جراء العدوان الإسرائيلي|الصحة الفلسطينية: 32 شهيدًا و59 مصابًا خلال ال24 ساعة الماضية    الدفاع الياباني: قوات أمريكية تشارك في عملية البحث عن طاقمي مروحتين تحطمتا بالمحيط الهادي    طلاب الجامعة الأمريكية يطالبون الإدارة بوقف التعاون مع شركات داعمة لإسرائيل    روسيا تعلن إسقاط 4 صواريخ أوكرانية فوق مقاطعة بيلجورود    سلوى محمد علي تدير ماستر كلاس سيد رجب بالإسكندرية للفيلم القصير    أسعار الأسمنت اليوم الثلاثاء 23 - 4 - 2024 في الأسواق    سعر الريال السعودي اليوم الثلاثاء 23-4-2024 في بداية التعاملات    وزير خارجية إيران: نأسف لقرار الاتحاد الأوروبي فرض قيود "غير قانونية" على طهران    موعد مباراة الزمالك القادمة والقنوات الناقلة    محافظ شمال سيناء يستقبل وزير الشباب والرياضة    الإسماعيلي: ندفع بأحمد الشيخ تدريجيا لهذا السبب.. ونجهز اللاعبين للأهلي    الثانوية العامة 2024.. تعرف علي مواصفات ورقة امتحان اللغة الأجنبية الثانية    «الأرصاد» تحذر من حالة الطقس اليوم الثلاثاء 23-4-2024 والموجة الحارة لمدة 72 ساعة    حالة الطرق اليوم، زحام مروري بشوارع ومحاور القاهرة والجيزة    بعد قليل.. استكمال محاكمة المتهمين في قضية فساد الري    انخفاضات ملحوظة في أسعار السلع والمنتجات الغذائية في السوق المصرية بعد تدخل حكومي    ندوة بجامعة القاهرة لتشجيع وتوجيه الباحثين لخدمة المجتمع وحل المشكلات من وجهة نظر جغرافية    التهاب الجيوب الأنفية الحاد: أعراض ووقاية    وول ستريت تتعافى وارتفاع داو جونز 200 نقطة وخروج S&P500 من دائرة الخسارة    أزمة لبن الأطفال في مصر.. توفر بدائل وتحركات لتحديد أسعار الأدوية    مُسن يطلق النار على عامل بسوهاج والسبب "مسقى مياه"    مصر تستهدف زيادة إيرادات ضريبة السجائر والتبغ بنحو 10 مليارات جنيه في 2024-2025    بالأرقام.. تفاصيل توزيع مخصصات الأجور في الموازنة الجديدة 2025 (جداول)    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 23-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بدرية طلبة تشارك جمهورها فرحة حناء ابنتها وتعلن موعد زفافها (صور)    نيللي كريم تظهر مع أبطال مسلسل ب100 وش.. وتعلق: «العصابة رجعت»    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الثلاثاء 23 أبريل 2024    مصرع عامل غرقًا بمياه الترعة في سوهاج    لبنان.. شهيد جراء قصف طيران الجيش الإسرائيلي سيارة في محيط بلدة عدلون    مصرع عامل دهسه قطار الصعيد في مزلقان سمالوط بالمنيا    ملتقى القاهرة الأدبي.. هشام أصلان: القاهرة مدينة ملهمة بالرغم من قسوتها    الرئيس البولندي: منفتحون على نشر أسلحة نووية على أراضينا    اتحاد الكرة يوضح حقيقة وقف الدعم المادي لمشروع «فيفا فورورد»    إزالة 14 حالة تعد بمركز ومدينة التل الكبير بمحافظة الإسماعيلية    أستاذ مناعة يحذر من الباراسيتامول: يسبب تراكم السموم.. ويؤثر على عضلة القلب    إجازة كبيرة للموظفين.. عدد أيام عطلة شم النسيم 2024 للقطاعين بعد ترحيل عيد العمال    رئيس الوزراء يهنئ وزير الدفاع بعيد تحرير سيناء سيناء    بشرى سارة لجمهور النادي الأهلي بشأن إصابات الفريق    عاجل.. صفقة كبرى على رادار الأهلي الصيف المقبل    بعد وفاته في تركيا، من هو رجل الدين اليمني عبد المجيد الزنداني؟    بلينكن ينفي "ازدواجية المعايير" في تطبيق القانون الأمريكي    نصائح مهمة لمرضى الجهاز التنفسي والحساسية خلال الطقس اليوم    اتحاد عمال مصر ونظيره التركي يوقعان اتفاقية لدعم العمل النقابي المشترك    الكونجرس يشعر بالخطر.. أسامة كمال: الرهان على الأجيال الجديدة    خلال ساعات العمل.. أطعمة تجعل الجسم أكثر نشاطا وحيوية    علي هامش انعقاد مؤتمر الاتحاد العربي.. 11 دولة عربية في ضيافة النقابة العامة للغزل والنسيج بالقاهرة    «فلسطين توثق المجازر».. فعاليات متعددة في رابع أيام مهرجان أسوان (تعرف عليها)    عامر حسين: الأهلي احتج على مشاركة حارس الاتحاد السكندري    عبدالجليل: دور مدير الكرة في الأهلي ليس الاعتراض على الحكام    الشرطة تداهم أوكار الكيف.. سقوط 85 ديلر مخدرات في الإسكندرية    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 23 أبريل في محافظات مصر    مصرع شخص وإصابة 2 في تصادم 3 تريلات نقل بالوادي الجديد    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



»شامبليون ومصر «.. عناق أبدي سطّره نقش علي الحجر
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 07 - 2016

كانت الحضارة المصرية القديمة السر الأكبر الذي استعصي علي كثير من العلماء المهتمين بتاريخ مصر القديم علي مر العصور بفضل قدرة هذا السر المتمثل في إنتاج حضاري فريد علي تخطي مصاعب الزمن حافظا لأكبر قدر من عظمته ومجده. فكان السعي الدؤوب لسبر أغوار تلك العقلية المصرية الصانعة لهذا المجد حافزا لكثير من العلماء الطامحين لرسم ملامح تاريخ مصر القديم وتجميع شتات لوحته التي هي أشبه بقطع الفسيفساء المتناثر هنا وهناك لعلها تسطر قراءة جديدة واضحة لإعجاب بمصر بات رمزا للإعجاب والفضول.
دامت محاولات اختراق الزمن وإعادة اكتشاف العقلية المصرية سنوات طوالاً، استجدي فيها العلماء الإجابة من كل حدب وصوب، لكنها ظلت محاولات عقيمة لا طائل من جدواها حتي لان "الحجر" مستجيبا لجهود الفرنسي جان فرانسوا شامبليون لتبدأ عملية فض ما استعصي علي العلماء، وتدب حياة جديدة في تاريخ أمة كاد أن يندثر لولا أن تدخل القدر.
وُلِد شامبليون في الثالث والعشرين من ديسمبر عام 1790 في مقاطعة فيجاك الفرنسية لأب يبيع الكتب في مكان صغير خصصه له عمدة المدينة في ذلك الوقت.
لم يتمكّن شامبليون "الصغير" في ذلك الوقت من الالتحاق بمدارس التعليم النظامي لاضطراب الأحوال في أعقاب الثورة الفرنسية، لذا نراه تلقي دروسا خاصة في اللغتين اللاتينية واليونانية، برع فيهما حتي تقول أساطير إنه وهو في التاسعة من عمره استطاع قراءة نصوص وأشعار ومسرحيات كتبها هوميروس .انتقل شامبليون إلي مدينة جرونوبل للالتحاق بالمدرسة الثانوية حيث كان أخوه الأكبر جاك جو يف يعمل باحثا في معهد البحوث الفرنسي، فأصبح في رعايته - وبدأ الأخ الصغير وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره الاهتمام باللغات العربية والكلدانية و السريانية والعبرية.
وهناك تواصل مع المسيو جوزيف فورييه الذي شغل منصب سكرتير البعثة العلمية خلال حملة نابليون بونابرت علي مصر، فكان له الفضل الأول في دفع شامبليون نحو طريق دراسة التاريخ، وتاريخ مصر تحديدا، بما وفره له من مساحة اطلاع علي مجموعته الخاصة من مقتنيات أثرية أثارت فضول "الصغير" وإعجابه في ذات الوقت وقادته نحو الوقوع في غرام مصر وثقافتها وحضارتها .بدأ العد التنازلي نحو مجد شامبليون حينما تحرك بونابرت علي رأس "جيش الشرق" في حملته العسكرية عام 1798 والتي ضمت إلي جانب الأسلحة والمدافع عددا كبيرا من العلماء والفنانين، وعلي الرغم من فشل الحملة عسكريا بعد ثلاث سنوات قضتها في البلاد، إلا أنها أثمرت بطريقة غير مباشرة عن مخزون علمي من الوصف الجغرافي والتاريخي والثقافي لمصر وشعبها، ضمن مشروع موسوعي يعرف ب"وصف مصر"، كما كان من أبرز إنجازات حملة بونابرت اكتشاف الضابط بيير فرانسوا بوشار حجر رشيد في التاسع عشر من يوليو عام 1799 .
يعود نقش حجر رشيد إلي عام 196 قبل الميلاد، وهو مرسوم ملكي صدر في مدينة منف تخليدا للحاكم بطليموس الخامس، كتبه كهنة مصر ليقرأه العامة والخاصة والطبقة الحاكمة، لذا جاء نصه مكتوبا بثلاث لغات أو بمعني أدق ثلاث كتابات:الهيروغليفية، اللغة الرسمية في مصر القديمة، والديموطيقية، الكتابة الشعبية في مصر القديمة، إلي جانب اليونانية القديمة، لغة الطبقة الحاكمة.اضطر الفرنسيون بعد فشل حملتهم بعد تحطم أسطولهم البحري علي يد الإنجليز في موقعة أبي قير بقيادة الأدميرال نيلسون، إلي بذل الغث والسمين في سبيل الحفاظ علي حياتهم علي الأقل في مصر كي يعودوا سالمين إلي بلادهم، لذا سلموا الحجر من بين ما سلموه من آثار اكتشفوها للقوات الإنجليزية. لكن الفرنسيين اشترطوا قبل تسليم الحجر عمل نسخ من نقوشه الموجودة عليه مستخدمين الورق المقوي من خلال دهان الحجر بالحبر والضغط علي ظهر الورق لامتصاص الحبر وطبع الأشكال و الحروف.
وبدأ صراع إنجليزي فرنسي من طراز فريد بعد أن أصبح الحجر بحوزة الإنجليز
وضمن مقتنيات المتحف البريطاني، فيما لا يملك الفرنسيون سوي نسخ ورقية من نقوشه، وبلغ التنافس أشده في سباق مع الزمن، لمن سيكون له سبق حل اللغز و فك شفرة الحجر؟
توصل العالم البريطاني توماس يانج إلي أن اللغة المصرية القديمة "الهيروغليفية" تتكون من دلالات صوتية وليست صورا تشكيلية، كما اكتشف أيضا أن أسماء الملوك والحكام تحمل دلالات خاصة تكتب داخل مستطيلات تعرف باسم "الخرطوش الملكي" داخل النصوص المصرية تمييزا لها عن سائر كتابات النص..وعلي الجانب الفرنسي كان المسيو سلفستر دي ساسي أشهر وأول علماء المصريات الفرنسيين الذين اهتموا بمحاولة فك لغز اللغة المصرية القديمة، وكان أستاذا لشامبليون، لكنه لم يستطع فك رموز الحجر وظل بالنسبة له سرا غامضا غير مفهوم علي الإطلاق .
وجاء دور شامبليون فلم يأخذ نظرية يانج علي محمل الجد، بل دأب علي مخالفة كل ما كان يعتقد فيه معاصروه، بما في ذلك أستاذه دي ساسي، فبعد أن أقر الجميع بأن الهيروغليفية عبارة عن صور رمزية تعبر عن أفكار مجردة، لم يتصور أي منهم علي الإطلاق أن تكون اللغة صوتية منطوقة، وهي نظرية آمن بها شامبليون وسار علي خطي إثباتها، بيقين منه أن هذه الكلمات كانت تتردد علي ألسنة المصريين يوما ما، بل كانت جزءا من حياتهم اليومية .
استفاد شامبليون من معرفته باللغة اليونانية القديمة في مقارنة نصوص الحجر الثلاثة، واستطاع بعد عناء كبير أن يصل إلي قراءة واضحة للنص المدون علي الحجر وترجمته وتقديم أول قراءة بنائية وصوتية في ذات الوقت للغة المصرية القديمة، فتكلم المصريون من جديد بعد صمت دام قرونا، وعادت الحياة للغة المصرية القديمة لتشغل موقعا بارزا بين أبرز التخصصات العلمية في الجامعات وأقسام اللغات والتاريخ في شتي أرجاء العالم. التقط شامبليون طرف الخيط من دراسته للغة القبطية، معتبرا إياها لغة المصريين القدماء الدارجة، أو الأكثر قربا منها علي أرجح التقديرات، ونذكر أنه ذات يوم صادف أن وجد كنيسة قبطية في إحدي ضواحي باريس، كنيسة سان روش، استمع فيها لأول مرة في حياته لقداس باللغة القبطية، أذهله الأمر إلي حد أنه شعر كما لو كان يستمع لأصوات المصريين القدماء من خلال تراتيل هذه اللغة، فقرر دراستها. برهن شامبليون في أغسطس عام 1821 علي وجود قرابة لغوية تجمع بين الخطوط المصرية الثلاثة، الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية ، وأكد أمام أكاديمية النقوش و الآداب أن هذه الخطوط خرجت من مشكاة منظومة واحدة بل ومشتقة من بعضها بعضا، الأول خط مقدس والثاني خط عادي مكتوب باليد والثالث والأخير خط شعبي يستخدمه المصريون في حياتهم اليومية .
كتب شامبليون كل ما توصل إليه من نتائج وأرسلها في خطاب شهير معروف باسم "خطاب إلي مسيو داسييه ، أمين أكاديمية العلوم و الفنون في 27 سبتمبر عام 1822، والذي لم يكشف شامبليون في محتواه سوي عن جزء صغير من اكتشافه، نظرا لأنه كان في حاجة إلي إجراء مراجعة لبعض عمله.
لم يصرح شامبليون بمفتاح اكتشافه سوي بعد عامين من خلال دراسة كتبها بعنوان "موجز منظومة اللغة الهيروغليفية عند المصريين القدماء" وضح فيها تلك المنظومة بعبارة قال فيها : "إنها منظومة مركبة، ويشتمل كل نص بل وكل جملة علي كتابة منقوشة تمثل رمزا ونطقا في آن واحد".
بعد ذلك سافر شامبليون إلي إيطاليا 1824 - 1826 لحاجته الماسة إلي التحقق - من صحة نتائجه، فنجده ذهب إلي متحف تورين بإيطاليا الذي يمتلك مجموعة رائعة من الآثار المصرية القديمة التي اشتراها من برناردينو دروفيتي ، قنصل فرنسا في مصر، وبدأ يطالع النصوص وينسخها ويرصد كل جديد فيها مضيفا إياه إلي معجمه الذي شرع في وضعه عن اللغة المصرية القديمة، كما زار منطقة ليفورنو التي تضم مجموعة ضخمة اشتروها من هنري سالت قنصل انجلترا في مصر.
وفي عام 1827 عين شاملبون أمينا عاما للآثار
المصرية بمتحف اللوفر في باريس، الذي افتتح في نوفمبر 1827 باسم متحف شارل الثامن، وفي تلك الأثناء تقدم لعضوية أكاديمية النقوش والآداب سنة 1828 لكنه لم يقبل بها.
كلل شامبليون نجاحاته الكبيرة بعد أن استطاع ترجمة النص المنقوش علي حجر رشيد بالكامل وقام بنشره عام 1828 ، وهو نفس العام الذي تشكلت فيه بعثة - فرنسية توسكانية بموافقة ملكي فرنسا وتوسكانيا (في شمال إيطاليا) و ضمت 12 عضوا علي رأسهم شامبليون متجهين إلي مصر، ومعه الرسام الشاب عاشق مصر نيستور لوت الذي استطاع رسم نحو 500 لوحة بالألوان المائية خلال تلك الرحلة.
وطأت البعثة أرض مصر في 18 أغسطس عام 1828 ، ونزل شامبليون و أعضاء البعثة الإسكندرية، في رحلة دامت نحو عامين حتي عام 1830 لم يرحب المسيو دروفيتي، قنصل فرنسا، في بداية الأمر بمقدم البعثة فكتب إلي باريس مؤكدا تحفظه الشديد علي زيارة شامبليون مبررا ذلك بعدم مناسبة الوقت للحضور ومقابلة محمد علي، والي مصر، وتقديم طلبات له بعد أن شاركت السفن الفرنسية مؤخرا في تحطيم الأسطول التركي المصري في نافارين، لكن خطاب - دروفيتي لم يثمر عن الغاية من كتابته، كما هدد شامبليون بإبلاغ الصحف الأوروبية في حالة رفض منحه التراخيص اللازمة لإتمام عمله .
استقبل محمد علي شامبليون ومنحه فرمانات وأمده بالحراسة اللازمة والتسهيلات التي مكنت للبعثة حرية العمل دون عوائق. وبعد وصوله إلي مصر كتب شامبليون رسالة إلي شقيقه الأكبر يخبره فيها :
"إنني أتحمل درجة حرارة الجو قدر استطاعتي، يبدو أنني قد ولدت في هذا البلد، فالأجانب يرون ملامحي أشبه بملامح رجل قبطي، إن لون شاربي الأسود الذي نما بشدة يسهم بشكل كبير في جعل وجهي أشبه بالوجوه الشرقية، كما اكتسبت عادات وتقاليد البلد فأصبحت أشرب كثيرا من القهوة وأدخن الأرجيلة ثلاث مرات كل يوم".
دامت رحلة شامبليون في مصر تسعة عشر شهرا اكتشف خلالها خمسين موقعا أثريا، وكتب تفاصيل ونتائج رحلته في ستة مجلدات كبيرة تحمل عنوان "آثار مصر و النوبة". كما أثمرت رحلته عن مجموعة من المؤلفات الأخري منها وهي مخطوط "المذكرات التفسيرية" و "مذكرات عن مصر والنوبة" التي سجل فيها مشاهداته اليومية عند زيارته للآثار المصرية القديمة وتعليقاته التفصيلية والنصوص التاريخية خطوة بخطوة خلال إعادة اكتشاف مصر القديمة .
كما كتب إلي المسيو داسيه يقول: "بالحق أبشرك بأنه لا يوجد ما يستدعي تغييره في (رسالة حول الحروف الأبجدية الهيروغليفية) التي وضعناها، إن هذه الأبجدية سليمة، و تنطبق بنجاح علي الآثار المصرية في زمن الرومان كما في زمن البطالمة، ومن المهم للغاية أنها تنطبق أيضا علي الكتابات المنقوشة في جميع معابد وقصور ومقابر العصور الفرعونية".
وعند عودته من صعيد مصر قابل شامبليون محمد علي الذي طلب منه كتابة مذكرة عن تاريخ الآثار المصرية القديمة، فكان من الطبيعي أن يستجيب شامبليون لمطلب الوالي، مغتنما في الوقت عينه فرصة تقديم مذكرة أخري تبرز أمام الوالي قدر ما شاهده من أعمال تخريب وتعامل همجي سمته الجهل مع الآثار المصرية، واقترح شامبليون في مذكرته تنظيم أعمال الحفائر بغية المحافظة علي تراث مصر من التعديات الجائرة.
كما كتب رسالة لأخيه يقول فيها :"لقد جمعت أعمالا تكفيني العمر كله!"
و حصل شامبليون أخيرا، بعد عودته من مصر إلي باريس، علي عضوية أكاديمية النقوش والآداب في مايو سنة 1830 ، كما عين في منصب أستاذ في "الكوليج دي فرانس 1831، و لم يلق سوي محاضرات معدودة في الكرسي الذي أنشئ خصيصا له، إذ سرعان ما اضطرته ظروف مرضه وتدهور حالته الصحية إلي التوقف عن إلقاء محاضراته إلي الأبد.
وعلي صعيد الحياة الشخصية كان قلب شامبليون نقطة ضعفه دائما، وتسجل سيرة حياته أنه أحب أشخاصا لم يخلص أي منهم له، نجده أحب صداقته مع المسيو فورييه ثم كاد أن يفقد تلك الصداقة الحميمة، وأحب فتاة تدعي يولين هزأت منه في بداية مشواره، كما أحب لويز لكنها تزوجت شخصا آخر.
ماذا عن روزين؟ إنه يعتقد أنه يحبها، وفي هذا الصدد يطرح الكاتب والمؤرخ الفرنسي جان لاكوتور في كتابه الأهم بعنوان "شامبليون حياة من نور سؤالا وهو: هل كانت نية شامبليون في الاقتران بروزين نوعا من حب التغلب علي مقاومة شخص غبي بداخله؟
رفض والدها كلود بلان ، تاجر القفازات، مصاهرته وبات يراوغه خمس سنوات وشامبليون يصر علي طلب الزواج من ابنته روزين التي كانت تراسله سرا طوال هذه المدة، في حين رفض أخوه الأكبر جاك جو يف - أيضا تلك المصاهرة.
لم يكترث شامبليون لرفض والدها وفضل عدم الانصياع لتحذيرات أخيه ومرشده الروحي وتزوج روزين بلان في الثالث من ديسمبر عام 1818 في كاتدرائية جرونوبل، وتغيب عن حضور المراسم أخوه جاك جو يف وجميع - أعضاء أسرته في مقاطعة فيجاك.
أنجب من روزين ابنته الوحيدة زوراييدا ، بعد ستة أعوام تقريبا دون إنجاب، وهنا نضع ترجمة عن الأصل الفرنسي لرسالة أوردها لاكوتور في كتابه كتبها شامبليون لصديقته الإيطالية الشاعرة أنجيليكا بالليي ، التي أحبها من طرف واحد، يكشف فيها ويصف لها قدر تعاسته:
"أخطأت في بحثي عن السعادة مثل كثيرين، وعشت حياتي كلها علي أساس اعتقاد راسخ بأن الإنسانة التي سأرتبط بها لن يمكنها أبدا أن تملأ قلبي. غير أني اضطررت إلي ذلك ربما بسبب مراعاتي الزائدة جدا للأصول... فعندما كنت صغيرا جدا في السن وجعلتني العلاقات العائلية أقابل أناييس (كناية عن زوجته روزين) مرات عديدة، كانت وهي في السادسة عشرة من عمرها تتمتع بالمزايا الخارجية وبعقلية مثقفة انفتحت علي العالم بمنتهي البساطة وعدم الثقة بالنفس الناتجة بالطبع عن تربية تلقتها في مؤسسة تكاد تكون رهبانية علي نحو أثار اهتمامي الشديد بها لعدم خبرتها وسذاجة تصرفاتها كما أني أصبحت محور اهتمامها فتعلقت بي بالقدر الذي أتيح لها...."
وتستمر رسالة شامبليون حتي يصل إلي سطور يقول فيها :
"كنت آمل أن يغير غيابي أفكار ونوايا أناييس تجاهي، وأن تتخلي عن مشروع زواج لم يكن هناك ما يفرضه، ولم يكن يبشر بسعادة أي طرف.
وينفي مضمون الرسالة كما هو واضح ما تردد عن كون زوجته لعبت دورا مهما في حياته، بل تؤكد كلماته أنه كان تعيسا غير راض عن ذلك، ملمحا في ذات الوقت إلي حالة من التسرع في اتخاذ قرار الارتباط. لم تكن صحة شامبليون جيدة طوال حياتي، ودار جدل كبير بشأن أسباب وفاته، كان أهمها مرض السل وهشاشة العظام والنقرس، وعلي الرغم من أن المعاصرين يرفضون اعتبار حالات الإغماء التي كانت تنتابه من حين لآخر (لاسيما يوم "وجدتها" المشهود في 14 ديسمبر 1822) تشخيصا إكلينيكيا لمرض السل، فقد كان مريضا بالسكر، فضلا عن أسباب كثيرة دعت إلي الاعتقاد بأن إقامته في مصر وشربه من ماء النيل كانا من الأسباب الرئيسية لتدهور حالته الصحية والتعجيل بوفاته نتيجة إصابته بعدو طفيلية.
راح شامبليون وهو في ريعان شبابه في الرابع من مارس 1832 وهو في الثانية والأربعين من عمره ،ولم يكن قد تمكن من الانتهاء من كتابه عن "قواعد اللغة المصرية القديمة" ولا معجمه الذي كان يعده، لكن شقيقه الأكبر جاك- جوزيف أتمهما و نشرهما بعد رحيل أخيه الأصغر.
استطاع شامبليون خلال حياته القصيرة أن يخلد اسمه بإنجازه العلمي ضمن قائمة تضم علماء عصره بعد أن كشف اسرار وخبايا الحضارة المصرية القديمة التي ازدهرت آلاف السنين ونطقت من جديد علي يده، واضعا خلال اثنين واربعين عاما فقط قضاها في عالم الأحياء بصمة بارزة سار علي دربها العلماء والمهتمون بتاريخ مصر ليبقي اسمه خالدا إلي الأبد يعانق اسم مصر التي شغفته حبا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.