هل تجري مع النيل ثقافة تتعالق بالعائشين عليه، وهل هناك سمات وملامح مشتركة يمكن أن تربط شعوب نهر النيل، وهل يمكننا أن نتحدث عن ثقافة النيل التي تمتد بامتداده من المنبع حتي المصب، وتنعكس في فنون الزراعة وأدواتها، فالنيل ليس مجرد شريان مائي يجري من الجنوب إلي الشمال ، فمن يردد هذا الكلام فإنه يركن للعبارات المسكوكة التي يحلو للبعض ذكرها في حصص التعبير البليدة، ومن يكرر الجملة الأثيرة لهيرودوت "مصر هبة النيل" فإنه لم يع الراقات التي كونت مصر ولم يستوعب الدلالات الفائضة للنيل، فالنيل علي حد وصف الراحل العظيم جمال حمدان يعد حدثا صغيرا إذا ما قيس بعمر مصر، وإذا استثنينا راقاته الجيولوجية ورحلاته التاريخية والأرض التي مهدها لنفسه، والأنهار الصغيرة التي ابتلعها ليصبح نهرا عظيما، من هنا فإننا لن نستطيع أن نغض الطرف عن الطبقات الثقافية التي كانت نتاجا لممارسات وخبرات ظلت تتراكم حتي كونت ما يمكن تسميته بكثير من الثقة "ثقافة النيل"، ونقصد هنا إلي المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة الذي يشير إلي كل إنجازات العقل البشري، وكل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل أو فكر، وكذلك كل ما يكتسبه الإنسان من عادات وتقاليد وأساليب للسلوك وقيم تسود في المجتمع الذي يعيش فيه، فهل وسم النيل الثقافة بميسمه أم أن علاقة نشأت بينه والناس تعمقها الخبرة بالحياة فكانت العادات والتقاليد والممارسات والفنون والعمارة وأدوات العمل بأنواعها وتصنيفاتها المتعلقة به من أدوات للصيد وأخري للزراعة وثالثة للري ورابعة للبذر والجمع والحصاد .. إلخ، فضلا عن دراية عميقة بأحوال النهر ومراحله: طفلا خجولا وشابا يافعا وشيخا حكيما وجدا كبيرا يقاوم الهِرَم، وهل استطاع النهر أن يتجاوز البيئات الأيكولوجية المتعددة التي مر بها، أم أنه أحد صنّاعها (بيئة صحراوية بيئة زراعية بيئة نهرية) وهل طبعت البيئة بملامحها ثقافتها علي الناس أم أن العكس، أم ثمة علاقة عضوية بين الثقافة والبيئة فكانت العادات والتقاليد والمعتقدات والآداب ولغات الجسد الإنساني، وعناصر الثقافة المادية، وهل من مشتركات، وما هي الفوارق بين الثقافات الفرعية داخل ثقافة النهر، وهل من ثقافة يفرضها النهر بشكل عام يمكن أن يتتبعها الأنثروبولوجيون وعلماء الاجتماع والفولكلوريون في مناطق الأنهار، أم أن لكل مجموعة بشرية سماتها المختلفة في تعالقها بالنهر، وما هي السمات الثقافية التي يمكن أن نرصدها في تشاطئها مع نهر النيل، وهل تختلف هذه السمات بين المجتمعات البسيطة والمجتمعات المركبة التي تعيش علي النهر، وعلي قدر طول النهر ستطول الأسئلة وتتعقد كتعاريجه خاصة في مناطق المنابع وربما يسهل الإجابة علي بعضها مع يسر جريانه في مناطق الجريان حتي المصب، من هنا أنبه مؤسساتنا الثقافية لتلعب دورا في استعادة الدور المصري في إفريقيا من خلال قراءة الإنسان النيلي بعد أن مارسنا الإهمال والنسيان الذي يبدو مقصودا للروابط الثقافية العميقة بين الشعوب التي تعيش علي النيل، من خلال عمل ثقافي وفني وتدريبي مدروس يضع النيل وثقافة ناسه ضمن آلياته ليفض لنا مغاليق هذه الثقافة ربما تنجح الثقافة فيما تعثرت فيه السياسة وهي تحاول عبور الحاجز الذي صنعناه بإهمالنا ونسياننا لعروق الذهب الثقافية التي تنادينا لإعادة اكتشافها وتشكيلها من جديد.