لا يكشف ليفي عن ضغينة واضحة خلال رحلته الأولي إلي ألمانيا عام 1953، بل علي النقيض، ملأه الحماس لممارسة اللغة الألمانيَّة التي تعلّمها علي نحو بالغ الركاكة في أوشفيتز، وراق له قطع الطرق العريضة برفقة رئيسه ريكو أكاتي علي متن سيارته المازيراتي (التي لا تجاريها إلا بعض السيارات الألمانيَّة). لكن مع زيارته الثانية في يوليو 1954، انتاب ليفي مزاج عدائي؛ فصارح أكاتي برغبته في لقاء نازي سابق وتجشّم عناء إثارة حساسيات التعريف عن نفسه: ليفي، كيف حالك. يتروّي في نطق اللقب اليهودي أولاً، وكان ليفي قد لمح بالفعل نعرة كريهة تحتبئ أسفل السطح المهذّب بمقرّ شركة باير خارج كولونيا، حين انتبه موظّف إلي الشذوذ الكبير في مسألة أن يتكلّم إيطالي الألمانيَّة. آنئذ نفذ ليفي هجمته المضادة: اسمي ليفي، وأنا يهودي، وقد تعلّمت لغتكم في أوشفيتز. اعتذار متعثِّر تبعه صمت. نادراً ما يستطيع ليفي الزّعم أنّه كان في علاقة عمل عاديَّة مع ألمانيا مابعد هتلر. مُجابهة ليفي الأكثر دراميَّة- والتي أطلق عليها لاحقاً ساعة النقاش- وقعت بوقت غداء بمضافة باير في قيصر فيلهلم آللي. جلس إلي طاولة الغداء يلبس قميصًا بكمّين ويجري حواراً بسيطاً حين سأله مدير عن وشم 174517 البائن فوق ساعده. علي الفور أجاب ليفي: تذكار من أوشفيتز. تتذكّر لويزا ابنة أكاتي التي كانت في ألمانيا برفقة أبيها لتحسين لغتها الألمانيَّة، المشهد: كل ما تمكّنا من سماعه جلبة مهذّبة صنعتها شوكات الطعام فوق الأطباق، وقد انحشر عشرة ألمان-جميعهم رجال- داخل مقاعدهم علي نحوٍ مربك. لم يطرح ردّ ليفي الصريح سعيا من جانبه لإستيعاب الألمان بل تلطيخهم بالعار. علي أي حال، مع انتهاء الخمسينات وبداية الستينات، تمكّن ليفي من التعاطي مع الألمان كأفراد، والتفرقة داخل عقله بين الألمان والنازيين. ساعده علي دعم ثقته هذه أحد الألمان علي وجه الخصوص: مترجمه الألماني هانز رايت. كتب رايت لليفي عام 1959: بالنسبة لي، يبدو نشر "أهذا هو الإنسان" داخل ألمانيا بالغ الأهميَّة والضرورة. هكذا انطلق تبادل فريد للرسائل- عشرون ونيف رسالة خلال فترة عشرة أشهر- عرف خلالها ليفي أنّ رايت لم يقاتل فحسب في صفوف المقاومة الإيطاليَّة المناهضة للفاشية، بل انضم كذلك إلي تحالف العدل والحريَّة تماماً مثل ليفي. بل لقد شارك رايت ليفي تاريخ ميلاده: الحادي والثلاثين من يوليو 1919. فضلاً عن ذلك، كان حمو رايت، غير اليهودي، "مثلثًا أحمر" بأوشفيتز أو: سجينًا سياسيًّا. مشغول البال من ممارسة نوع مِن الرقابة علي الترجمة الألمانية لكتابه، عرض ليفي مساعدة رايت بمجموعة من الاستفسارات. كان نزقًا لكن مفيدًا أيضًا. في الفصل الأخير مثلًا، يموت السجين اليهودي المجري سوموجي وهو يغمغم محمومًا الأوامر النازيَّة. كان رايت قد استبدل ما كتبه ليفي: قضي نحبه، إلي: لم يعد له أثر. اعترض ليفي بقوّة: حين كتبت قضي نحبه، كنت أشير إلي سكرات موت سوموجي البطئ الفظيعة، ويشرح: هُنا رجل شديد الانصياع، لم يسمح لنفسه بالموت حين صقضي نحبهش إلا حين قال بلي. مثل هذا الإفراط في الدّقّة كان مفهومًا بالنسبة لرجل كان علي وشك النشر في البلاد التي سعت لإبادته هو وشركائه في الدّين. كان ليفي مضطّرًا للتأكّد أن عمله المترجم يُعبِّر للألمان عن مُراده بالضبط. لكنه كان أقل حظًّا مع بعض ترجماته الأخري؛ إذْ كشفت طبعة أسبانيَّة من "أهذا هو الإنسان"، نُشرت في بيونس آيرس عام 1956، عن نسخة متهرئة من الأصل. وقد اشتكي ليفي بقوله أنّ:Traduttore traditore أو: المترجم خائن. الأسوأ كانت الترجمة الفرنسيَّة التي ظهرت عام 1961، Jétais un homme ؛ إذْ لم تكتف بالعنوان الّذي كاد يقلب مدلول الكتاب، بل امتلأت الترجمة نفسها بالأخطاء. حاول ليفي لكن أخفق في سحب النسخ. الآن لدينا الأعمال الكاملة لبريمو ليفي في طبعة أنيقة في ثلاثة مجلدات. تقريبًا كل كتاب تمّت ترجمته سابقًا إلي الإنجليزيَّة أعيدت ترجمته مرّة أخري، باستثناء "أهذا هو الإنسان"، الّذي نقّح مترجمه الأصلي ستيوارت وولف نسخته الصّادرة عام 1959. يحكي وولف في ختام التّرجمة عن حياته في شقّة قريبة من مسكن ليفي في تورينو خلال خمسينات القرن الماضي، كان وولف آنذاك مؤرِّخًا شابًا في أوكسفورد بزمالة بحثيَّة برعاية هيو تريفور-روبر. كان يقوم في الفترة بين 1958 و1959 بزيارة ليفي مرتين أسبوعيًّا حاملًا أخر صفحات أنجزها من ترجمته، وقد أغوي جمود ملامحه وذخيرته الإنجليزيَّة الرصينة الوله بالأنجلوفونيَّة الّذي لا يُخفيه ليفي. بدوره، علّم وولف تثمين مكانة الكلمات واختيارها بإتقان، من خلال اجتثاث أي التباس أو هفوات من التّرجمة. حين أعار وولف ليفي نسخة من المجلّد الأول من "سيد الخواتم" لجون تولكين، عاد الكتاب إليه باليوم التالي كما هو. يتذكّر وولف: أري الآن أنّ تولكين لابد مثّل كل ما احتقره بريمو، الالتباس المتعمّد والفلسفة الزائفة. دائمًا، كان ليفي يسعي للحفاظ علي إيقاع إنجليزيَّة وولف المشدود الرّائع، وِمن هذا الجهد التعاوني النادر في تاريخ الترجمة الحديثة، نشأت ترجمة مبدعة. تصعب معرفة الطريقة التي حسّن بها وولف ترجمته الأصليَّة. في كلمته الختاميَّة يتكلّم عن صتحسيناتش لكنها في الواقع ليست إلا تحسينات طفيفة. قد يفي مثالان بالغرض. في الفصل الافتتاحي، يكتب ليفي عن قطارات الترحيل الألمانية أثناء انتظارها خارج مودينا في محطّة كاربي: كان ثمّة اثنتا عشرة عربة مُخصصة لستمائة وخمسين رجلاً، في الإصدار الجديد تصير هذه العبارة: كان ثمّة اثنتا عشرة عربة شحن لستمائة وخمسين مِنّا. عربات الشّحن(Vagoni، بإيطاليَّة ليفي) أفضل من عربة، لكن بالكاد. عمومًا، استهدف وولف في هذه النسخة الجديدة لغة إنجليزيَّة أدق وأكثر تكثيفاً. لم يكن الفرار إلي الجبال سهلًا، صارت الآن، لم يكن سهلًا بالنسبة لي أن أختار الجبال. استبدال وولف اختيار بدلًا مِن الفرار كما في الأصل طرح اندفاعًا أعمي بعيدًا عن الألمان إلي الجبال أعالي تورينو، في الحقيقة، كان صنيع ليفي وليد تفكير عميق. في الولاياتالمتحدة، "أهذا هو الإنسان" وتتمته، "الهدنة"، نُشرا تحت العنوان المضلل النجاة في أوشفيتز والبعث- مضلل لأنّ الهدنة عنوان يعمد للتناقض؛ إذ يطرح أنّ انتشال ليفي من أوشفيتز وإعادته إلي إيطاليا كانا محض جملة اعتراضيَّة قلقة قصيرة قبل متاعب المستقبل. في الفصل الأخير، يصف ليفي حلمًا متكررًا يعود فيه إلي معسكرات الإبادة وصلا شيء حقيقي في الخارجش. بتحرير آن جولدشتاين الدؤوبة بقيت العناوين البريطانيَّة. كانت جولدشتاين (مترجمة إلينا فيرانتي وبيير باولو بازوليني، إلي جانب كتّاب إيطاليين آخرين) قد أشرفت علي تسعة مترجمين لإنجاز هذه المجموعة الثقيلة المؤلّفة من ثلاثة آلاف صفحة، وقد ترجمت هي نفسها ثلاثة كُتب من الأربعة عشر كتابًا (الهدنة، الجدول الدّوري، ليليث وقصص أخري) لقد قدّمت إيطاليَّة ليفي المكثّفة المنيعة في إنجليزيَّة مقتصدة راسخة وشفّافة. لقد ظلّت الأعمال الكاملة خمس عشرة عامًا قيد التحضير، مع ذلك فليست كل أعمال ليفي موجودة. أبرز الأعمال التي غابت منتخبات أفضل ما كتب (البحث عن جذور 1982) وهو عمل غير قابل للتصنيف، قاتم في كشفه لجوانب النفس في آن. جاء استبعاد الكتاب علي أرضيَّة أنّ أغلبه ليس من أعمال ليفي، ما يبدو أمرًا مخزيًّا. بين صفحاته مُجتزأ من رواية توماس مان يوسف وأخوته. لِم؟ أثناء اضطهاد هتلر لليهود، نشر مان كتابًا وصف يهودًا بوصفهم الآباء المؤسسين للأخلاق الحديثة. قصيدة الشّاعر الروماني بول سيلان صهذيان الموتش هي الأخري موجودة (أحمل هذه القصيدة بداخلي مثل فيروس، هكذا كاشف ليفي مُحررة كتبه.) الأكثر إشكاليَّة كان تضمين ليفي في هذه المنتخبات ورقة صمواصفاتش بشأن طريقة تحويل طلاء صناعي إلي مقاوم لهجوم الصراصير. تُري هل اقترن النصّ الحشري الجاف في عرضه للحقائق داخل ذهن ليفي بخنفساء كافكا المتلويَّة في التحوّل؟ في مقاله "ترجمة كافكا" الموجود بالمجلّد الثالث، يروي ليفي كيف أنّ ترجمته لرواية المحاكمة عام 1982 تركته أشدّ تورّطًا مِن قدرته علي التخيّل. في الأساس، كان يأمل في تحسين ألمانيته، إلا أنّه لم يصادف إلا الوحشة لدي جوزيف ك. الّذي اعتقل جرّاء جرم ربّما لم يرتكبه. يتساءل ليفي في المقال إذا كان يحمل أي صانجذابش لكافكا، مع ذلك كلّما زاد انغماسه في عمل صفرانز قديس براغش اتسعت رؤيته لمدي التشابه غير المريح بينهما. عاش كافكا حياة عاديَّة كموظف تأمين في براغ، نادرًا ما كان يسافر خارج دياره أو ديار والديه، وقد آمن ليفي أنّه كان محصورًا بشكل مماثل في حياته بوصفه مدير مصنع طلاء ودهانات خارج تورينو. إلي ذلك، فشقيقات كافكا الثلاث لقين حتفهن في غرف غاز النازي- ضحايا نظام هيكلي بيروقراطي شاذ أنذر به شقيقهن قبل ذلك بعقدين في المحاكمة. يُعلِّق ليفي علي إطلالة كافكا الدقيقة هذه علي المستقبل بقوله أنّه لابد امتلك استبصارًا مذهلًا. الأنثروبولوجيان كلود ليفي-شتراوس وماري دوجلاس كانا أيضًا قريبين إلي ليفي، وقد ترجم أعمالهما خلال السبعينات وأوائل الثمانينات لإينودي، ناشر مدينة تورينو. لكن لسوء الحظّ لم تكن لغته الإنجليزيَّة ترقي للغة دوجلاس في الرموز الطبيعيَّة، لذا استدعي الأنثروبولجي الإيطالي البارز فرانشيسكو ريموتّي لمساعدته بالمصطلحات الفنيَّة. من وجهة نظر ريموتّي، كان ليفي نفسه أنثروبولجيًّا من معسكر الموت. وجهة النظر هذه تحمل في طياتها ما هو أكثر من أناقة التعبير؛ فقد رأي ليفي أوشفيتز تجربة معمليَّة عملاقة صممت لمسخ الجانب الإنساني من البشريَّة. بطرقٍ عِدّة، كان ليفي كاتب تأمّل أخلاقي في مدرسة ميشيل دي مونتين، الّذي تنتصب كتاباته بوصفها عجيبة التأمّل الكاشف للطرق التي ينتهجها الإنسان. لقد كانت الكتابة في ذاتها فعلًا أخلاقيًّا بالنسبة لليفي؛ فنثره صالبلوريش (كما تصفه جولدشتاين) أوفي جزئيًّا كترياق لإضطراب اللغة- يديشيَّة، بولنديَّة، فرنسيَّة، مجريَّة- الّذي واجهه في أوشفيتز. الغريب أنّ مقدمة توني موريسون لهذه المجموعة تحمل نكهة صالغموض المتعمّدش الّذي ارتاب منه ليفي كثيرًا. بنبرة أكاديميَّة مهيبة تسبِّح المقدمة بالأعمال الكاملة بوصفها صتتجاوز كونها فرصة طيبة لإعادة تقييم واختبار بلاءات سجل وفيات منهجي معاصر وتاريخي، لتصير تقويضًا بارعًا للقوي الخبيثة.ش تتحدّث موريسون عن الهولكوست، أيضًا، في حين لم يخف ليفي نفوره من المصطلح (يبدو لي غير ملائم، بلاغيًّا، وخاطئًا فوق كل شيء)؛ في اليونانيَّة تعني كلمة هولكوست محرقة الأضاحي للربّ: حتّي بالمعايير البربريَّة في العصور القديمة، هكذا أصرّ ليفي، لم تكن الإبادة الجماعيَّة التي قام بها النازي قربانًا شعائريًّا بالضحايا. بالطبع كان ليفي أكثر من شاهد علي الهمجيَّة المعاصرة؛ إذْ في الكثير من الشَّعر والقصة والمواد الصحافيَّة المترجمة حديثًا، يكتشف المنطقة الحدوديَّة بين العلم والأدب. مذكّراته العلميَّة الرفيعة، الجدول الدّوري، والتي نُشرت في إيطاليا عام 1975، كانت سابقة لعصرها: ففي السنوات الأخيرة فحسب صار العلم، بمصطلحات النشر، رائجًا وجذّابًا. كان ليفي قد سعي قبل ريتشارد داوكينز وستيفن جاي جولد وآخرين بكثير لتيسير وصول العلم للشخص العادي، يحشد الجدول الدّوري مدي فريد من الكتابة، بدءًا من الأدب البوليسي إلي التعليق العلمي المثقّف، ويؤرِّخ غضب وصخب وضجّة واخفاقات (إلي جانب الانتصارات المتفرقة) تجارب ليفي الكيميائيَّة المبكّرة بسنوات الثلاثينات، وترحيله إلي أوشفيتز وتعافيه بعد الحرب ككاتب وكيميائي. رغم مرور أكثر من ربع قرن علي وفاة ليفي عام 1987، إلا أنّ شهرته اتسعت خلال تلك الفترة. مع ذلك فقد تسبب انتحاره ببعض الغضب الأخلاقي في أماكن معينة داخل الولاياتالمتحدة؛ ذلك أنّه بانتحاره -حسبما اعترض كاتب يوميات مجهول في النيويوركر- خدع ليفي قراءه الّذين رأوا في طريقة انتحاره لفته بالغة العنف- حيث ألقي بنفسه في بئر سلّم المبني الّذي عاش فيه في تورينو- علي خلاف رصانته البادية في كتاباته. لكن يبقي المبدأ مألوفًا وإن اتسم بقصر النّظر: أسلوب موت ليفي لا ينتقص بأي حال من أهمية كتاباته. في الأعمال الكاملة يصف ليفي نفسه بطرق مختلفة، بالشجاعة والجبن والنبوّة أو السذاجة، لكنه عادة متزن، وفي الواقع لم يكن متزنًا علي الإطلاق؛ فليفي وكتبه ليسوا شيئًا واحدًا ولا الشيء نفسه. إن بقي شيء، فهو أنّ انتحاره يذكّرنا أنّ حياة الفنان لا تشبه فنّه. كان انتحاره قد نجم عن اكتئاب فاقمته عوامل أخري، من بينها الخوف من فقدان الذّاكرة و، ربّما، إحساس بالذّنب بسبب البقاء حيًّا في أوشفيتز. هذه المجلدات الثلاث التي تظهر بعد عقدين تليا ظهور المجلدين اللذين نشرهما أوبيري في إيطاليا عام 1997 تكرِّس ليفي كأحد أهم كتاب عصرنا. عن ملحق التايمز الأدبي مراجعة لكتاب: الأعمال الكاملة لبريمو ليفي. ترجمة وتحرير: آن جولدشتاين وآخرون. ثلاثة مجلدات. كلاسيكيات بنجوين.