وضع حجر الأساس لإنشاء الحديقة المركزية في مدينة العريش    البورصة المصرية تتراجع بمنتصف التعاملات بنسبة 2.68%    رئيس الوزراء: الدولة جاهزة بكل الحوافز الممكنة لدعم القطاع الصناعي    بتكلفة 5.5 ملايين جنيه.. محافظ الشرقية يتابع أعمال رصف وتطوير شوارع الحسينية    بعد انهيار أرباحها.. إيلون ماسك: "تسلا" ليست شركة سيارات كهربائية    وزير إسرائيلي: بايدن يضر بتل أبيب.. ولو كنت أمريكيا لانتخبت ترامب    خبير دولي: لا سبيل لتحقيق الأمن واستقرار المنطقة سوى إقامة الدولة الفلسطينية    في ذكرى تأسيسه ال 117.. كم عدد بطولات النادي الأهلي في جميع المسابقات؟    شوبير يكشف عن مفاجأة لجماهير الأهلي قبل مواجهة مازيمبي    117 سنة أهلي.. «ولا في غيره يفرحني» (ملف خاص)    الداخلية: ضبط 59 طن دقيق مدعم خلال 24 ساعة    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    خبير تربوي: منصة «امتحانات مصر» تغطي جميع الصفوف الدراسية    كشف غموض العثور على جثة شخص بالقليوبية    فيلم «عالماشى» يحقق 133 ألف جنيه في شباك التذاكر أمس    أبرز فعاليات قافلة قصور الثقافة بقرية المعدية في البحيرة ضمن «حياة كريمة»    مع ارتفاع درجات الحرارة.. «الإفتاء»: اكثروا من قول هذا الدعاء    مستشفيات جامعة المنيا تستقبل الدفعة الأولى من مصابي غزة    مدبولي: دعم الصناعة أصبح يؤتي ثماره في العديد من القطاعات الإنتاجية    «برلمانية الوفد بالشيوخ» مهنئة السيسي بتحرير سيناء: مسيرة طويلة من التضحيات    نقيب الأطباء: تنفيذ العقوبات الصادرة بقضية الاعتداء على طبيبة دمياط    لتأكيد الصدارة.. بيراميدز يواجه البنك الأهلي اليوم في الدوري المصري    مفاجأة.. يوسف أوباما يقترب من نادي بيراميدز    نائب رئيس جامعة عين شمس يترأس الاجتماع الدورى لمجلس شئون الدراسات العليا والبحوث    «خطة النواب» تعقد 4 اجتماعات اليوم لمناقشة الموازنة العامة للدولة (تفاصيل)    إزالة 27 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بمناسبة الذكرى ال42 لتحرير سيناء    بسبب خلافات مالية.. السجن 10 سنوات لتاجر أسماك بتهمة قتل عامل في الإسكندرية    بدء اليوم الثاني من مؤتمر وزارة العدل عن الذكاء الاصطناعى    7 أيام إجازة.. اعرف موعد شم النسيم وعيد العمال رسميًا بعد التعديل    الأمم المتحدة تدعو لإجراء تحقيق بشأن مقابر جماعية في محيط مستشفيين بغزة داهمهما الاحتلال    اليوم.. رامي جمال يطرح ألبومه الجديد "خليني أشوفك"    نصيحة مهمة لتخطي الأزمات المالية.. توقعات برج الجوزاء في الأسبوع الأخير من أبريل    بالسعودية.. هشام ماجد يتفوق على علي ربيع في الموسم السينمائي    انتفاضة في الجامعات الأمريكية ضد حرب غزة.. والخيام تملأ الساحات    أ ف ب: إيران تقلّص وجودها العسكري في سوريا بعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة    طريقة عمل عصير الليمون بالنعناع والقرفة.. مشروب لعلاج الأمراض    حظر سفر وعقوبات.. كيف تعاملت دول العالم مع إرهاب المستوطنين الإسرائيليين بالضفة الغربية؟    النقل: تقدم العمل بالمحطة متعددة الأغراض بميناء سفاجا    مصر تفوز بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الإفريقية    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    «خيال الظل» يواجه تغيرات «الهوية»    الكونجرس الأمريكي يقر قانون حظر تيك توك    "لا يرتقي للحدث".. أحمد حسام ميدو ينتقد حكام نهائي دوري أبطال آسيا    رئيس هيئة الرعاية الصحية: خطة للارتقاء بمهارات الكوادر من العناصر البشرية    رئيس «المستشفيات التعليمية»: الهيئة إحدى المؤسسات الرائدة في مجال زراعة الكبد    متحدث "البنتاجون": سنباشر قريبا بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    تعرف على مدرب ورشة فن الإلقاء في الدورة ال17 للمهرجان القومي للمسرح؟    بالتزامن مع حملة المقاطعة «خليه يعفن».. تعرف على أسعار السمك في الأسواق 24 أبريل 2024    بايدن يعتزم إرسال أسلحة جديدة لأوكرانيا اعتبارا من "هذا الأسبوع"    نتائج مباريات الأدوار من بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    مصطفى الفقي: مصر ضلع مباشر قي القضية الفلسطينية    رئيس البنك الأهلي يحكي كواليس رحيل بابافاسيليو    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن باتمان ومشكلة القوي المؤسسية
كيف يرد الأبطال الخارقون علي الثورات الشعبية

كيف رد الابطال الخارقون، مثل باتمان وسبايدرمان علي ثورات الربيع العربي، وبالاساس علي نظيرتها في أمريكا "احتلوا وول ستريت؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي يشغل بال الانثروبولوجي الامريكي ديفيد جرايبر في الفصل الذي ننشر ترجمته هنا، ويحمل اسم "باتمان وأزمة القوي المؤسسية، من كتابه "يوتوبيا القواعد: حول التكنولوجيا والغباء والمباهج السرية للبيروقراطية".
يجيب الكاتب علي هذا السؤال عن طريق تحليله لتاريخ الابطال الخارقين الذين ظهروا ابتداء من الحرب العالمية الثانية علي هيئة قصص مصورة للمراهقين، مدعيا أنه رغم قول هذه الاعمال أحيانًا أشياء مهمة عن نفس الانسان، فإن ثيمه الاشرار الذين يريدون حكم العالم والابطال الخارقين المتصدين لهم، تحمل جذورها ميولا محافظة ويمينية، بل والانكي أنه رغم ما يبدو ظاهريا من اعتمادها علي الخيال إلا أنها تعادي الخيال السياسي، ولا تسمح بالتمرد إلا في حدوده الدنيا، وفقط فيما يتصل بالسيارات والاكسسوارات الغريبة والقدرات الخارقة لابطالها.
في السبت الموافق الأول من أكتوبر عام 2011، اعتقلت شرطة نيويورك سبعمائة من نشطاء حركة "احتلوا وول ستريت" أثناء محاولتهم عبور جسر بروكلين في مسيرة. برّر العمدة بلومبرج ذلك بقوله إن المحتجين كانوا يُعطلون المرور، وبعد خمسة أسابيع، أغلق العمدة بلومبرج ذاته جسر كوينزبورو القريب أمام المرور لمدة يومين كاملين، لتصوير الفيلم الأخير من ثلاثية باتمان لكريستوفر نولان "بعث فارس الظلام" The Dark Knight Riss))، وعلّق الكثيرون علي ما يحمله هذا الحدث من سخرية.
ذهبت منذ بضعة أسابيع لمشاهدة الفيلم مع أصدقائي من حركة "احتلوا"، وقد اعتُقل معظمهم علي الجسر في أكتوبر، وكنا جميعًا نعرف أن الفيلم بالأساس حلقة طويلة من البروباجاندا ضد حركة "احتلوا"، ولم يزعجنا ذلك. ذهبنا إلي المسرح أملا في الاستمتاع، كما يمكن لشخص غير عنصري وغير نازي مشاهدة عرض "ميلاد أمة" أو "انتصار الإرادة". توقعنا أن يكون الفيلم عدائيا، أو حتي هجوميا، لكن لم يتوقع أي منا أن يكون سيئا.
أريد التوقف هنا للحظة للتفكير في ما يجعل الفيلم بهذه الفظاعة، لأنني بصورة غريبة أعتقد - وذلك المهم- أن فهمنا للعديد من الأشياء، عن الأفلام والعنف والبوليس وطبيعة قوة الدولة ذاتها، يمكن أن يعزَّز عندما نحاول تحليل سبب كون فيلم" بعث فارس الظلام" بهذا السوء تحديدا.
إحدي القضايا التي يمكن استخلاصها مباشرة من البداية، هي أن الفيلم هو قطعة بروباجاندا مضادة لحركة "احتلوا"، ولا يزال البعض ينكر ذلك، وقد أصدر المخرج كريستوفر نولان بيانا أكّد فيه أن السيناريو قد كُتب قبل بدء الحركة، وادعي أن المشاهد المشهورة لاحتلال نيويورك "جوثام" مستوحاة في الحقيقة من رواية ديكنز عن الثورة الفرنسية، لا من "احتلوا وول ستريت" ذاتها، وذلك يبدو لي مخادعا، فالجميع يعرف أن سيناريوهات هوليوود تُعاد كتابتها باستمرار أثناء سير عملية الإنتاج، لدرجة أن الصورة النهائية قد لا تمت بصلة للسيناريو الأصلي، وأيضا فيما يتعلق بالرسائل، وحتي في تفاصيل تصوير المشهد، لنجعل الشرطة تواجه أتباع (باين) أمام بورصة نيويورك أو في تعديل صغير لنغير (لنتحكم) إلي (لنحتل). يمكن أن يصنع ذلك فارقا كبيرا. هناك أيضا حقيقة أن الأشرار يحتلون وول ستريت بالفعل ويهاجمون البورصة.
ما أريد مناقشته بدقة هو الرغبة في إثارة الانتباه، وحقيقة أن صناع الفيلم كانت لديهم الجرأة لمناقشة إحدي القضايا المهمة وقتها، وهو ما أفسد الفيلم، وهذا محزن بالتحديد أن الفيلمين الأولين في الثلاثية "بداية باتمان" Batman Begins) ) و"فارس الظلام"The dark knight) ) اشتملا علي لحظات بلاغة أصيلة، وأظهر نولان بصنعهما قدرته علي قول شيء مهم عن سيكولوجيا الإنسان، وبالتحديد العلاقة بين الإبداع والعنف، (من الصعب تخيل مخرج أفلام حركة ناجح لن يفعل ذلك)، وكان "عودة فارس الظلام" أكثر طموحا، وجرؤ علي التحدث علي مستوي فخم ملائم لوقته، ولكنه نتيجة لذلك صار غير متماسك.
لحظات كتلك تنويرية جدا، أولا لأنها تتيح نوعا من المنافذ للنظر إلي طريقة للتفكير في ما تعنيه أفلام الأبطال الخارقين أو الأبطال الخارقين أنفسهم في الحقيقة، وبدورها تعيننا علي الإجابة علي سؤال آخر: ما سبب الانفجار المفاجئ لإنتاج تلك الأفلام؟ هناك في البداية حقيقة دراماتيكية بمفادها تحل الأفلام القائمة علي القصص المصورة (Comics)، محل أفلام الخيال العلمي، علي ما يبدو، كصورة رئيسية لأفلام التأثيرات الخاصة ذات الإقبال الجماهيري الكبير في هوليود، بنفس سرعة حلول أفلام الشرطة محل أفلام الغرب كأفلام حركة سائدة في السبعينيات.
لماذا بدأ الأبطال الخارقون المألوفون فجأة يُظهرون قلقا، وخلفيات عائلية، وتناقضات عاطفية، وأزمات أخلاقية، وعدم ثقة بالنفس وحياة (أو صراعًا) داخليين معقدين؟ ولماذا -وهذا صحيح ولكنه غير ملحوظ بالدرجة نفسها- أصبحت حقيقة حصولهم علي روح تجبرهم علي ما يبدو علي اختيار توجه سياسي معلن؟ قد يجادل أحدهم أن ذلك لم يحدث في البدء مع أشخاص القصص المصورة، لكن جيمس بوند، والذي في تجسده التقليدي كعدو خارق للأشرار هائلي الذكاء، كان نوعا من النسخة السينمائية لذات الشيء، فقد أعطي كازينو رويال لبوند عمقا سيكولوجيا، وفي الفيلم التالي كان بوند ينقذ سكان بوليفيا الأصليين من مخصخصي المياه الأشرار.
مال سبايدرمان إلي اليسار كما مال باتمان
إلي اليمين، وذلك منطقي بصورة ما، فالأبطال الخارقون ناتجون عن خلفيتهم التاريخية. سوبرمان ابن فترة الكساد الكبير وفتي مزارع من آيوا، وباتمان بليونير لاهٍ، ووريث مجمع الصناعات العسكرية التي أنشئت -كما ظهر هو- في بداية الحرب العالمية الثانية، بيتر باركر ابن الستينيات، فتي طبقة عاملة متحذلق من كوينز وحُقن بشيء غريب في عروقه، لكن في آخر فيلم أصبحت الرسالة الضمنية أكثر صراحة - يقول قائد البوليس "أنت لست بطلا، أنت أناركي. وعلي وجه الخصوص عندما يُصاب سبايدرمان برصاصة بوليس يُنقذه التضامن المتدفق للطبقة العاملة، حيث يتحدي عشرات عمال الروافع عبر مانهاتن أوامر عمدة المدينة ويتحركون لمساعدته. كان فيلم نولان هو الأكثر طموحا من الناحية السياسية، لكنه كان الأكثر سطحية بوضوح، لأن فئة أفلام الأبطال الخارقين لا تعبر عن رسائل اليمين، وليس هذا بالطبع الاستنتاج النهائي الذي مال له النقاد الثقافيون في الماضي.
ما الذي يمكن قوله إذن عن سياسة أفلام فئة الأبطال الخارقين؟ من العدل علي ما يبدو أن نبدأ بالبحث في روايات القصص المصورة، حيث إنها مصدر كل شيء في الأساس، مثل عروض التليفزيون، وسلاسل الرسوم المتحركة، والأفلام الجماهيرية. كان أبطال القصص المصورة أصلا ظاهرة منتصف القرن، وظاهرة فرويدية ككل ثقافات منتصف القرن الشعبية. يمكن القول إن هذا أقصي ما تملك أعمال الثقافة الشعبية قوله عن الطبيعة الإنسانية والدوافع البشرية، بقدر ما تتوقعه من الفرويدية الشعبية. بل إن هذا في بعض الأحيان يصبح حتي معلنا، كما في حالة "الكوكب المحرم"، حيث ظهر وحوش من الهُوَ، وهي رسالة ضمنية كالعادة.
أشار أومبرتو إيكو ذات مرة أن القصص المصورة تجري كالأحلام بعض الشيء، تتكرر نفس الحبكة الأساسية، بصورة شبيهة بالوسواس القهري، مرارا وتكرارا ولا يتغير شيء، تنتقل خلفية القصص من الكساد الكبير للحرب العالمية الثانية لما بعد الحرب، وهو عصر ازدهار الأبطال، يبدو أن سواء سوبرمان أو واندر وومان أو جرين هورنت أو دكتور ستراينج يبقون شبابا علي الدوام. تأخذ الحبكة الأساسية علي الدوام الصورة التالية ذاتها: يُطلق شرير ما، ليكن زعيم عصابة أو علي الأغلب شريرا خارقا، مشروعا لغزو العالم: تدمير وسرقات وظلم وانتقام. ينتبه البطل للخطر ويكتشف ما يحدث، وبعد محاولات ومآزق، وفي آخر لحظة ممكنة، يُحبط البطل مخططات الشرير، ويعود العلم لحالته الطبيعية حتي الحلقة القادمة، حيث يحدث نفس الشيء مرة أخري.
لا يتطلب الأمر عبقرية لاكتشاف ما يحدث هنا، الأبطال رجعيون بشكل بحت، وأقصد رجعيون بالمعني الحرفي، فهم يتفاعلون رجوعا إلي رد فعلهم علي الأشياء، لا يملكون مشروعا خاصا بهم -أو بصورة أدق هم كأبطال لا يملكون مشاريع لأنفسهم كما في حالة كلارك كينت أو سوبرمان، الذي يحاول ويفشل بصورة مستمرة في إغواء لويس لين. كرجل خارق، هو محافظ بشكل بحت- في الحقيقة يبدو أن الأبطال الخارقين يفتقرون للخيال تماما. لا يستطيع بروس وين بكل أمواله التفكير في ما يفعله بها باستثناء تصميم المزيد من الأسلحة عالية التقنية، والدخول في أنشطة خيرية متباعدة. سوبرمان كذلك بإمكانه إنهاء الجوع في العالم أو حفر مدن سحرية في الجبال، ولكن الأبطال الخارقين تقريبا لا يخترعون ولا يبنون أي شيء، وعلي النقيض من ذلك فإن الأشرار يبدعون بلا هوادة، ويملكون العديد من الخطط والمشاريع. من الواضح أنه يُفترض بنا في البدء التعاطف دون وعي مع الأشرار، فهم يحظون بكل المتع، وبعد ذلك بالتأكيد نشعر بالذنب لذلك، ثم نتعاطف مع البطل، ونستمتع أكثر بمشاهدة الأنا العليا تضرب الهُوَ المنحرف وتعيده تحت السيطرة.
عندما تبدأ في الجدل في كون هناك رسالة ما في أي كتاب قصص مصورة، ستسمع غالبا الاعتراض المعتاد: لكن هذه صور رخيصة من التسلية! لا تحاول أن تعلمنا أي شيء عن الطبيعة الإنسانية، أو السياسة، أو المجتمع أكثر من ألعاب الملاهي علي سبيل المثال. ذلك بالطبع صحيح إلي حد ما، فالثقافة الشعبية لا تحاول إقناع أحد بأي شيء، إنما وُجدت من أجل التسلية، ومع ذلك إذا انتبهت، ستلاحظ أن معظم مشاريع الثقافة الشعبية تميل إلي التسلية في صورة نوع ما من الجدل. تقدم أفلام الرعب مثالا مكشوفا لكيفية حدوث ذلك، فحبكة أفلام الرعب تكون عادة نوعا من الخطيئة والعقاب. وفي أفلام المطاردة والقتل، ربما تجد أكثر الأمثلة وضوحا وكشفا في تلك الفئة، حيث هناك نفس الحركة في الحبكة. كما لاحظت كارول كلوفر منذ وقت طويل في كتابها الفاصل "رجال ونساء ومناشير كهربية"، يجري تشجيع المتفرجون ضمنا علي التعاطف مع الوحش، تأخذ الكاميرا حرفيا وجهة نظر الوحش حين يُقطِّع إربا إربا الفتيات السيئات، بعدها فقط تنتقل إلي وجهة نظر البطلة التي ستدمره في النهاية. الحبكة نفسها قصة بسيطة عن الجريمة والعقاب، الفتيات يخطئن ويمارسن الجنس، أو يهملن في الإبلاغ عن حادثة سيارة، ربما لا يكنَّ سوي مراهقات بغيضات وغبيات، ونتيجة لذلك يُقتلن، تنتزع فتاةٌ صالحةٌ عذريةٌ الخطيئةَ منهن. كل ذلك أخلاقي مسيحي جدا، قد تكون الخطيئة صغيرة والعقاب غير مكافئ نهائيا، لكن الرسالة العظمي هي: بالطبع هم يستحقون ذلك، كلنا نستحق، مهما كنا متحضرين خارجيا، فإننا فاسدون وأشرار في الأساس. تريد إثباتا؟ انظر لنفسك، ألست شريرا، إن لم تكن شريرا فلماذا تستمتع بمشاهدة ذلك الهراء السادي؟ ذلك ما أعنيه عندما أقول إن الاستمتاع صورة من صور الجدل. ومن ثم قد تبدو قصص الأبطال الخارقين المصورة بريئة إلي حد كبير، وهي كذلك من أوجه كثيرة، إذا كان كل ما تفعله القصص المصورة هو أن تخبر مجموعة من الفتيان اليافعين أن في الجميع قدْرا من الرغبة في الفوضي والتدمير، لكن في النهاية يجب أن تكون هذه الرغبة تحت السيطرة. لن تبدو التضمينات السياسية رهيبة علي وجه الخصوص، خاصة وأن الرسالة تتضمن جرعة صحية من عدم الاكتراث، كما هو الحال في كل أفلام الحركة المعاصرة؛ أبطال يبدو وأنهم يقضون وقتا طويلا في تدمير المجمعات التجارية في الضواحي وما شابه ذلك، يود معظمنا أن يدمر بنكاً أو مجمعاً تجارياً علي الأقل مرة في حياتنا، أو كما قال باكونين، فإن النزعة في التدمير نزعة خلاقة.
ما زلت أعتقد أن هناك سببا في الاعتقاد أنه علي الأقل في حالة معظم الأبطال الخارقين في القصص المصورة، فللتدمير تضمينات سياسية محافظة. لفهم سبب اعتقادي بذلك يجب علينا الانحراف عن الموضوع إلي سؤال القوة المؤسسية.
يحارب الأبطال الخارقون، المقنّعون ولابسو الأزياء الخاصة والفريدة، المجرمين باسم القانون، حتي وإن كانوا هم أنفسهم يعملون خارج الإطار القانوني الصارم، لكن في الدول الحديثة، فحالة القانون في حد ذاتها إشكالية، وذلك بسبب تناقض منطقي أساسي: لا يستطيع نظام إنتاج نفسه، ولا يمكن لأي قوة قادرة علي خلق نظام قانوني، أن تخضع له، ولذلك يجب أن يأتي القانون من مكان آخر. في العصور الوسطي كان الحل سهلا، فالإله، وهو كيان لا يخضع لأي قوانين أو أنظمة أخلاقية معروفة كما نص العهد القديم مرارا، خلقَ النظام القانوني. مرة أخري لا يستقيم ذلك إلا إذا أوجدتَ أخلاقا لا تستطيع الخضوع لها بالتعريف، وإن لم يكن بواسطة الإله مباشرة، فبالسلطة الإلهية الممنوحة للملوك. غيّر الثوار الإنجليز والأمريكيون والفرنسيون ذلك كله عندما استحدثوا نظام السيادة الشعبية، معلنين أن السلطة التي كانت للملوك يسيطر عليها الآن كيان يسمي الشعب، وخلق ذلك مشكلة منطقية عاجلة، لأن "الشعب" بالتعريف هو مجموعة من الأفراد توحدهم حقيقة التزامهم بمجموعة قوانين محددة، فبأي منطق يستطيعون صنع هذه القوانين؟ حين طُُرح هذا السؤال في خضم الثورات البريطانية والأمريكية والفرنسية، بدت إجابته واضحة، بواسطة هؤلاء الثوار لأنفسهم، ولكن ذلك خلق مشكلة أخري، فالثورات خرقٌ للقانون في حد ذاتها، حيث من غير القانوني أبدا أن تخرج لتسقط الحكومة بقوة السلاح، وتخلق نظاما سياسيا جديدا. في الحقيقة لا يمكن لشيء أن يكون خارجا عن القانون أكثر من كرومويل وجيفرسون ودانتون، فكلنا متهمون بالخيانة بناء علي القوانين التي تربوا عليها، كما كانوا سيُتهمون بناء علي الأنظمة الجديدة إذا حاولوا فعل نفس الشيء بعد عشرين سنة علي سبيل المثال.
تنبثق القوانين إذن من أنشطة غير قانونية. ويخلق ذلك تشوشا جوهريا في فكرة الحكومة الحديثة، التي تفترض أنها تمتلك الحق الحصري في استخدام العنف القانوني (فقط الشرطة وحراس السجن أو الحراس الشخصيون ذوو التصاريح لديهم الحق القانوني في ضربك). إن استخدام العنف حق شخصي للشرطة لأنهم يفرضون القانون، القانون شرعي لأنه مؤصل بالدستور، والدستور شرعي لأنه صادر عن الناس، ووضع الناس الدستور بواسطة أفعال العنف غير قانوني. السؤال البديهي إذا: كيف يمكن التفريق بين الشعب ومحض العصابات الهائجة؟ لا توجد إجابة واضحة.
الرأي المحترم من التيار العام هو محاولة دفع المشكلة لأبعد
ما يمكن. الجملة المعتادة أن عصر الثورات قد انتهي -باستثناء المناطق المظلمة كالجابون أو سوريا- ويمكننا الآن تغيير الدستور أو القواعد القانونية بوسائط شرعية، وهذا يعني بالطبع أن الهيكل الأساسي للنظام لن يتغير أبدا. يمكننا مشاهدة نتائج ذلك في الولايات المتحدة، التي تستمر في الحفاظ علي هيكل الدولة، بمجمع انتخابي حاشد ونظام ثنائي الحزب، والذي وإن كان تقدميا سنة 1789 فإنه يجعلنا الآن نبدو في أعين العالم مناظرين سياسيا لجماعة الآميش، ما زلنا نقود سيارات تجرها الخيول، ويعني ذلك أيضا أننا نبني شرعية النظام ككل علي قبول الناس رغم حقيقة أن من استُشيروا في تلك المسألة عاشوا منذ ما يزيد علي مائتي سنة مضت علي الأقل، وماتوا منذ زمن طويل.
لقد انتقلنا إذن من وضع تُُستمد فيه القوي الخالقة للنظام القانوني من الإله، إلي نظام يحوي تلك القوي من الثورة المسلحة، ثم إلي نظام تتأصل فيه القوي في التقاليد المطلقة، لأنها عادات أسلافنا الحكماء، ومن نحن لنشكك في حكمتهم؟ وهناك بالطبع عدد غير قليل من السياسيين الأمريكيين ممن يريدون ردها للإله مرة أخري.
وذلك كما أقول، هو كيفية نظر الرأي الدارج إلي تلك المسائل، أما بالنسبة لليسار الراديكالي واليمين السلطوي، فمسألة القوة المؤسسية حاضرة جدا، لكن كلاً منهما يأخذ مقاربة مختلفة بصورة درامية لدي النظر إلي سؤال العنف الجوهري، اليسار (الملام علي كوارث القرن العشرين)، انتقل بصورة كبيرة من احتفائه القديم بالعنف الثوري مفضلا نوعا غير عنيف من المقاومة. وأولئك الذين يتحركون باسم شيء ما أعلي من القانون، فقادرون علي ذلك لأنهم لا يتصرفون كالغوغاء الهائجة، أما بالنسبة لليمين علي الجانب الآخر، وكان ذلك صحيحا منذ نشأة الفاشية في العشرينيات، ففكرة أن هناك شيئا مميزا بالعنف الثوري ذاته، أي شيء يجعله مميزا عن العنف الإجرامي، ليست إلا هذرا متعاليا. فالعنف هو العنف، لكن ذلك لا يعني أن الغوغاء لا يمكن أن تكون هي الناس، لأن العنف علي أي حال هو المصدر الحقيقي للقوانين والنظام السياسي. أي نشر ناجح للعنف هو صورة من القوي المؤسسية بطريقته الخاصة، لذلك أشار فالتر بنيامين، أنه لا يمكننا إلا الإعجاب "بالمجرم العظيم"، لأنه كما أظهرت بوسترات الأفلام علي مر السنين ف"هو يصنع قانونه الخاص"، وعلي كلٍ فذلك ما تفعله كل عصابات الجريمة المنظمة، تبدأ حتما في تطوير نظامها، الدقيق عادة؛ مجموعة من القواعد والقوانين الداخلية. يجب عليهم ذلك لتنظيم ما سيكون مجرد عنف عشوائي في الحالة المقابلة، لكن من وجهة نظر اليمين، فذلك هو القانون، أي وسائل السيطرة علي العنف الذي يأتي به، ومن خلاله يُفرض بالأساس.
ذا يجعل الأمر أكثر قابلية لفهم الشبه المفاجئ بين المجرمين وعصابات الجريمة المنظمة وحركات اليمين السياسية وممثلي الدولة المسلحين، فكلهم يتكلمون نفس اللغة في النهاية، ويخلقون قواعدهم بناء علي القوة. نتيجة لذلك يشترك أولئك الناس عادة في الحساسيات السياسية العامة، قد يكون موسوليني قضي تماما علي المافيا، لكن ما يزال عضو المافيا الإيطالي يحتفي بموسوليني. في آثينا الآن هناك تعاون نشط بين البوليس والعصابات الفاشية وزعماء الجريمة في أحياء المهاجرين الفقراء. في الحقيقة في تلك الحالة، ووجهت التكتيكات السياسية بمشهد الانتفاضة الشعبية ضد الحكومة اليمينية، سحب البوليس أولا الحماية من الأحياء القريبة من عصابات المهاجرين، ثم أعطي تأييدا ضمنيا للفاشيين، وكانت النتيجة نهوضا سريعا للحزب النازي. نصف البوليس اليوناني تقريبا صوَّت لصالح الحزب النازي في الانتخابات الماضية، وهذا هو أقصي ما قد تصل له السياسة اليمينية، بالنسبة لهم يقع هذا في المساحة التي تتفاعل فيها قوي العنف المختلفة خارج النظام السياسي- وداخله بالكاد في حالة البوليس أحيانا- ذلك النسق من القوة حيث يمكن للنظام أن ينبثق.
ما العلاقة إذن بين هذا وبين الأبطال الخارقين المقنعين مرتدي الأزياء الفريدة؟ حسنا، كل شيء، لأن تلك بالتحديد هي المساحة التي يشغلها الأبطال الخارقون والأشرار الخارقون أيضا، مساحة فاشية بطبيعتها لا يشغلها إلا المجرمون والبلطجية والشرطة وراغبو الديكتاتورية، بخطوط ضبابية لا نهائية بينهم، وفي بعض الأحيان يكون رجال الشرطة ملتزمين قانونيا وأحيانا فاسدين، وأحيانا ينزلقون هم ذاتهم إلي الاقتصاص (تنفيذ القانون بأيديهم)، وأحيانا يحاكمون الأبطال الخارقين، ويديرون نظرهم بعيدا مع آخرين، أو يساعدون الأبطال والأشرار ليتحدوا أحيانا. تنتقل خطوط القوة دائما إذا انبثق شيء جديد، ولا يكون ذلك إلا من خلال تلك القوي المتنقلة، ولا شيء آخر، خاصة وأن في عالم دي سي ومارفيل لا وجود للأكوان أو الإله أو الناس ببساطة.
بقدر ما هناك إمكانات للقوي المؤسسية، فلا يمكنها الإتيان إلا من معين العنف، وبالطبع عندما لا يحلم الأشرار الخارقون والعباقرة الأشرار، بمجرد ارتكاب الجريمة الكاملة أو الانغماس في أفعال الإرهاب، فهم يخططون لفرض نظام عالمي جديد بشكل أو بآخر، وبالطبع في حال نجح ريد سكال أو كانج الغازي أو دوكتور دوم في السيطرة علي الكوكب، سيخلق مناخاً لقوانين جديدة بسرعة كبيرة، ولن تكون قوانين جيدة، فواضعها بلا شك لن يشعر بأنه خاضع لها، ولكن يراود المرء الشعور بأنها علي الرغم من ذلك ستُطبق بحزم.
يقاوم الأبطال الخارقون ذلك المنطق، فهم لا يريدون غزو العالم، وإن لم يكن ذلك إلا لأنهم ليسوا مجانين أو مصابين بالهوس الأحادي، نتيجة لذلك يبقون متطفلين علي الأشرار، كما يبقي الشرطي متطفلا علي المجرمين، فبدونهم لن يكون هناك سبب لوجودهم، ويبقون مدافعين عن نظام سياسي وقانوني يبدو وكأنه نبع من العدم، ويجب الدفاع عنه، حتي وإن كان ناقصا ومنحطا، لأن البديل أسوأ بكثير. ليسوا فاشيين، وإنما هم فقط عاديون، أناس محترمون ذوو قوي خارقة يعيشون في عالم تكون فيه الفاشية الاحتمال السياسي الوحيد.
يمكننا التساؤل عن نوع التسلية المرتكزة علي المفهوم السياسي الغريب الذي ظهر في أمريكا أوائل ووسط القرن العشرين، تزامنا مع بدايات نشأة الفاشية في أوروبا؟ أكانت هوي نحو مكافئ أمريكي؟ ليس بالضبط. إنما يبدو كأن الفاشية والأبطال الخارقين ناتجون عن نفس الورطة التاريخية: ما أساس النظام الاجتماعي عندما تُطرد فكرة الثورة ذاتها؟ وفوق كل ذلك ماذا يحدث للخيال السياسي؟
قد نبدأ هنا بالنظر لجمهور قصص الأبطال الخارقين المصورة الأساسي، وهم فتية بيض في مرحلة المراهقة وما قبل المراهقة، أفراد في مرحلة من حياتهم يكونون فيها علي الأرجح واسعي الخيال أو علي الأقل متمردين بعض الشيء، لكن أيضا يجري إعدادهم لتولي مناصب قيادية وسلطة في العالم، وليصبحوا آباء ومهندسين ورجال شرطة وأصحاب عمل صغار ومديرين ذوي مناصب متوسطة، وما الذي يتعلمونه من تلك الدراما المتكررة؟ حسنا.. أولا: يؤدي الخيال والتمرد إلي العنف. ثانيا: مثل الخيال والتمرد، فالعنف ممتع جدا. ثالثا: تجب إعادة توجيه العنف في النهاية ضد سريان الخيال والتمرد مرة أخري، خشية انحراف كل شيء. يجب احتواء تلك الأشياء! لذلك يُسمح للأبطال الخارقين بأن يكونوا واسعي الخيال قدر ما يشمل فقط تصميم ملابسهم أو سياراتهم، وربما بيوتهم وإكسسواراتهم العديدة. يجب حصر الخيال في دائرة الاستهلاك لا السياسة.
بذلك المعني فإن منطق حبكة الأبطال الخارقين محافظ بشكل واضح وعميق، فبصورة جوهرية، فالفاصل بين إدراك اليسار واليمين يتعلق بسلوك الفرد نحو الخيال. بالنسبة لليسار، فإن الخيال والإبداع، وبالتالي الإنتاج، وقوة تحقيق ترتيبات اجتماعية جديدة، هي أمور محتفي بها دائما، هي مصدر القيمة الحقيقية في العالم. أما بالنسبة لليمين فهي أساسا خطر وشر، فنزعة الإبداع نزعة تدميرية. كان ذلك المعني متفشيا في الفرويدية الشعبوية يومها، حيث كان الهُوَ محرك الذهن، وهو غير أخلاقي كذلك، وإذا أطلق له العنان، لأدي إلي عربدة من التدمير. ذلك أيضا ما يفصل المحافظين عن الفاشيين، فكلاهما يتفق أن الخيال الجامح لا يؤدي إلا إلي العنف والتدمير، ويتمني المحافظون الدفاع عنا ضد تلك الاحتمالية، أما الفاشيون فيودون إطلاقه علي أي حال، فهم يتوقون لأن يكونوا فنانين يرسمون بالعقول والدماء وأنسجة البشر، كما كان هتلر يتخيل نفسه.
هذا يعني أن التدمير ليس هو فقط نشوة القارئ المذنبة، لكن حقيقة امتلاك حياة خيالية من الأصل، ورغم أنه يبدو غريبا الاعتقاد بأن ضربا من الفنون في النهاية يحذر من أخطار الخيال الإنساني، فمن المؤكد أن هذا يشرح سبب اعتبار قراءة هذا النوع من القصص سوء سلوك شقي بشكل غامض في الأربعينيات والخمسينيات الرصينة، ويشرح ذلك أيضا لماذا بدت قراءته غير ضارة في الستينيات، حيث سُمح بظهور أبطال التليفزيون الخارقين المصطنعين كحلقات باتمان لآدام ويست، أو حلقات رسوم سبايدر مان المتحركة صباح السبت. إذا كانت الرسالة هي أن الخيال المتمرد مقبول ما دام بعيدا عن السياسة، وما دام انحصر داخل الاختيارات الاستهلاكية -الملابس، والسيارات، والكماليات- فمن السهل أن يدعم المديرون التنفيذيون هذه الرسالة.
يمكننا أن نستخلص من ذلك أن القصص المصورة سياسية بصورة ظاهرية -عن رجال مجانين يحاولون السيطرة علي العالم- وسيكولوجية وشخصية في الحقيقة -عن الأخطار القادمة علي المراهقة المتمردة- لكن في النهاية سياسية رغم كل شيء. إذا كانت كذلك، فأفلام الأبطال الخارقين الجديدة تحديدا علي العكس من ذلك، سيكولوجية وشخصية ظاهريا، وسياسية في الحقيقة، لكن في النهاية سيكولوجية وشخصية.
لم تبدأ أنسنة الأبطال الخارقين من الأفلام، وإنما بدأت في الواقع في الثمانينيات والتسعينيات من فئة القصص المصورة ذاتها، مع "عودة فارس الظلام" لفرانك ميلر وواتشمن لآلان مور، كفئة فرعية يمكن تسميتها أفلام نوار الأبطال الخارقين. في ذلك الوقت كانت الأفلام تنتَج من خلال تراث وتقاليد الستينيات المصطنعة. في سلسلة سوبرمان لكريستوفر ريف أو باتمان مايكل كيتون، انتقل الإلهام في النهاية من خلال فئة النوار الفرعية ذات الإلهام السينمائي بعض الشيء إلي هوليوود كذلك، ويمكن القول إنها وصلت لذروتها سينمائيا مع فيلم "بداية باتمان"، وهو الجزء الأول في ثلاثية نولان. يسأل نولان في الفيلم أساسا: "ماذا لو وجد شخص كباتمان؟ كيف سيحدث ذلك؟ ما الذي سيتطلبه الأمر لدفع شخص محترم في المجتمع لأن يقرر ارتداء زي وطواط والطواف في الشوارع خلسة بحثا عن المجرمين؟"، كما هو متوقع لعبت المخدرات الكيوانية دورا مهما، كذلك الأمراض النفسية الحادة والطوائف الدينية العقدية الغريبة.
من المثير للفضول أن المعلقين علي الفيلم لم يبد أنهم لاحظوا حقيقة أن بروس واين في أفلام نولان يقع علي حدود المرض النفسي، وهو كما هو تقريبا مختل بشكل كامل، غير قادر علي تكوين صداقة أو علاقة عاطفية، غير مهتم بالعمل إلا إذا كان داعما لهوسه المرضي بشكل ما، فالبطل هنا مجنون بوضوح، ومن الجلي أن الفيلم في الحقيقة عن معركته مع جنونه. ليست المشكلة أن الأشرار هم سلسلة من ملحقات الأنا، فرأس الغول أب سييء وزعيم عصابة ورجل أعمال
ناجح، وسكيركرو هو من يدفع رجل الأعمال للجنون، وليس هناك شيء جذاب علي وجه الخصوص في الاثنين. ليس ذلك مهما، فهم مجرد قشور وشذرات عقل البطل المحطم، وبناء علي ذلك لا نتعاطف مع الأشرار في البداية ثم نرتد إلي كراهية الذات، وإنما يمكننا الاستمتاع بمشاهدة بروس يفعل ذلك نيابة عنا.
وكذلك لا رسالة سياسية واضحة هنا، أو أن ذلك ما يبدو، لكن عندما يخلق المخرج شخصيات فيلم غنية بالقصص والتاريخ، فهو لا يسيطر علي أدواته تماما، فمهمة صانع الفيلم تجمعهم علي مدي كبير، في الفيلم الأول يُدرج رأس الغول، وهو الشرير الرئيسي، باتمان من البداية في عصبة الظلمات في أحد أديرة بهوتان، وعندها فقط يكشف خطته لتدمير جوثام لتخليص العالم من فسادها. في القصص المصورة الأصلية، نعرف أن رأس الغول، وهو الشخصية المقدمة في 1971، في الحقيقة إرهابي بدائي مدافع عن الطبيعة، مصمم علي استرجاع التوازن في الطبيعة بتقليل عدد سكان العالم من البشر بنسبة 99٪. والطريقة الرئيسية، التي غيّر بها نولان القصة لجعل باتمان يبدأ كأحد مريدي وتابعي رأس الغول، لكن بمعان معاصرة، مقبولة. وعلي كل، فهي الصورة النمطية التي يقدمها الإعلام وترد علي الذهن، كالفعل المباشر ضد منظمة التجارة العالمية في سياتل، عندما نفكر في فتية الصناديق الائتمانية مرتدي الملابس السوداء والأقنعة، والمنطلقين للشوارع لخلق العنف والفوضي، والذين يحركهم مفهوم مبهم للعدالة- لكن هي بطريقة محسوبة دائما كي لا تقتل أحدًا؟ دع عنك مَن الذي تلهمه تعاليم ذلك الزعيم الراديكالي المؤمن بوجوب العودة للعصر الحجري؟ لقد جعل نولان بطله عضوا في البلاك بلوك من أتباع جون زرزان الذي ينفصل عن معلمه عندما يدرك ما الذي تنطوي عليه استعادة جنة عدن في الحقيقة.
في الحقيقة لم يرغب أي من أشرار الأفلام الثلاثة في حكم العالم، ولم يرغبوا في أن تكون لهم سلطة علي غيرهم، أو خلق نظام جديد من أي نوع، وحتي تابعيهم كانوا مجرد وسائل مؤقتة، ودائما ما كانوا يخططون لقتلهم في النهاية. أشرار نولان دائما أناركيون، لكنهم أيضا نوع غريب من الأناركيين، من نوع لا يبدو أنه يوجد إلا في خيال المخرج، أناركيون يعتقدون أن الطبيعة البشرية شريرة وفاسدة بالأساس. الجوكر، وهو البطل الحقيقي للفيلم الثاني، يعلن ذلك صراحة، إنه في الحقيقة فيلسوف الهُوَ. الجوكر لا اسم له ولا مصدر باستثناء ما هو عليه، ولا حتي واضح ما هي قواه ولا من أين أتت ولا في أي مناسبة غريبة الأطوار خُلق، لكنه لا محالة قوي، الجوكر هو قوي خلق الذات الخالصة، قصيدة كتبت نفسها، وهدفه الرئيسي في الحياة هو احتياجه المستحوذ عليه لأن يثبت للآخرين، أولا أن كل شيء يمكن أن يكون شعرا فقط، وثانيا أن الشعر شر.
عدنا هنا إذن للفكرة المركزية لعالم الأبطال الخارقين المبكر، تفكير مطول في أخطار الخيال الإنساني، كم يود القارئ أن ينغمس في عالم يقاد بحتمية فنية كإثبات حي علي أن الخيال يجب احتواؤه بحذر. والنتيجة فيلم إثارة، حيث الشرير قابل للحب -ومن الواضح أنه يحظي بالمرح بذلك- وأيضا مرعب علي نحو أصيل، فيلم "بداية باتمان" كان مليئا بكل بساطة بناس تتحدث عن الخوف. فارس الظلام أنتج بالفعل بعض الخوف، لكن حتي ذلك الفيلم أصبح سطحيا عندما تلامس مع السياسة. يحاول الناس في البداية، وبشكل أعرج، التدخل عندما يظهر عدد من مقلدي باتمان في المدينة، مستلهمين نموذج فارس الظلام. بالطبع يموتون كلهم ميتات شنيعة في النهاية، ومنذ ذلك الحين يعودون لمقاعدهم كمتفرجين. تماما كالمتفرجين في المسرح الروماني، يتواجدون فقط للحكم علي أداء أبطال الروايات. أداء جيد لباتمان، أو أداء سيئ لباتمان، أو أداء جيد للمدعي العام المكافح. وفي النهاية عندما اتفق باتمان ومفوّض الشرطة جوردون علي خطة تقديم باتمان ككبش فداء، وخلق أسطورة خاطئة عن استشهاد هارفي دنت، فهذا لا يقل عن الاعتراف بأن السياسة تتطابق مع فن الأدب الخيالي. كان الجوكر علي حق إلي حد ما، كالعادة تظهر التوبة في حقيقة أن العنف والخديعة يمكنهما الارتداد علي أنفساهما. كان من الجيد أن يتركوها عند ذلك الحد.
المشكلة أن رؤيتهم عن السياسة مغلوطة ببساطة، فالسياسة ليست فن التلاعب بالصور المدعومة بالعنف فقط، ليست في الحقيقة مبارزة بين قادة وجمهور يصدّق كل ما يُقدم بصورة فنية كافية. بلا شك يجب أن تبدو كذلك لمخرجي هوليوود فاحشي الثراء، لكن بين تصوير الفيلم الأول والثاني، تدخَّل التاريخ بصورة حاسمة بعض الشيء لدرجة توضح خطأ تلك الرؤية؛ انهار الاقتصاد، ليس بسبب مجتمعات سرية من الكهنة المحاربين، لكن بسبب مجموعة من المديرين الماليين، الذين يعيشون في فقاعة نولان ويشاركونه افتراضاته. بخصوص قابلية التلاعب بالجمهور، والتي ظهر خطؤها، كان هناك رد فعل شعبي، لم يأخذ صورة البحث الحثيث عن المنقذين ذوي النسق المسيحي، الممزوج بتفشي العنف العدمي، بل أخد صورة سلاسل من حركات شعبية حقيقية بصورة متزايدة، وحتي حركات ثورية، أسقطت أنظمة في الشرق الأوسط وهي تحتل الميادين في كل مكان من كليفلاند إلي كاراتشي، محاولةً خلق صور جديدة للديموقراطية.
أعادت القوة المؤسسية إنتاج نفسها، بصورة راديكالية وذات خيال غني وغير عنيفة بصورة لافتة للنظر، تلك بالتحديد الصورة التي لا يستطيع عالم الأبطال الخارقين التعبير عنها. في عالم نولان شيء كحركة "احتلوا" ليس بإمكانه إلا أن ينتج عن مجموعة صغيرة من المحتكرين الماكرين -أناس مثلي كما تعرف- يسعون لتحقيق أجندات سرية.
كان يجب علي نولان عدم التعرض لتلك المواضيع في الحقيقة، لكنه علي ما يبدو لم يستطع المقاومة، وكانت النتيجة مفككة تماما، دراما سيكولوجية أخري متنكرة كدراما سياسية، الحبكة ملفقة للغاية ولا تكاد تستحق إعادة سردها؛ بروس وين مختل مرة أخري بدون أناه العليا، تحول إلي شخص منعزل، ويوظف رجل أعمال منافس كات وومان لسرقة بصماته ليستعملها في سرقة كل أمواله، لكن في الحقيقة فرجل الأعمال يُتلاعب به بواسطة شرير خارق مرتزق يرتدي قناع غاز يسمي باين، وهو أقوي من باتمان لكنه شخص بائس بالأساس، متعلق بحب من طرف واحد بتاليا ابنة رأس الغول، وشوّهته المعاملة السيئة التي تلقاها في شبابه عندما حُبس ظلما في سجن كالقبو، ووجهه مختف خلف القناع الذي يجب أن يرتديه بصورة مستمرة وإلا سينهار تحت وطأة ألم مبرح، ولا يتعاطف الجمهور مع ذلك الشرير إلا بدافع الشفقة. لا يريد أي ذي عقل سويٍّ أن يكون باين، لكن إن كان ذلك محتملا، فهناك تحذير من أخطار التعاطف المفرط مع التعساء، لأن باين كذلك ثوري ذو كاريزما، وبعد ما يتخلص من باتمان، يكشف كذب أسطورة هارفي دينت، ويحرر نزلاء سجون جوثام، ويطلق الدهماء سريعي التأثر للسطو علي قصور الواحد بالمائة، ولحرقها ولجرِّ ساكنيها إلي المحاكم الثورية. ويظهر سكيركرو مرة أخري بصورة مسلية كروبسبير، لكنه ينوي في الحقيقة قتلهم جميعا باستخدام قنبلة نووية محوَّلة من نوع ما من مشاريع الطاقة النظيفة. لماذا؟ من يعرف؟ ربما لأنه نوع من الإرهابيين البيئيين كرأس الغول، ويبدو أنه ورث زعامة نفس المنظمة، وربما يحاول إثارة إعجاب تاليا بإتمام عمل أبيها، وربما لمجرد كونه شريرا بدون المزيد من الشرح.
علي الناحية الأخري، لماذا يريد باين أن يقود الناس لثورة اجتماعية، إذا كان سيضربهم بقنبلة نووية بعد أسابيع قليلة علي كل حال؟ إنه التخمين مرة أخري، يقول باين: "قبل أن تدمر شخصا، عليك أن تعطيه الأمل". الرسالة إذن هي أن الأحلام اليوتوبية ليس بمقدورها إلا أن تؤدي لعنف عدمي. شيء من هذا القبيل علي نحو محتمل، لكنه غير مقنع علي نحو استثنائي. حيث إن النية لقتل الجميع كانت سابقة، تكون الثورة مجرد ديكور لاحق.
في الحقيقة ما يحدث للمدينة لا يكون منطقيا إلا كصدي لما كان أهم دائما؛ ما يحدث في عقل بروس وين المعذّب. عندما يُقعد باين باتمان في منتصف الفيلم، ويوضع الأخير في نفس السجن القذر حيث كان باين نفسه مسجونا، يستقر السجن في قاع بئر، لذلك تستفز الشمس قاطنيه، لكن من المستحيل تسلقه. يتأكد باين من مراعاة بروس حتي يستعيد صحته، كي يحاول ويفشل في تسلقه، وبذلك يعلم أن فشله أدي إلي تدمير جوثام المحبوبة، عندها فقط سيكون باين رحيما بما يكفي ويقتله. ذلك غير طبيعي لكن يمكن القول إنه منطقي سيكولوجيا علي الأقل. ولكن إذا نظرت لذلك علي مستوي المدينة، فإنه يصبح غير منطقي علي الإطلاق، لماذا يعطي أحدهم الناس الأمل ثم يمحوهم فجأة؟ الحالة الأولي قاسية أما الثانية فعشوائية فقط، وليس ذلك فقط، بل يعقّد المخرج التشبيه بأن يجعل باين يلعب نفس اللعبة علي بوليس جوثام -في خدعة شديدة الحماقة حتي إنها تخترق حدود المعقولية المتوقعة من القصص المصورة. يُستدرجون جميعا تقريبا لما تحت المدينة ويُحبسون هناك بواسطة قنابل موزعة بدقة، ويسمح لهم لسبب ما بالحصول علي الطعام والماء، ربما ليُعذبوا بالأمل.
تجري أحداث أخري، لكن جميعها إسقاطات مشابهة، عندما تلعب كات وومان دورا متروكا عادة للمتفرجين، تتعاطف في البداية مع مشروع باين الثوري، ثم بدون أي سبب مبين بوضوح، تغير رأيها فجأة وتتركه. وينهض باتمان وشرطة جوثام من سجونهم، ويتَّحدون في معركة ليحاربوا المحتلين الأشرار أمام البورصة. في النهاية، يلفق باتمان قصة موته أثناء التخلص من القنبلة، ويستقر الحال بباتمان وكات وومان في فلورنس، وتولد أسطورة شهيد مزيف آخر ويجري تحييد أهالي جوثام، في حالة المزيد من الأزمات، ونوعد باحتمال وجود خليفة لباتمان، ضابط شرطة محبط يسمي روبين، ويتنفس الجميع الصعداء لأن الفيلم انتهي أخيرا.
هل هناك رسالة يفترض استخلاصها من ذلك؟ إذا كانت هناك رسالة فستبدو كشيء موافق لما يلي: حقا إن النظام فاسد لكنه كل ما نملك، وعلي كل حال فمن الممكن الثقة برموز السلطة إذا عانوا بشدة وأخذوا العظة في البداية -الشرطة الطبيعية تدع الأطفال يموتون علي الجسور، الشرطة التي دُفنت حية لأسابيع يمكنها أن تمارس العنف بصورة شرعية. هناك حقا معاناة ويستحق ضحاياها تعاطفنا، لكن لنحتفظ بها في إطار المعقول. العمل الخيري أفضل كثيرا من مواجهة المشاكل البنيوية. هنا يكمن الجنون، ففي عالم نولان أي محاولة لمواجهة المشاكل البنيوية -حتي من خلال العصيان المدني السلمي- هي صورة من صور العنف في الحقيقة، لأن هذا فقط ما يمكنها أن تكون. رجال الشرطة خصبو الخيال عنيفون بالفطرة، لذلك فليس من المستهجن أن يضرب رجال الشرطة رأس المتظاهرين السلميين بوضوح في الحوائط الخرسانية تباعا.
وكرد فعل علي حركة "احتلوا"، فذلك شيء مثير للشفقة علي الأقل. عندما أنتج "فارس الظلام" في 2008، كان هناك نقاش واسع حول إن كان ذلك كله تشبيها واسعا للحرب ضد الإرهاب في الحقيقة، لأي مدي يمكن للأخيار -ذلك نحن- أن يتبعوا وسائل الشر؟ ربما كان المخرج حقا يفكر في تلك المسائل، ومع ذلك تمكن من إنتاج فيلم جيد. لكن عندها، كانت الحرب علي الإرهاب حرب شبكات سرية ومشاهد متلاعب بها، بدأت بقنبلة وانتهت باغتيال. وقد نفكر أنها محاولة من الطرفين لخلق صورة للكون شبيهة بالقصص المصورة. وبمجرد أن ظهرت قوة مؤسسية حقيقية يوما ما في المشهد، تفكك الكون. بدا من السخيف أن تنفق الولايات المتحدة الأمريكية المليارات لتحارب مجموعات من الطلبة المتناثرة في أفغانستان بينما كانت تجتاح الثورات الشرق الأوسط. لسوء حظ نولان، ورغم كل تلك القوة الخادعة، لم يحدث ذلك إلا عندما ظهرت نفحة من الثورة الشعبية في نيويورك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.