا فأنا ملعون من نفسي بقدر لعنتي منهم.
بودلير.. هذا الشيطان الملعون المحبوب، ولكن ما لي وله، إنني لا أنهج نهج أحد في الوجود وإلا أصبحت بشراً كبعض أحزاب البشر.
فاوست.. إنه معتوه، لقد رغب عامداً في الشيطنة وما هو بشيطان، دفع الثمن من دمه وأثبت المعاملة في صك كأنما يعقد صفقة في سوق مع أن الشيطنة هبة وموهبة، ولذا فما كاد الأجل أن ينصرم ويشرف المسكين علي أبواب الأبد حتي نراه يعول وينتحب كالنساء، وكلام كثير عن تأنيب الضمير والتوبة والندم، يا للعار.. كان عليه أن يفخر بنهايته كأي قديس استشهد في سبيل الله، فالحق أنه يجب أن يكون للأبالسة قديسون كما للأنبياء.
عيب البشر أنهم لا يثبتون علي حال فتأتيهم الرهبة في أعقاب الرغبة ويجري الندم في ذيول سعادتهم، أين هو الرجل الثابت الصامد كهرم خوفو؟ ولكنهم أمواج رقيقة مذعورة يقطعها عود من الشعب، هؤلاء البشر..
هذا وغيره وكثير سواء..
ما كان أتعسني منذ لحظة حين تمنيت ساعة من جمر ودم!
الرجل الصمل هو العنيد كالحمار، الغبي كالبغل، هو الذي لا يتمني غير نفسه، لهذا قدس جدودي الثور وعبدوه.
هذا وغيره وكثير سواه.
ولكن هل أنا حقاً كما أصور نفسي لنفسي أم أكون في الواقع شخصية أخري مخالفة؟ هل من أجالسهم وأحادثهم يدركونني في هذه الصورة أم تراهم يقولون "يا له من فتي طيب خجول"! وحق نفسي لأقطعن ألسنتهم، ولأدقن رءوسهم بالأرض.
ومع ذلك أفإن كنت غير نفسي وقابلت نفسي حول مائدة شراب فهل كنت أقول عنها مثل ما يقولون؟ هل يفرض علي الناس شخصية اجتماعية، أواجههم بها وينكرون علي أن أظهر بينهم بشخصيتي الفردية دكتور جيكل ومستر هايد.
لا كان الناس ولا كانت آراؤهم التعسة، إنهم إن قالوا عني هذا القول فإنما يقولونه ليستروا خوفهم مني ورهبتهم إياي وهذا جهد ضائع، فما أنا معني بخوفهم، أو مشتاق لرضائهم، أو شاعر بوجودهم، إنني وحدي من صنع نفسي.
ولكن....
ما لتلك الخواطر تزحم رأسي فتضي نفسي في يوم عرسي
أيكون هذا شعراً ؟ ما علينا، لأمض في بطن دنياي أحادثها فليس اليوم وقت المناجأة.
أوصلته هذه التأملات إلي خارج المدينة، فما أن أفاق منها حتي وجد نفسه وسط حقول مغشي عليها من فرط البرد، وقد أقفرت شعابها من كل دأب، وخلت أجواؤها من كل طائر ألقي بصره علي تلك المروج المذعورة فبدت له في إطار الصباح الرمادي كبعض أحلام النائم التي تنتابه في مطلع الفجر، لم يكن في الصورة المنشورة أمامه مشهد واحد حقيقي.
واستهوته هذه الفتنة الجديدة، فمضي وسط الحقول متخيلا أنه صاحب هذا الفضاء بأسره، فكره أن يكون غنيا غني طائلا فابتسم، ثم قهقه في صوت مكتوم، أن يكون صاحب ملايين.
إنه يستطيع حينئذ أن يكره البشر بكل ما أوتي من قوة وأن يظهر هذه الكراهية بشتي ما يحلو له من وسائل. يستطيع مثلا أن يشتري قانون الحكام وأن يبتاع ذمم أولي الأمر. فإذا ما أمن جانب الدولة وانزاح عن عاتقه خطر السجن سهل عليه بعدئذ أن ينال الناس في أعز ما يقدسونه وأن يسخر علناً بكل ما يضعونه موضع الاحترام وأن يسفه كل رأي يربط به القوم أمانيهم. له حينئذ أن يحقر ويلطخ كل معانيهم كالوطن، والحرية والمساواة، والعدالة، بل والدين نفسه- دون أن يخشي عقاباً أو يأبه بآراء الرعاع.
ويصبح في مقدوره أن يتفنن في هذه الأساليب وأن يجعل منها نظماً قائمة علي مؤسسات ثابتة تكون عنوان مسبة دائمة في جبين الناس وهم لايدرون. فهو يستطيع عن طريق ملايينه أن يجعل من سائس أصطبلاته زعيم حزب سياسي لايلبث أن يشتري له الأعوان، ويجمع من حوله الأنصار، ثم يحلي أصابعه بالجواهر ويرشق في سترته الأزهار، ويطلقه من بعد ذلك يخطب في قطعان الناس، فما أن يهل عليهم ببلاهته المجسدة وغبائه البشع حتي يضجوا بالهتاف والتصفيق وينتهوا بحمله علي الأعناق. وتصبح لغة الأصطبلات التي يحدثهم بها لغة السياسة المثلي وعنوان البراعة ورمز البلاغة.
فإذا استطاع بعد ذلك أن يوصله إلي كرسي الحكم.... ما أعظمها سخرية وكم تكون الطعنة نجلاء والمسبة فاحشة حين يجعله بعد ذلك من منصبه ويعيده إلي وظيفته الأولي فيعلم قطيع الخراف الآدمية أن حاكمهم الذي أشادوا بعبقريته لم يكن سوي سائس في اصطبل.
ألهته هذه السوانح الشيطانية حينا من الزمن فما إن أفاق منها حتي وجد نفسه ينتفض من فرط البرد، فقد كانت برودة الجو تنفذ في الجسم كإبر من جليد والريح تهب مثلوجة كأنها أنفاس الأبالسة، وكان صاحبنا قد غادر حجرته برأس عار وعلي منكبيه رداء خفيف مالبث أن تآمر مع الجو فاستضاف برودته.
نظر إلي يديه المقرورتين برهة وهو يبتسم، كانتا ناصعتي البياض لايشوبهما سوي صفرة خفيفة في سبابة اليد اليمني من أثر التبغ. وراقه ما لاحظه من نعومتهما ورقة أديمهما حتي كأنهما أكف العذاري الخود لا يفارقن مخادعهن ولاتلمس أصابعهن غير المحمل والحرير وقد بلغ من فرط رقتهما أن كادت البشرة تشف عما تحتها من عظام وشرايين لشد ما أعجبه هذا! إن يده ليست يد رجل..
غير أن البرد القاسي عاد يعكر عليه صفو راحته. فعمد إلي حائط متهدم ليحتمي في جوفه ولكنه وجد أن الفرقد سبقه إليه. وفجأة شعر بأن نفسه قد تخلخلت وباتت بغير أساس، وبأن صدره أصبح فارغاً خرباً موحشاً وكان كلما لفحه الريح بأكفه الميتة ازداد شعوره بوخزته وبقلة حيلته.
أجل ها هي الريح تصرخ في وجهه بأنه وحيد لا صاحب له ولاقرين، يقيناً أنه ولد من أبوين وكان لهذين الأبوين أقارب وانساب واصدقاء فأين ذهب هؤلاء جميعا إذ بات ثم أصبح فإذا به في عالم لايعرف من مخلوقاته أحداً. لم يكن يعنيه أمر هذه الوحدة وهو قابع في حجرته ولكنه وسط هذا البرد اللئيم شعر بحاجته إلي الدفء فتاقت نفسه إلي الجموع يستتر ويكمش.
إذن فما أتعس الإنسان! إنه تافه هفاف يصطنع مشاعره من درجة الحرارة ومن لون المرئيات ومن طعام كثير الفلفل. فهو يحب ويكره ويحسد ويثور، ويغضب وينتقم، ويرضي ويفرح، لأنه لمح قشرة موز ملقاة في عرض الطريق، أو رأي القميص الداخلي لامرأة سائرة أمامه متدلياً من تحت ردائها الخارجي، أو لانه سمع بائعاً ينادي علي بضاعته بنغمة شاذة. أتكون مشاعر الأميين من التفاهة والرقة بحيث تستثيرها هذه النكرات الحسية! وهل منع الإنسان حقا من أن يشعر شعوراً أصيلا ثابتاً لايحركه سوي الأمر الخطير والمعني الجسم؟
إذن ما باله قد ترك شيطنته وأنكر اعتزازه بوحدته وراح يسعي وراء الجموع متمنياً وجود القرناء لمجرد إحساسه بريح باردة تلفح وجهه!
ومع ذلك فإن هذه العلل العقلية جميعها لم تنجح في تحويل شعوره إلي الوجهة التي أراد ومالبث أن أحس بأن حاجته إلي الدفء قد تدرجت إلي نوع من الحنين الملح إلي شيء مجهول لايستطيع إدراكه. شعر بأنه يريد أن يحتضن إلي صدره شيئاً ما وأن يطبق عليه بذراعيه فيعتصره. كأن في أحشائه قطباً مغناطيسياً يتلهف إلي الاكتمال بقطب معاكس أو كأنما هو جائع إلي شيء فيريد أن ينطلق في بسيط الأرض باحثاً عن الشبع عجبا! أيكون "إبليس الصغير" متعطشاً إلي حب أمرأة!
إنه يذكر أن هذا الشعور بالجوع العاطفي كثيراً ما انتابه وهو لايزال طالباً في الجامعة تلك الأبنية المهيبة الأنيقة التي لاتحمل من معاني اسمها سوي أنها مكان معد لاجتماع نفر متفرق في صعيد واحد. كأن يخرج منفرداً ليجوس في الحدائق المحيطة بها فيخطر في طرقاتها المورقة في صعيد واحد. كان يخرج وتقع عيناه علي النبات الأخضر وعلي الماء الراكد السجين، ويطرق أذنيه صوت الدوح تسامر جاراتها، وشدو الطيور تسمع أهل الأرض أنغام السماء. وحين تتعب قدماه وتسأم نفسه كان يأوي إلي مقعد مهجور في ركن ظليل فيجلس ويطرق. وما من مرة طال به المقام في هذه العزلة الصامته إلا وتنبه من أحلامه الحزينة علي إحساسه بدمعه الساخن يتساقط علي كفيه.
كان يبكي من غير وعي، إلا أن وعيه الداخلي كان يدأب علي أشعاره في كل بادرة تسنح له بأنه وحيد وأنه محروم، كان يحس بأن نفسه تكاد تتشقق من شدة الجفاف وأن فؤاده يصرخ مطالباً بالعطف والحنان اللذين لايستطيع العيش بدونهما.
ويذكر أن في ذلك الوقت كان إذا ذهب إلي مسرح أو سينما لم يكن يعني بحل ما يعرض عليه من مشاعر مصورة، غير أن ثمة نوعاً واحداً من المشاهد لم يفشل مرة في استثارته وتحريك لواعجه فكان يكفيه أن يري أماً تمر بيدها علي جبين ابنها المحموم أو أختاً تستقبل في أحضانها أخاها العائد من سفر طويل، أو فتاة تحمي عشيقها بجسمها لتدفع عنه خطراً ما، حتي يشعر بأن قلبه يعتصر عصراً.
بل إن كثيراً من مشاهد الحياة العادية ككلب يقبل مبصبصاً بذنبه لتحية صاحبه أو زوج يساعد زوجه علي الصعود في الترام، أو بائع جرائد يصلح من هندام زميل له، أو شخص يأخذ بيد أعمي ليوصله إلي الجانب الآخر من الطريق، أو بائع فقير يجود بشيء من بضاعته علي شحاذ، أو أم ترقب طفلها وهو يلعب وسط المروج.. كان أي واحد من هذه المشاهد كفيلا بأن يغمر عينيه بالدمع ويجعل شفتيه ترتجفان، ثم لايلبث أن يعض علي نواجذه ويمضي في طريقه كسيفا وقد عصفت به مشاعره المضطربة.
وكان يخيل إليه ألا نجاة له بغير الحب. فالحب علي حسب ما كان يري هو المظهر والمصدر لما يحتاج إليه الفتي من حنان عاطفي.
وأخيراً أحب، ثم قبع في وكره ينتظر الثمار. فكان بعد ذلك ما لا يود أن تمر مجرد ذكراه بباله. وإذا به ذات يوم يهجم علي حبه فيخنقه ثم يحطم تمثال من أحب.
وقال - لأكن هذا الفتي الصلب العود المصفح القلب الذي يأنف من أن يبذل أنبل مشاعره في الهوس والسخافات. وكان يحلو له أن يردد قول الأعرابي "ما بال الرجل منكم يموت في هو ي امرأة! إنما ذلك لضعف فيكم يابني عذرة".
وأحاط نفسه بالسياج فأصبح في عصمة وأنفه منيعة وبدأ يشعر بجبروت الآلهة.
فما باله اليوم إذن يعود إلي وساوس إيقاع الشبان!
ازداد شعوره بالبرد فغادر مكانه وانثني صوب المدينة، وكان كلما خطا خطوة آلمته قدماه وكأنما يسير علي قتاد مرهف.
وبعد أن سار شوطاً مضنياً وقف تحت خميلة وارفة وهو مقرور، ووقع بصره علي قرية بعيدة يتصاعد من أكواخها الدخان فاشتاق النار. وكانت القرية مضمومة علي منازل متقاربة تتوسطها قبة بيضاء لجامع أو لمدفن أحد الأولياء. ولم يكن بجوار القبة مئذنة. وفي أنحاء متفرقة من هذا المشهد قامت أشجار الجميز الفرعوني العجوز فبدت كشحاذين مكفوفين يدبون علي عصي. وظهرت في الأفق البعيد قلعة القاهرة الشامخة تشرف علي المدينة فتدمغ كل منظر بطابعه القاهري. وكان الضباب يغلف هذا المشهد بأسره فيبدو كصورة خيالية من تلك الصور التي تصنع خصيصاً للسائحين الأجانب فيبتاعونها كتذكار ممثل لطابع القاهرة.
غادر مكمنه من جديد واستأنف السير حثيثاً حتي وصل إلي المدينة. وكانت الطرقات لاتزال مقفرة من السابلة والعربات تجري مذعورة بين حين وآخر كأنما تفر من عدو مطارد وكان السكون مخيما في كل مكان حتي خيل إليه أنه يهبط مدينة قد اكتسحها الغزاة فسلبوا متاجرها وفتكوا بأهلها.
شاهد مطعما في طريقه وشعر بأنه جائع فدخله وبدأ يأكل ما طلب من طعام غير أنه لم يتناول سوي لقيمات حتي أحس بأنه قد فقد شهيته تماماً فأمسك عن الأكل وأشعل لفافة أخذ يشهق دخانها بنهم.
وفجأة وقعت عيناه علي فتاة في الجانب الآخر من الطريق تقف أمام نافذة مكتبة، فتاة متوسطة القامة هيفاء القد، ترتدي السواد ولها شعر في لون الذهب. ولم تكن هذه أول فتاة صادفها في يومه، فقد مرت أمامه كثيرات غيرها رآهن يهرولن مطرقات كأنما قد مات أزواجهن وأخواتهن ثم لايلبثن أن يتلاشين في الضباب. ومع ذلك فقد وجد نفسه -ولسبب مجهول - يغادر مائدته ويدفع حسابه ثم يخرج إلي الطريق، لعل ما أثار اهتمامه بهذه الفتاة هو أنها لم تكن مذعورة وجلي كسائر الخلق في هذه الحرب بل وقفت منتصبة في مهابة وهدوء تتصفح في إمعان وتركيز الكتب المعروضة في واجهة المكتبة.
وقف برهة يتأملها من جانب الطريق الآخر، وخيل إليه أنها شاعرة بوجوده إذ لم تلبث حيناً حتي حانت منها التفاتة لم تستغرق ثواني خاطفة، وهبط علي الفتي تردد وخشية ، فهم بالرجوع إلي المطعم ولكنه وجد الفتاة تدخل المكتبة فعبر الطريق للتو ولحق بها، ولما دخل المكتبة جعل يحدق فيها عن بعد فرأي عينين زرقاوين وشفتين ورديتين، وبشرة في لون الحنطة. وفيما عدا ذلك كان وجهها مغلقاً صامتاً لا تبين قسماته عن عاطفة أو معني، ثم تكلمت فسمع صوتاً كترجيع الريح وسط الغابات المنعزلة في قمم الجبال. كانت تسأل عن ديوا لشاعر مات في شرخ شبابه فعرف الناس بعد موته أنه لم يكن بشراً مثلهم بل روحاً علوية هبطت عليهم من السماء، وبدا علي الكتبي المنكمش في دثاره أنه لم يسمع باسم هذا الشاعر من قبل. فهز رأسه واعتذر عن عدم وجود هذا الكتاب لديه.
غير أن الفتاة لزمت مكانها فلم تتحرك وصمتت برهة ثم قالت في أمارة وسيطرة بأنها مستوثقة من وجود هذا الكتاب الذي تطلبه لديه، وتضايق الكتبي من لهجة الفتاة فأجاب في حدة خفيفة بأنه أعرف الناس ببضاعته وها هي الكتب معروضة أمامها فلتبحث فيها كما تشاء.
وكان هو في هذه الأثناء قد اقترب حتي أصبح يواجه الفتاة فلما سمعها تعبر عن استيثاقها من وجود الكتاب امتلأ قلبه دهشة، فقد كان هو الآخر يعرف أن الكتاب موجود كما كان يعرف موضعه من المكتبة، ولكن هذا شيء آخر. فهو يعرف مواضع جميع الكتب في معظم مكتبات المدينة لأنه يعيش معظم حياته في حناياها، أما الفتاة فكيف تأتي لها هذه المعرفة وهو لم يشاهدها في سوق الكتب من قبل، ثم إنها لم ترد الكتاب ولم تعرف موضعه!
وفي حركة هادئة رفع الفتي يده فاستخرج الديوان من وسط الكتب وقدمه إليها بغير لفظ، ولكنها لم تتناوله منه إلا بعد أن ظلت يده مبسوطة به بعض الوقت، فلما أصبح في كفيها. ألقت عليه نظرة ثم رفعت للفتي وجهها الصامت وتحركت شفتاها بلفظ فرد:
- أشكرك
أما هو فلم يجب، بل ظل يحدجها بعينين مدهوشتين كأنما يشاهد رؤيا من عالم آخر، ومع ذلك فلم يبد علي الفتاة أنها تضيق بنظراته، ولكنها أيضاً لم تبتسم له بل قالت بعد برهة:
- لم تحملق في؟
ولكن الفتي ظل علي صمته حيناً طويلاً وأخيراً تكلم من غير أن يحول بصره عنها.
- آه لو أن شعرك أسود...
- إن ردائي أسود.
وبعد برهة صمت استطردت قائلة:-
- أري أنك تهتم بالألوان.
- بل بما توحي به من معان. إن السواد هو العنصر الذي اعيش فيه.
- السواد؟..
- أكان من الممكن أن تكون زنجية
- إن عيني زرقاوان.
- انهما جميلتان.
- ولكنهما لاترضيانك؟
- لا أدري.
- ثم قال مقطباً:-
- من أنت!
- أنا...
وصمتت برهة ثم أجابت:-
- إنني أحب قراءة شعر الملائكة.
خرج معها إلي الطريق وسار بجوارها وهو مقطب. وبعد برهة سمعها تقول له:-
- لم تتبعني؟
التفت إليها وقد ازداد وجهه عبوساً ثم خاطبها في شيء من الحدة:
- لست اتبعك بل أسير إلي جوارك، إن كلينا مدفوع بيد واحدة وهو ما يضايقني.
فبدا علي شفتي الفتاة طيف ابتسامة غامضة
- حقاً!
ووجد الفتي نفسه يصرخ لغير سبب
- أجل وكأنني موشك علي الاستغاثة بالشرطي ليمنعك مني.
- ولكنك تركت مكانك ولحقت بي.
- إذن فقد رأيتني حين كنت في المطعم،
لم تجب الفتاة فساد الصمت بينهما. وعلي حين غرة توقف الفتي عن السير وقبض علي ذراع الفتاة بأصابع عصبية وأخذ يحدجها بنظر من نار.. أما هي فلم يبد عليها أثر ما لهذه المفاجأة بل نظرت إليه في هدوء وهو يقول:-
- أكنت تتوقعين رؤيتي اليوم؟ اعترفي.
ولكنها رفعت عينيها إلي السماء ولوحت بيدها في الفضاء.
- اليوم ضباب، انظر، ما أشد التفافه حولنا.
واستأنفا السير فعاد إلي اطراقه وهو كظيم. أدرك لتوه أن هذه الفتاة الغامضة تقبض عليه بيد من حديد وأنها تستطيع معه ماتشاء..
لقد هبطت عليه من الضباب.. ومع ذلك شعرت بأنها ليست من عنصره، فهو لايستطيع أن يسيطر عليها كما يسيطر علي مخلوقات الظلمات التي يعيش فيها. فهو وسط الأبالسة حاكم وأمير، وفي حنايا الجحور المستوردة يتأتي له أن يأمر فلا يرد له أمر، ثم إنه يقدر علي التحكم في معظم النفوس البشرية إن استطاع أن يدلف إليها من المسارب التي تلائمه، مسارب الدود الأملس والحياة السوداء حيث لا حكم للقسوة السوقية ولا للعنف القبيح بل يطلق المجال للحيلة المتلوية والعقل النافذ والإيهام البارع، ولكنه لايجد مع هذه الفتاة ثغرة ينساب إليها منها:
آه لو كانت سوداء الشعر ولم تكن عيناها زرقاوين..
ومع ذلك فقد أحس بلذة غريبة في سيطرتها عليه وعبوديته لها، وتأمل هذا الشعور الجديد الذي يملأ صدره فأحب لو استطاع دوامه بعض الحين ليتمكن من وضعه تحت مجهره فيجري عليه تجاربه، وحدث نفسه بأن لا خطر عليه من هذه العاطفة النامية مادام هو لا يوحد ما بينها وبين نفسه أو يلقي بكيانه في خضمها. فهو، علي يقين من قدرته علي إبقاء رأسه فوق سطح الماء. وما دام الأمر كذلك فهو يستطيع أن ينتشل نفسه متي شاء. فهذه القدرة علي تجنيب نفسه من قيد وكفالة الحرية التامة لها في الفكر والعمل هي أثمن ما استطاع انتزاعه من كبد هذه الدنيا البغيضة، وهو في سبيل محافظته علي هذه الإمارة الروحية قد قطع صلاته بكل الناس ونفض عن قلبه قيدا علي عقيدة حينئذ أحس بأنه يمسك الكون في كفيه وبأنه في عصمته المعنوية هذه أقوي بكثير من كل طاغية أو امبراطور. إذ لاشيء علي الأرض يستطيع أن يعتدي علي شبر من آفاته الممتدة إلي ما وراء النجوم. ولاشعب يهدده بالقيام في وجهه ولاثورة تقدر أن تسقطه عن عرشه، في حين أن الحكام عبيد لإرادة المحكومين، وعبيد لنفوسهم المشبعة بأغراض عمياء تقودهم من أنوفهم إلي هنا وهناك.
التفت إلي الفتاة وقال:
- أترضين بمصادقتي؟
- لم؟
- لأنني أريد أن أحبك
أطلقت الفتاة ضحكة من مقطع واحد وقالت:-
- أنت فتي طيب القلب
أثارت هذه الإجابة ثورته فصاح
- لماذا تراوغين؟
- لست أراوغ
- بل أنت ككل النساء، هل المرأة تستطيع إلا أن تكون قطرة من زئبق تتخذ كل شكل ولا شكل لها، وتسعي إلي كل غرض من غير أن يكون لها غرض! لماذا لاتكونين قطعة من الحديد الصلب؟
- ماذا تريد؟
- أن نتحاب.
- أنت لا تستطيع الحب.
- إنني إذا أردت الحب فلا شيء في العالم يمنع من قدرتي عليه.
- ولكن الحب ليس إرادة بل هو علي العكس من ذلك.
نظر الفتي إلي وجهها الباهت فأحس بالحنان ينفجر من صدره وود لو حوي هذا الوجه في يديه وغمره بالقبل.
- أجل..
صمتت الفتاة برهة طويلة وهي سائرة إلي جواره. ثم التفتت إليه مبتسمة وقالت:
- هل أنت مستعد لأن تنجب مني أطفالا؟
- توقف الفتي عن السير فجأة وصرخ مذعوراً:
- لا لا. إلا هذا.
ضحكت الفتاة وضربت بكفه علي كفة قائلة:
- أرأيت....
- لا. إني لا أحب الحياة فكيف تطلبين مني أن أغينها علي الاستمرار والبقاء.
- ولكن أنا هي الحياة أيها الفتي الطيب. فإن رغبت في فعليك أن تحب الحياة أولاً.
واصل الفتي سيره إلي جوارها وهو مغيظ، فها هي تكرر دعوته "بالفتي الطيب القلب" هذا التعبير البغيض الذي خشي منذ لحظاته أن يكون المجتمع قد أطلقه عليه. وبعد برهة رفع رأسه وقال:
- هل تعدين بأن تبقي إلي جواري دائما فأستطيع أن أضغط علي لحم ذراعك كلما أردت؟
- إنني بجوارك مادمت تؤمن بأن الحياة ليست إرادة وبأن الحياة طاعة وخضوع ثم...
- ثم ماذا؟
- لابد أن تنجب مني أطفالاً.
وجم الفتي، ولكن وجومه لم يستغرق سوي برهة قصيرة انطلق بعدها يقول:
- سأفعل كل ماتطلبين. إن عبوديتك تلذ لي وأشعر بأن أحب الأشياء إلي هو أن أطيع امراً.. إنني أعبدك، أتفهمين؟
وأمسك بكفها يقبلها.
شعر بسعادة غامرة لم تعرفها حياته من قبل. وود لو اختلي بالفتاة ليبكي بين يديها بدمع "غزير ثم يحدثها عن كل ماضيه" أراد أن يبثها لواعجه وأن يطلعها علي أشجانه التي تضنيه ثم يسألها الصفح عما سلف ويطلب منها الإرشاد والعون علي المستقبل.
لقد طلبت منه أن يخضع للحياة وأن يتنازل عن إرادته.
آه لو درت بأنه الآن مستعد لأن يكون أسيراً لها وعبداً لأهوائها... أن يكون خادمها وكلبها وموطيء قدميها. فإن مرت بأناملها الناعمة بعد ذلك علي جبهته أو نادته باسمه أو ضحكت في وجهه فقد نال كل شيء.
أجل إن عبوديته لها أجمل من حرية نفسه أضعافا. كل شيء يهون ويتضاءل مادام جسدها الحار إلي جواره.
أمضي مع الفتاة بقية النهار في حان فلما أن جن الليل وجد نفسه يسير معها في دروب مظلمة، وكان طوال هذه الفترة يحدب عليها ويدللها كما لو أنها طفل صغير ناعم، وتمني لو استطاع أن يحمل عنها عبء التنفس والكلام والحركة حتي يجنب مخلوقته الثمينة كل عناء أو طيف عناء، فكان يحضر إليها كل ما تطلب ويعد لها ماتشاء من مأكل ومشرب وصارت أعظم أمنية له أن يراها راضية قانعة في ركنها الدافيء حيث يغمرها بنظراته الملهوفة، وهو في كل هذا يدأب علي تلمسها والضغط علي يدها حتي يطمئن إلي بقائها بجواره.
ولأول مرة في حياته أدرك معاني التقديس والعبادة والصلاة.
كان الجو لايزال فاتك البرودة شديد العتمة والريح تصفر في الطرقات كذئاب جائعة ولقد خيل إليه أول أن خرج من الحان أن هذه العناصر كثيفة. وكأنما البرد واحتجاب الفتاة عنه قد تآمر علي النفوذ إلي عاطفته الوليدة فما لبثا أن غلفاها في إطار من الضباب ولم يعد الفتي يشعر بالأثر البالغ الذي كان لفتاته عليه من لحظاته بل أصبح ينصت في وجل إلي زمجرة الريح الغاضبة فبدت له كوعيد طاغية مستبد يهدده بالويل والثبور.
أحاط الفتي خصر فتاته بذراعيه وضغط عليه متمتما:
- لا لن يأخذوك مني، سأقاومهم إلي النهاية.
ولكن الريح اشتدت وأخذت تلفح وجهه بسنان كالإبر فأدرك الفتي أن صحبته القديمة قد بدأت العمل، فسرعان ماشاهد الضباب يهبط من جديد علي المدينة ليلف معالمها ويحيل مشاهدها إلي أحلام مخيفة كخرافات الأساطير.
سحب الفتي ذراعه الذي كان يلف به صاحبته وابتسم في حسرة:
- لابأس أيها الرفاق. اتركوها لي حقبة وأنا أعاهدكم بأني لن أنجب منها أطفالاً.
أما الريح فلم تهدأ، وأخذ الضباب يثقل ويتكاثف حتي هذه الترضية لم تخفف من حدة عشيرته الباغية.
- لماذا أنتم غضاب! اتركوني برهة وثقوا بأنني سأنجح في ضم من تدعي أنها الحياة إلي زمرتكم يا أهل الظلام.
التفتت إليه الفتاة تسأله:
- فيما تفكر؟
لم يجب الفتي أول الأمر، ثم انطلق يضحك ضحكاً مكتوماً لم تنفرج عنه شفتاه وقال:
- أفكر في رجل له ذنب وفي رأسه قرنان.
نظرت إليه الفتاة في لهفة فخيل إليه أنه قد نجح في إخافتها. ولأول مرة في هذا اليوم أحس بيدها تمسك بذراعه وتضغط عليها. لقد كان هو الذي يبدؤها دائماً بالمخاطرة والعناق فماذا دفع الفتاة الساعة لأن تكون البادئة! أتراها قاربت منزلها فهي تحييه قبل أن تفارقه؟ أم لعلها شعرت بما يدور في رأسه من أفكار فهي تحاول أن تشد عضده ليقوي علي مكافحة غرمائه؟
إنها إن همت الآن بفراقه فعليه أن يتمالك نفسه فلا يظهر حسرة أو حزناً بل يسألها في عدم مبالاة عن موعد لقائهما المقبل ثم يصافحها وينطلق.
وسمع الريح تهمس في أذنيه وتقول:
- بل فلتعطها نقوداً فهذا أوقع.
- كانا يسيران علي أفريز ضيق والفتاة تتمتم بلحن خافت حزين. وصادفهما حائط أبيض ممدود في جوف الليل كصراط يوم القيامة. وهم الفتي بسحب فتاته إلي ناحية الحائط الخارجية ولكنه وجدها تلزم ناحيته الأخري فخطا ليلحق بها، ثم خطر له أن لا يتبعها، لم يتبعها؟ فليمض كل منهما من أحد جانبي الحائط الذي إن فصلهما برهة فلسوف يلتقيان في نهايته، ولكنه لم يكد يخطو خطوة في الجانب الآخر حتي هبط عليه شعور غامض قابض فعزم علي أن يعود فيلحق بصاحبته، ولكنه لم يفعل بل واصل سيره فما إن بلغ منتصف الحائط حتي سمع همساً يملأ مسامعه:
- إنك لن تتبعها، ها أنت حر من جديد فهنيئاً لك بسيادتك المستعادة أنت حر، حر، حر...
ووجد نفسه يقهقه قهقهة شيطانية ويقول:
- أجل ، لم تعد الفتاة معبودتي وإلهي، ما هي إلا حشرة مسكينة سأجري عليها تجاربي بينما أوهمها بأنني مشغوف بحبها، ها! ها! هاي!
وفجأة شعر بأن قلبه يهبط إلي غير قرار، وأحس بالدمع يسيل ساخناً من عينيه والغصة تملأ حلقه فصرخ قائلا:
- رحماك أيتها النفس العاتية ! اتركيني أعش...
وأسرع إلي نهاية الحائط وجال بعينيه باحثاً عن الفتاة فلم يجدها...
لم يحاول البحث عنها، بل سار في طريقه مطرقاً وهو موقن بأنه قد فقدها إلي الأبد.
وفي هذا الحين دوي الفضاء بصوت الرعد القاصف وومض البرق في عرض السماء، ثم بدأ المطر ينهمر.
وتلاشي شبح الفتي في جوف الظلمات من جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.