استكمل هنا بعض الانطباعات التي أثارتها رواية محمد عبد النبي "في غرفة العنكبوت ". وكنت قد ذكرت من قبل أن الكاتب دخل بقدميه وبإرادته حقل ألغام، ليس فقط بسبب التجربة الجارحة للذوق العام المحافظ والتي اختار الكاتب أن يكتبها، بل أيضا بسبب إقدامه علي بناء عالم مترام، وشخصيات متنوعة تبقي في الذاكرة بسبب فرادتها المذهلة، واستفاد بشدة، وتلك من أهم مناطق القوة في الرواية، من تقاليد الرواية الواقعية ( نعم..الواقعية )..عبد النبي يكتب حكاية، لتكن إطارا، أو لتكن حيلة فنية، لتكن ما تكون لكنها حكاية متماسكة ذات قوام، حكاية تبدأ من الطفولة، وآباء وأمهات وبيوت وشخصيات وتجارب في السجون..حياة واقعية عذبة ذكية في حكاية مكتنزة علي الرغم من طولها، تستخدم أيسر السبل، وتستبعد بحسم غنائية اللغة ونهناتها. ومثلما يدخل عبد النبي حقل الألغام بقدميه، يملك المقدرة الفنية علي الخروج.فعلي سبيل المثال، يتزوج هاني محفوظ الراوي وينجب طفلة، وتنمو بينها وبين أبيها المثلي علاقة نادرة وملتبسة، تقود علي الفور نحو الميلودراما، خصوصا وأن الراوي يدخل السجن ويمضي عاما داخل أسواره، لكن الكاتب ينقذ روايته ويخرج من حقل الألغام، حين يرتفع بالعلاقة بين الطفلة وأبيها، ويكتب برهافة عن تلك المشاعر المحتشدة العصية عن التعبير. وعلي سبيل المثال أيضا قدّم الكاتب علاقة من أشد العلاقات تعقيدا، وهي العلاقة بين هاني محفوظ وزوجته شيرين..كتبها بدرجة من البرودة المحسوبة جيدا، ولم يستسلم للمألوف والمتوقع، بل يسجل تلك الفظاظة والسفالة المستترة عند هاني محفوظ ، الذي يورّط فتاة ترتبط به كزوج، وهو الذي أخفي عنها حقيقة مثليته، ويمضي في الشوط حتي نهايته وينجب طفلة انصياعا لأمه أو للمجتمع، دون أدني اعتبار لما قد يترتب علي ذلك بالنسبة لشيرين والطفلة. قدّم عبد النبي الكثير في روايته، أنجز في حقيقة الأمر عملا رصينا وفاتنا، وإذا كان قد اعتمد علي حادثة حقيقية عندما ألقت سلطات الأمن علي أكثر من 50 عضوا في جماعة لعبادة الشيطان، أغلبهم من علي سطح الباخرة كوين بوت عام 2001، إذا كان قد اعتمد عليها، إلا أنه أعاد بناءها من جديد، وصاغ حولها عمله ونسج من خيوطها عملا روائيا كبيرا. وإذا كان قد أنجز مثل هذا العمل ناجيا مما أسميه " العاطفية " أي التماهي مع الشخوص، وذرف الدموع، والاستسلام للميلودراما التي كانت خطرا محدقا طوال الوقت، فقد أنجز الكثير.ومثلما كانت الفصول المكتوبة عن الطفولة دافئة وشجية علي طريقتها، كانت الفصول المكتوبة عن القمع والحصر والسجن والإذلال عنيفة وحشية. لكل هذا وغيره، تعد "في غرفة العنكبوت " عملا مهما في مسيرة عبد النبي ورحلته مع الكتابة.وأنا شخصيا أنتظر روايته القادمة بشغف.