عجوز القطار علي رصيفٍ أخرس، وقفت بلا حراك أنتظر قطارًا آخر غير الذي فاتني، كان الحر ينشر رداءه علي رؤوس تخفّتْ تحت المظلات وأوراق الجرائد أو أشجار لم تسقط أوراقها المُشَرشَفة بعد، كانت الأنداء الحارة علي جبيني قد نبهتني أن ألتمس أحد المقاعد المجاورة التي تعلوها مظلة تمنع بعضًا من هجير الصيف، جلست أتكئ علي يد المقعد ثم هممت بتصفح جريدة كنت قد اشتريتها من البائع الرابض خارج المحطة. - لن تستمر موجة الحر طويلًا قالتها بجانبي بعدما أزاحت خصلاتها المتفجرة البياض عن وجهها الذي بات راكدًا علي ما يبدو منذ فترات طويلة، شعرها المياس يوحي بأن الزمن لم يكن ليجرؤ أن يقترب إلا من لونه فحسب، نظرت إليها علي غير اكتراث ثم ابتسمت سريعًا حتي لا تتمكن من التقاط أول خيط تضع في أوله كلامًا يجهدني ويشغلني عن قطاري القادِم. حاولتُ أن أقومَ من مكاني وبصوتٍ خفيضٍ؛ كي لا أخدش ترقُّبها، همستُ: - الله يعيننا ويعينُك يا أمي ابتسمتْ لي بدورها ولَمْ تُشِحْ نظرَها عن عينِي، عينِي الخَجلي التي تحاشتْ النّظر إليها تمامًا كطفلٍ مذنِب، لا أدري كمْ كان عمرها، ولا أدري إنْ كانت هذه التّجاعيدُ الفادحةُ تُفشي عُمرًا أمْ قهرًا؟ لوّنت الشمسُ العنيدةُ ملامحَها المتألّمة، وابتسامةٌ أكثرُ عِندًا لم تُفارقْ غزارةَ الحكايات في وجهها، حتي إنني لا أعرف ما الذي دفعنِي لأن أنظرَ إلي عينيها المتوهجتين! وكباحثٍ عنْ سطرٍ ضائعٍ، اقتربتُ أكثر، ثم جلستُ بجانبها مرة أخري. علتْ صافراتُ القطارِ المؤذنةٌ بقدومِه، يقتربُ ببطء ليتوقف في محطتِنا."ها قد جاء قطارُنا" هللتْ بمرحٍ و كأنها أصابتْ ورقةَ اليانصيبِ، ردةُ فعلِها كان لها مِن المُبالغة ما أثار حفيظَتي قليلًا؛ فقمت متعللًا باللحاق بالقطار قبل أن يتركني معها. في القطار، بعد دقيقتين ذقتُ فيهما عناءَ اختراقِ الجمع الذي كدّس مدخلَ القطارِ كيومِ حشرٍ لا هوادة فيه، وجدتُ مقعدي أخيرًا، ليس ببعيد من باب الدخول. وضعتُ حقيبتي الخفيفةَ ثم ارتميتُ علي مقعدي كجثةٍ هامدةٍ، ولَولا صافرة القطارِ لأدركني النعاس وغرقتُ فيه، إلا أن الفزع الذي تملّكني علي إثر الصافرةِ، لم يكن بقدرِ ما أحسستُه عندما وجدتُ المرأةَ العجوز تتقدمُ ناحية مقعدي وكأنها تبحثُ عن شيءٍ آخر غير المقاعدِ، وبنظرتها الثاقبة، تلاقت عينانا حتي سرتْ رعدةٌ خفيفةٌ زحفتْ من أسفلِ ظهري إلي أعلي عمودي الفقري، وجلست بجانبي. -أهلًا يا ولدي، آسفة علي تأخيري. قالتْها باطمئنان دون أن تنظر إليّ، ووجدتُني أردُ علي تحيتِها ذاهلًا دون مقاومة..انطلق القطار بسرعة، علي وقع النبضات المتلاحقة التي أصابتْ قلبي. بهدوءٍ يُشبه أنينَها الخفي، أخرجتْ حافظةَ نقودِها التي كانتْ تعجُ بالمال، و بصورٍ قديمة و حديثة مختلفة الأحجام، انتقتْ من وسطها صورة قديمة لطفلة تشع نُورًا، ثمَّ أغلقتْ الحافظةَ بحذرٍ وكأنّها تخافُ علي تحفةٍ فنيةٍ هشةٍ، أعطتني الصورةَ و قالتْ منطلقة في الحديث: - هذه أنا حينما كنت طفلة، أتعلم؟ هذه الطفلة ما زالت بداخلي، ما زالتْ ترقص وتُضَاحِك الصغارَ قبلَ الكبارِ، تجرِي في أزقةِ الشوارعِ، وتُشاكسُ العصافيرَ في أعشاشِها، لم أتخلَ عنها أبدًا، ولكن يبدو أن حبال الوصل بيننا باتتْ تنفصلُ أكثر فأكثر وباتَ بين دفتَي انفصالِها خيطٌ ضئيلٌ، و ستتخلي هي عني عما قريب. عادتْ إليها مسحة الحزن التي عهدتها حينما جلست بجانبها أول مرة، أغمضتْ عينيها وأخذَتْ نفسًا عميقًا منتشيًا، وكأنّ خصلاتِ النّسماتِ الّتي داعبَتْ رئتيها لمْ تشبه الهواءَ العابسَ المشبَع بالدّخان الذي تنفّستُه فملأ صدري. أعطيتُها صورتَها بقلقٍ تفرستْه هي في وجهي.. بعد أن ابتسمت لها ابتسامة واهية. كان صوت الناس قد بدأ بالازدياد، يدخل مباشرة في أذني، أما صوتُها، لسببٍ لا أعرفُه، كانَ يخترقُ صدري، وينسكبُ روعةً وأريجًا علي أنساغِه المُلتفعةِ بأغطيةِ ماضٍ قريب، أسمعُ في همساتها صوت أمي. بدون مقدمات وجدتها تُشهرُ صورةَ لشابةٍ صارخةِ الجمالِ في وجهي يبدُو أنّها تتمايلُ علي أنغامِ موسيقي راقيةٍ كحركاتِ الباليه التي لا أفقه في تموجها شيئاً!! قالتْ: -كنتُ شابةً يافعةً. وتضيفُ: - هناك تعرفتُ عليه، كانتْ عينَاه تُتَابعاني باهتمامٍ، كان يتأملُ حركاتِ جسدِي اللينةِ دون كللٍ، حتي هَبّ من مكانِه واقفًا، ثم بحركتِه الأسطورية المُمتَلئة بالرجولة، جاء إليّ وأمسك بيديّ، و بدون أن أنبس بكلمة واحدة، غصتُ في أعماقِ عينيه اللتين ارتسمتا بشغف عاتٍ، ثم أسلمتُ له نفسي، حتي أخذتْنا رقصتُنا إلي وهنٍ مِن الليلِ. عادتْ إلي صمتِها ببطء، وحين واجهتني تمامًا لاحظتُ ملامحَها المتعبةَ، كان الوجهُ مغضنًا، إلا إنّه كان قدْ زُيِّن ببراعةٍ ووقارٍ، ثم لمحتُ في يدِها الأخري وردًا أحمر، لحظتُها خُيِّل إليّ أنها لديها ما تقوله. - ولكن انتهي كل شئ و أنا ما زلت هنا أنتظر. قالتها بصوت مختنق ثم استطردتْ تقول: هذا ابني.. و أخرجتْ صورةً حديثةً لشابٍ تفوقُ وسامتُه بعضَ المشاهيرِ الذين أراهُم في الأفلامِ العالميةِ، وأردفتْ: - هل تري ذلك الثوب الذي أرتديه؟ لم ألبسْهُ منذ تُوفي عاصم العام الماضي.. - مَنْ عاصم؟ سألتُ بسذاجة.. ردتْ بلطفٍ: ابني.. ابني عاصم. نظرتُ إليها مُستدركًا، طالبًا منها العفو في سري عن تذكيري إياها بما تحاول نسيانَه، قالتْ بلغةٍ أكثر لطفًا بعدما قرأتْ تأنيبي لضميري: - لا تقسُ علي نفسك يا بني، أنا أصلًا لم أنسَه.. فتحتْ فمَها لتُكمل إلا أنها عادت فشدتْ شفتيها إلي بعضهما بإصرارٍ، و امتلأتْ عيناها بالدمعِ فجأة، وحين لم تستطعْ التغلب علي دموعِها، لوَّحَتْ بيدِها المرتعشةِ إلي الصورةِ الملتصقةِ بيدِي، ثم أمسكتْ بيدي تعتصرها بين أصابعها الواهنة.. - أرجوك لا تترُكني يا عاصم. قالتْها ودمعُها يتلاشَي شيئًا فشيئًا، ثم ما لبثتْ أن استبدلتها بضحكةٍ هيستيريةٍ تجلجلُ الأرجاءَ.. انتفضتُ واقفًا، ثم أكملتْ: - لا تتركني ثانية يا عاصم.. راحتْ نظرةٌ داهشةٌ تنسابُ من عينيّ حتي غمرتْ أساريرَ وجهي المتعرقةَ.. - أ.. أ.. أنا لست عاصم. رددتُ ويدي يغمرها الارتعاش. ثم جاء الكمسري الذي انبثق من الأرض، وأمسك بها من ياقة ثوبِها، وراحَ يقولُ: - أنتِ مرة أخري يا عزيزة؟ ألم أقل لك أن ابنك ليس علي هذا القطار؟.. تصرخُ: لا، إنه عاصم. ثم نظرتْ إليّ وهي تستغيثُ قلبي: - قُلْ لهُ أنْ يترُكني يا عاصم، قُلْ لهُ.. و حين لم أجد ما أصرّحُ به عندما أخَذَ الكُمسري يجرّها من ياقتها المتكسّرة، و هي تهتف دون توقف.. استيقظتُ من نومي الذي طمَرَ عينيّ بجناحيه الثقيلين، علي صافرة أخري من القطار..توجدتُ القطار ما زال في مكانه لم يبرحْهُ، وأنا ملتصقٌ بمقعدِي، و هي ما زالتْ تجلسُ في مكانِها خارج القطار علي مقعدِ المحطةِ، تنظرُ بعيدًا عني إلي شيءٍ لم أتبينْهُ في السماءِ. في غاية الوهن أتذكر حين واتتني تلك اللحظة جيدًا، كنت ابن عشرة تحديدًا.. وكنت قد التهمتُ ملامحه كاملةً، بوهن وفزع، حينما سحبتْ يده المتشققة -بحذر- جرار حقيبة والدتي المعلقة علي كتفها، وتشعبت الخواطر إلي شراذم مخيفة. في الصباح، وفي التاسعة تحديدًا، ابتلع الزحام علي طريق القطارات -العاري من التحذيرات وموانع المرور- خلقًا كثيرين، بشرًا مكدسين يمرون بعرض السبيل الوحيدة تجاه الناحية الأخري، القضبان تحمل الأقدام، وحرارة الأنفاس تجابه شمسًا تحدق في شرود.. أتذكر أني كنت أتبعها بإلحاحي كلما توجهتني بنظرها، أقسمتُ حينها أن الأمور ستتحول للأسوأ إن لم أحصل علي أقلام كثيرة بألوان عدة، وأغلفة وجلادات من النوع الفاخر، بغية الزهو والتفاخر لا أكثر. لكن، وفي الفجالة سيصبح هاجسك الوحيد أن تحصل علي ما تستطيع يداك الوصول إليه، وألا يلطمك العطش، وأن تحن عليك بعض المباني الشاهقة بظلٍ كيما تواصل البحث والتنقيب عن اللوازم المكتبية. وتبدأ السيدات بالفصال المرير، الفصال الذي قد لا ينقطع إلا مع هبوط قيمة المستَهلَك إلي النصف، أو حتي إلي حين تبدأ الفترة الدراسية، لا مشكلة في ذلك. وكن يضعن النظارات وينزعنها، ويقلبن بين أيديهن أشياءً قد لا تُشتَري، وأمي تشري البضاعة مبتسمة وراضية بقليل مال. ولما رأتني لا أحتمل الجوع والعطش والزحام، قنعتْ بما تحصلتْ عليه، ولم يعد بمقدوري الإلحاح أكثر، وانتحت ركنًا نتناول فيه عصيرًا معلبًا، ومخبوزًا صنعته بيديها. واستولي مشهد وجهها المتفصد عرقًا، وثغرها يلوك الطعام في غاية الوهن، علي كياني كليًا.. ولكنها ما كادت تنهي القضمة الأولي من قطعتها، حتي أعلنت الشبع؛ وأغلب الظن أنها استبقتها لبقايا جوع قد يجر أذياله علي معدتي ولا يندثر بقطعة واحدة. قفلنا راجعين، وأمي تحمل التعب، وبضعة أكياس بلاستيكية ممتلئة تهتز بخفة بين يديها. وحقيبتها الوحيدة علي كتفها، تحمل حلمها بالوصول وانتهاء اليوم. وفي خضم الأشياء التي تبهت حولنا، علي نفس القضبان التي لا تزال مشتعلة بجدائل الشمس، وفي لحظة فاصلة.. حدث كل شيء. استلمت عيناي مشهد سحبه لجرار الحقيبة المعلقة علي كتفها بخضوع، أصابعه تتشنج وتنقبض، شعر أشعث ونظرة ميتة جافة، ورأسه العالي الذي أناخه التوجس، أراه يلهث، ويراقب الناس، ولكنه نسي أن يراني أنا؛ القصير القامة، الضعيف الحيلة، الذي أراقبه، ولا تعلم بشأنه أمي. كتمت خوفي الصاخب.. لم أهجم عليه ولم أوبخه، لم أجد حتي كلمة تحمل شجبي وإدانتي لما يحدث، فيما كانت مهمته قد قطعت المسافة إلي نصفها، ورآني فجأة. كالملدوغ تراجع، وراح يسحب أنفاسه اللاهبة، بدلًا من الجرار بعيدًا عنها وعني، وحين انتهي العبور المتأزم، لاحظتْ هي اصفرار وجهي المجهد، وخمود الكلمات التي صدئت في الحلق.. وعرفتْ السبب من بضع كلمات وإشارات. قامت بتهدئتي، ووضعت بضع رشفات من الماء علي شفتي، وتوجهت بنظرها إلي حيث كنا فعرفتْه بإشارة مني، وصدري ما زال يعدو تجاه الانفلات. أعرفها جيدًا، فهي لا تترك حقها، لذا أدركت أنها ستركض وراءه، ولو تطلب الأمر سفرها إلي نهاية العالم. وشجاعةً فعلتْ، بعدما تركت الأكياس بجانبي. العجيب في الأمر، ومن تدابير الأقدار، أنه لم يستطع التزحزح هاربًا من كتلة الناس المصمتة حوله، فتصلب كجعران، وراح يبعد الناس عن طريقه، في غاية الوهن؛ لم يكن قويًا إلي الحد الذي يسمح له بالعبور والهروب. وفي ثانية كانت أمامه، وهو أمامها.. لا يفصل بينهما سوي رافد نحيل من الهواء، ينظران إلي بعضهما بلغة لا أفهم رموزها، أحملق بعيني المترقبتين مخافة أن يؤذيها، أقدم قدمًا وأؤخر.. ولكنها توجهت بنظرها تجاه جرار الحقيبة، وفتحته، ثم أخرجت قطعة المخبوز المتبقية وأعطتها له مبتسمة بحنان، الأمر الذي شجعه علي مد يده وتناولها منها. نظر إليها طويلًا كأنه يحدق بالفراغ، حينها قضم، ومضغ الأولي بسرعة ليلحقها بثانية. أكل بنهم حتي شبع.. وتساقطت قطرات اللعاب علي ملابسه الرثة.. وتركها وهو يمشي مطوحًا، بلا كلمة شكر.. وتراجعت نحوي مبتسمة. أتساءل وأزيح عرق الخوف عن جبهتي، أستبين ألغاز ما حدث، وقبل أن تشِتُّ الحيرة بالقلب.. انتصبتْ أمامي فرِحَة، وقالتْ باطمئنان: - أرأيت؟ كان جائعًا فقط. وعدنا بسلام.