في مجموعته الجديدة "معرض الجثث"، الصادرة عن منشورات المتوسط، يؤثر القاص حسن بلاسم في قارئه بالطريقة التي ابتغاها منذ الصفحات الأولي، فهو كاتب محظوظ تقلبت به الدنيا من شرقها إلي غربها ونال قسطا من التجارب الحية لم يتوافر لكثير من كتاب جيله، جملته قصيرة وملتهبة بالمشهدية، وهو أمر يبدو واضحا في ال 29 قطعة التي يحويها الكتاب، ذلك لأنه كاتب سيناريو وأفلام صورت في فنلندا، البلد الذي هاجر إليه في مغامرة بصحبة الموت والجحيم والسوداوية التي لا حد لها في كل النصوص، حتي أن ناشر الكتاب كتب علي ظهره كلمة ينصح فيها القارئ قائلا: ومع أني الناشر لكن أنصحكم أن لا تشترو هذا الكتاب، واذا لم تسمعوا نصيحتي فكونوا حذرين في قراءته، خشية أن يفسد ما تبقي من حياتكم. "معرض الجثث" به قدر مهول من الوحشية والقسوة، لا يليقان إلا بأمة مثل العراق مستحكم فيها القهر إلي حد الاقتتال والحرب والبغضاء الطائفية، وربما يكون معرض الجثث فيه الكثير من تجربة بلاسم الشخصية أثناء رحلته الطويلة مع تسويف المهربين والبحر، فكثير منا نحن العرب لا يتجاوز تصوره لما يحدث في العراق حد ما اعتدنا سماعه ومشاهدته في الميديا من "جلد وتعذيب أو ضرب وتكسير عظام وفلت الكلاب علي الأسري، أو سجون صدام وربما حتي ما تخيلناه في مستعمرات عقاب كافكا"، بلاسم يتكلم في قسوة أخري، وكتابته وثيقة تعيد الهيبة للأدب في قدرته علي فتق الجراح الواقعية بقسوة سحرية، صادمة تتزين بالقبح، ولا تتخلي طيلة كل السطور عن الانسجام مع الشر والهروب من الموت بصحبة الموت ذاته، معرض الجثث يقطع "بأننا في طريقنا إلي الحضيض، لانعدام كامل للخير"، يقول نص القصة الثانية التي تحمل اسم شاحنة برلين:"مثلا لا ينقل الإعلام قصص الكوميديا السوداء، ومثلما لا تصلكم أخبار ما تفعله الجيوش الأوروبية الديمقراطية، حين تمسك ليلا في غابة عملاقة مجموعة من البشر المذعورين والمنقوعين بالمطر والجوع والبرد، شاهدت كيف ضرب جنود بلغار شابا باكستانيا بالمسحاة حتي فقد وعيه، ثم طلبوا منا جميعا أن ننزل في ذاك الزمهرير إلي نهر شبه متجمد. حصل هذا قبل أن يسلمونا إلي الجيش التركي. يقول علي الأفغاني بطل قصة شاحنة برلين : إنهم كانو خمسة وثلاثين شابا عراقيا. شبان حالمون إتفقوا مع مهرب تركي لنقلهم بشاحنة مغلقة لتصدير الفواكه المعلبة من اسطنبول حتي برلين، كان الاتفاق بهذه الصورة، يدفع كل واحدة أربعة آلاف دولار علي رحلة أمدها سبعة أيام فقط، والشاحنة تسير بالليل وتتوقف في النهار عند مدن حدودية صغيرة. وكل من يريد أن يتغوط عليه أن يفعل ذلك في النهار، أما التبول فمسموح به ثناء الليل داخل الشاحنة في قناني الماء الفارغة. ممنوع حمل أي هاتف خلوي علي الجميع أن يلتزم الهدوء، وأن يكتم أنفاسه أثناء التوقف في نقطة حدودية، أو إشارة مرورية، والا يحصل أبدا أي شجار. لكن ما كان يقلق مجموعة شاحنة برلين الحكاية التي نشرتها قبل أيام الصحف التركية، حول مجموعة من الأفغان الذين دفعوا لمهرب إيراني، مبالغ كبيرة لنقلهم في شاحنة إلي اليونان، سارت الشاحنة بهم ليلة بكاملها. وقبل بزوغ الفجر توقفت الشاحنة، وأمرهم المهرب بالنزول بهدوء، وأعلمهم أنهم قد وصلوا إلي مدينة يونانية حدودية. نزل الأفغان وهم يحضنون حقائبهم بأحاسيس هي مزيج من الفرح والخوف، وجلسوا تحت شجرة عملاقة. قال المهرب إنها غابة يونانية صغيرة، وكل ما عليهم الانتظار حتي الصباح، وحين تصل الشرطة اليونانية، عليهم أن يتقدموا فورا بطلب اللجوء. في الصباح نشرت الصحف صور الأفغان الجالسين في حديقة عامة وسط إسطنبول. لقد دارت بهم الشاحنة طوال الليل في شوارع إسطنبول، ولم تخرج حتي إلي ضواحي المدينة. ومثل جميع قصص النصب والاحتيال، اختفي المهرب وشاحنته، وزج بالأفغان في سجن الترحيل". دائما ما تراهن سطور بلاسم علي لحظة ألم ثابتة في وجدان أي قارئ مهما بلغت رفاهيته، وبالحكي والمشهدية المؤلمة التي لاتحتاج في الكثير من الأحيان إلي التهويل والتغلغل إلي التفاصيل، يتجاوز إلي تأثير أكبر، يستعيد فيه الأدب وجاهة التوثيق الموجع والغوص في كل الدمامل والجروح الاجتماعية العميقة بماشرط غاية في القسوة والوضوح دون حسرة أو حياء أو شعور بالألم، الرئحة كلها في معرض الجثث نتنة، وأبناء ذكور كل ليلة يضربون أمهاتهن ضربا مبرحا لصيانة العادات والتقاليد الاجتماعية والطائفية، لا مكان في قصص بلاسم للرومانسية أو المثالية، معظم أبطال قصص "معرض الجثث" حمقي وحالمون حتي وإن بدوا أذكياء وهم يهربون من الحرب إلي الحرية في أوروبا، في قصة جريدة عسكرية التي أهداها إلي شهداء الحرب العراقية الإيرانية "1980-1988"، لمس السرد إحساس الكاتب حين يدون في الحرب وتتنازعه الأحاسيس الإنسانية مع الانتهازية، الحرب في قصصه مكسب المخربين وبيئة نموهم السريع، لذلك اختار معرض الجثث أن يوثق للهروب الذي هو ضد الحرب، الدمار والإبادة في كل قصصه مدخل للهروب وحجة لتبشيع وقائعه، وهو ما قرب له حواس القراء وجعله يكلمهم في فقرات مطولة كمافي مدخل قصة جريدة عسكرية: "سنذهب إلي المقبرة، إلي مشرحة الموتي. نستأذن حراس الماضي. سنخرج الميت عاريا إلي الحديقة العامة. نجلسه علي المصطبة، تحت شمس برتقالية ناضجة. سنحاول تثبيت رأسه. حشرة أو ذبابة تطن حوله، مع أن الذباب يطن علي الأحياء والأموات بقسمة عادلة، سنتوسل إليه أن يعيد علينا الحكاية. لا حاجة لرفسه تحت خصيتيه كي يروي بصدق ونزاهة. فالأموات نزيهون في العادة حتي الأوغاد منهم"... "شكرا عزيزي (الكاتب) علي إبعاد الذبابة من علي أنفي وإتاحة هذه الفرصة المشمسة. أختلف معك فقط في محاولة تخويف القراء مني وأنت تصفني بالوغد. دعهم يحكمون بأنفسم أرجوك، ولا تتحول أنت الآخر إلي كلب مسعور، هنيئا لك الحياة! فقط لا تتدخل في جوهر الحيوان الذي أنت من فصيلته" ثم تبدأ الجثة المستيقظة تكلم القاضي : " سيدي القاضي: قبل عشرة أعوام أي قبل أن أنهي حياتي، كنت أعمل في جريدة عسكرية. أشرف علي الصفحة الثقافية التي كانت تهتم بقصص وقصائد الحرب. وكنت أعيش حياة آمنة. لدي إبنة صغيرة"، "كنت أحصل من عملي في الجريدة علي العديد من المكافآت والهدايا التي تفوق بكثير راتبي الشهري، وبشهادة رئيس تحرير الجريدة أكون أنا العبقري الوحيد الذي تمكن من إحياء الصفحة الثقافية بمخيلة قتالية لا تكل ولاتمل. حتي أنني حصلت علي تكريم ورعاية خاصة من وزير الثقافة نفسه، ووعدني الوزير سراً بالتخلص من رئيس التحرير وتعييني مكانه. لم أكن عبقريا إلي هذا الحد ولا حتي وغدا كما يريد أن يصفني كاتب القصة": " لم أكن رقيبا علي النصوص كما ستتخيل. فالكتاب الجنود كانوا أشدَّ صرامةً وانضباطا من أي رقيب عرفته في حياتي. كانو يدققون في كل كلمة ويفحصون حروفها بعدسات مكبرة، فهم ليسو حمقي إلي هذا الحد ليرسلوا كلمات متباكية أو جملا من العواء والصراخ. في قصة ألف سكين أسرة من زوج وزوجة وابن يجلسون مع أصدقاء قريبين منهم كل ليلة يلعبون لعبة إخفاء السكاكين، من يستطيع أن يتتبع سكينا ويخفيها وهو جالس في الحلقة ويأتي آخر يعيد السكين المختفية: تعود سعاد بصينية الشاي تجلس علي السجادة قرب علاوي وتصب الشاي، وهي توزع ابتسامتها التي كلها مودة، علي الجميع ومرات تغمز إليّ فأرسل لها قبلة في الهواء. فيلتفت إلي جعفر ويقول: عيني طيور الحب...يعني عندنا شغل هسه...من يخلص الاجتماع، شمر الها البوسات علي راحتك. القصاب ينطق بصوته النسائي العجيب: هسه يا جعفر...اللي يسمعك يقول اجتماع حزب سري راح يغيّر الدنيا... هن كم سكين نخفيهن وسعاد ترجعهن وأبوك الله يرحمه... وصار 10 سنين علي هاي الحال. يضحك علاوي ويقول: اني عمري خفيت السكاكين.. بس أريد اخفي بعد وبعد ما أدري ليش... كنا كعائلة واحدة لا نتقاسم مواهبنا في التعامل مع السكاكين فحسب، بل أيضا مشاكلنا وأفراحنا وجهلنا في هذه الحياة. طوال سنوات تقلبت أحوالنا، وعصف بنا اليأس بمختلف أشكاله، أصابتنا الخيبة أكثر من مرة بالسكاكين، وهناك الأمور الأخري للحياة. وكدنا نفترق أكثر من مرة، لكننا كنا مشدودين بغرابة ومتعة مواهبنا عدا صالح القصاب. فالسكاكين كانت سلوتنا ومصدر حيرتنا المثيرة." حسن بلاسم هو كاتب وسينمائي عراقي يقيم في فنلندا ومجموعته القصصية معرض الجثث تضم كتابين هما مجنون ساحة الحرية والمسيح العراقي وقصصا أخري، وقد ترجمت قصصه إلي أكثر من عشرين لغة، وهو أول كاتب عربي يحصل علي جائزة الإندبندنت المرموقة حيث صدرت مجموعته "معرض الجثث" في ترجمة إنجليزية عن دار بنغوين، قبل أن تصدر لاحقاً بالعربية عن منشورات المتوسط.