تمثل الواحات المصرية جزءا أصيلا من الأراضي المصرية الواسعة ، فهي الأرض التي أنجبت الكثير من العلماء والفنانين والشعراء في المجالات كافة ، وارتبط الواحاتي بأرضه وعيونه ، ومن ثم تجلي ذلك في إبداعاته المتنوعة ، وعليه فإن الشاعر الواحاتي لاينفصل عن مجتمعه ، بل هو عضو مشارك ومنتج ، لأفكاره ومعاييره التي يتحرك من خلالها ، بل يكون فاعلا في حركة التغيير التي تطرأ عليه ، مؤثرا فيها ، ومتأثرا بها ،ومن ثم فقد ، اقتربتُ من شعراء الواحات الخارجة بمحافظة الوادي الجديد، واستمعتُ إليهم في أمسيات كثيرة ، سواء في قصر الثقافة بالواحات الخارجة، أو أمسيات الجامعة بكلية الآداب ،فشغلتني نصوصهم ، وطبيعة الكتابة لديهم ، وظهور المكان في مناطق متنوعة من نصوصهم ، حيث الخصوصية وقسوة الحياة وروح المكان القديم الذي تعاقبت عليه الحضارات المصرية القديمة ، فأنتجت هذه الحضارات نصوصا شعرية متماسة مع ماضيها وحاضرها ، أحاول في هذا المقال تقديم مجموعة من الأصوات الشعرية التي أنتجت مجموعة من الدواوين الشعرية في الواحات الخارجة بمحافظة الوادي الجديد ، وهي تنتمي إلي هذه المنطقة من أرض مصر الغالية ، وقد اتكأت هذه الدراسة التي نحن بصددها علي الفن الشعري في الواحات، ومن هؤلاء الشعراء الذين شغلتني دواوينهم الشعرية ومنها ديوان " ينهمل " للشاعر كمال كوكب ، "حتي ثمالة الهوي أقول "للشاعرة انتصار أحمد حسن ، "وعندما تفيض الفصول" للشاعر أحمد المقدم ، لا أكتب الشعر تسلية " للشاعر حسين عبدالمنعم . و »ثلاثيات لي .. ولها « ، للشاعر طه علي محمود ، ونصوص الشاعر ناصر محسب ، ومصطفي معاذ ، ومحمد الصياد ، وأحمد دياب، وطارق فراج من الواحات الداخلة ، وهذه المجموعات الشعرية جاءت متفاوتة من حيث الشكل الفني والمضموني أيضا ، لأنها كانت أكثر انشغالا بروح الذات والحياة في ظل الظروف الراهنة ، حيث تطرح نصوص شعراء الواحات ،علاقة الذات بالمكان وكيف كان للمكان دوره الملحوظ في التكوينات الأولي للذات من حيث الوعي الثقافي والحياتي اليومي ، والتاريخ الخاص بهذه المنطقة في غرب مصر . وتجلي ذلك في معظم الأعمال التي نحن بصدد طرحها الآن في هذه الدراسة . ومن الشعراء الذين احتفوا كثيرا بحضور الذات والآخر في نصوصهم الشاعر أحمد المقدم ، يقول في ديوانه ( عندما تفيض الفصول) : " تفيض الجروح تفيض ... أدفق مثل الغدير علي كتفيك أفيض لماذا تضيق المسافة ما بين حلمي والحقيقة ؟ " تتجلي الذات الشاعرة في المقطع السابق من خلال فيوض الجراحات التي تعيش داخلها الذات ، فيقابل هذا الفيض انغلاق مسافات البراح التي تتمني الذات أن تحلق أحلامها فيها بحثا عن الحقيقة الغائبة / المخنوقة . فيعتمد الشاعر علي تقنية شعرية مهمة وهي تقنية التساؤل الممزوج بحيرة الغياب والبحث عن الحقيقة في مكان صحراوي واسع لا نهاية له ، ومن ثم تصبح الذات مهددة بالنفي والقلق ، وأيضا أظن أن الذات في حيرة متحركة ما بين الوهم والحقيقة ، والحلم والغياب، لتصبح جميع أحلامنا ممزقة أو عبارة عن أشلاء متوهمة ، ليست هي بالحقيقة أو الغياب / الوهم . ويقول الشاعر أحمد المقدم في قصيدة أخري بعنوان :" ما بين بيني ميتٌ " : " ملل ملل الجالسون يحدقون إلي الحقيقة بيننا ملل ملل أنتم جميعا شاخصون إلي عراك الأسئلة والجالسون يحدقون إلي المعذب والنزيف الساخن المروي من وجع الفؤاد علي الضآلة والكلام الممقت المذموم من جهل الدماغ وراحتين يا أيها المتقدمون إلي منصة غايتي إني أحدثكم عن التجريح والتبريح والتسريح والتصريح من لغة إلي نزق معنَّي " يعتمد النص الشعري لدي أحمد المقدم في ديوانه "عندما تفيض الفصول" علي بنيات شعرية متحدة وممتزجة مع الحقيقة الغائبة، والأسئلة التي تلوكها الألسنة ، ولا تجد جوابا ماتعا يرضي قناعات الذات الشاعرة التي تخاطب الواقع الذي لايشعر بضجيجها وصخبها ، ثم تلجأ الذات الشاعرة إلي البوح المباشر في قول الشاعر : " إني أحدثكم عن التجريح والتبريح والتسريح والتصريح من لغة إلي نزق معنَّي " حيث تحاول الذات أن تثير روح الحقيقة في قلوب الآخرين الذين يخشون من مجابهة الواقع ، فيهربون إلي الموت الأبدي ، كما يطرح النص الشعري لدي المقدم بعدا صوفيا خالصا يمتزج هذا البعد بروح المتصوفة الكبار الذين يعايشهم الشاعر نفسه . كما نلاحظ أيضا في ديوان ( ينهمل ) للشاعر كمال كوكب، حيث تبدو المناجاة الصوفية الذاتية الممزوجة بعذابات الحياة وألقها الفوَّاح ، فيقول في قصيدة بعنوان ( هذه البنتُ من أجلي ) : " رخام المحطة ما كان مثل الرخام ولا هذي التي ضاقت كانت الأرض كانت الأسفنج فعلي يساري قطة من الخمر المغني والليل في وئده النصفي من سبأ إلي عشق الفرات . عيناكِ يا واحية العينين معتقل من الفردوس قطتان علي بابي الجبلي " يتكيء الشاعر كمال كوكب في النص الفائت علي اصطياد مجموعة من الرموز الشعرية ، فحديثه عن المحطة التي توميء إلي الرحيل الدائم من مكان إلي مكان ، وحديثه عن الأنثي / البنت / الواحاتية التي تمتلك عيونا تعتقل الفراديس الأرضية داخلها . إن جل هذه الكائنات التي يستدعيها نص كمال كوكب ، ترمز إلي علاقة الذات بها ، وكأن النص جمَّاع ، لوحات ومشاهد شعرية متنوعة علي فضاء الصفحة البيضاء / المكان الشعري الذي تحيا فيه القصيدة . وتبدو روح الشاعر كمال كوكب الطيبة واضحة علي سطح الكلام ، فتأتي لغته صورة من البيئة التي يعيش فيها ، مفتونا بعيون المرأة الواحاتية ، مازجا الإقامة بالرحيل الدائم في صحراء القلب ، متحدثا عن الحياة في الواحات ، وتعطش أهلها للمكان ، وفرارهم من الغربة إليها ، فالواحاتي لا يترك أرضه ولايستقيم العيش إلا في المنطقة التي تربي فيها ، وفهم جغرافيتها . كما ينشغل الشاعر كمال كوكب بتفجير الصورة الشعرية من عيون الواحات ، لأنه مشغول دائما بطبيعة الحياة واصفا عيون الأنثي الواحية بمعتقل من الفردوس ،وقطتان علي بابي الجبلي ، نحن إذن أمام صورتين متضادتين الفردوس / المعتقل ، والقطة والجبل ، ينتج عن هذه الثنائية النصية الضدية مفارقات مشهدية متعددة ، لأنني أظن أن المعتقل يحيلينا إلي معتقل الواحات بما يحمله من إشارات سياسية خاصة ، والفردوس يوميء إلي التراث الإسلامي ، أو التراث العالمي عند جون ملتون في الفردوس المفقود... تبدو الشاعرة انتصار أحمد حسن من الشاعرات اللواتي يمتلكن صوتا شعريا لافتا في الواحات ، لما تقدمه من نصوص شعرية ، تحتفي بقضايا الأنثي في الصحراء / المنفي كما تقول في نصها الفائت ، فيتجلي حديثها كثيرا عن المنفي الواقعي ، ذل الإنسان بحثٌا عن عمل شريف ، أو لقمة العيش لأجل أولاده ، فتبدو هموم الآخر صورة من الصور المشهدية التي تلح عليها الشاعرة ، ومن خلال الحوار الداخلي الذي يبوح به النص الشعري. وتصبح الذات مشغولة بعجزها عن الاستمرار في الحياة . فتنهار أمام الهندسات التاريخية التي لم تقدم لها شيئا أو تحقق طموحاتها ، فأصبح الحزن هو الصديق الوحيد في هذا العالم الصاخب , فجاءت معظم قصائد الديوان مشبعة بأحزان الأنثي ووجعها اللانهائي في عالم لا يشعر بها . وتبدو صور الحياة ممتدة في نصوص الشاعر طارق فراج فيقول في قصيدة البارحة : " حينماخرجتُ من جسدي سالماً رأيتكِ تركضين برداءٍ أسودَ ودمعةٍ أخيرة.. كان الليل ُوقتها علي أتم ّسواده والريحُ خلف كِتنبح" تبدو صورة الذات في النص الفائت القصير الذي يتميز به الشاعر طارق فراج في الواحات الداخلة من النصوص المائزة التي تحاول مخاطبة الذات حيث تخرج وحدها بحثا عن المصير المجهول في الصحراء السوداء التي لا تؤنس أحدا ، بل جاءت صورة الريح النابحة لتشي بمدي اتساع المسافات الحزينة بين الذات الشاعرة والواقع الذي تحلم به أن يتجسد داخل / خارج القصيدة نفسها . كما تبدو صورة البيئة الصحراوية واضحة في المقطع السابق من خلال استدعاء مفرداته التي تشي بنباح الريح خلف الذات الشاعرة واتساع مدي الليل الطويل الأسود ، وانهيار الكائنات داخل رحم الحياة .